المؤتمر القومي العربي وبيت الشعر في المغرب ينعيان المفكر محمد عابد الجابري

نعى المؤتمر القومي العربي بالمغرب وبيت الشعر في المغرب المفكر محمد عابد الجابري الذي توفي صبيحة ثالث ماي الجاري بالدار البيضاء.
فقد نعى أعضاء المؤتمر القومي العربي بالمغرب “أحد أعضائه المؤسسين ووجوهه البارزة, وعلما من أعلام النضال القومي ورمزا من رموز الإبداع الفكري والكلمة الحرة, ومدافعا صلبا عن قضايا الأمة وتحررها ووحدتها, وأحد أهم مفكري العرب المعاصرين, الذي سيحتل مكانة بارزة في ذاكرة الأمة إلى جانب أعلامها الكبار (ابن خلدون وابن رشد والفارابي وابن سينا…)”. وذكر بلاغ للمؤتمر أن “الفقيد الكبير” ظل في كتاباته الصحفية والأكاديمية والفلسفية والفكرية “صوتا مدافعا عن قيم الحرية والكرامة والديموقراطية والعقلانية والعدالة الاجتماعية في مواجهة الفساد والاستبداد, وكان مبدعا شجاعا في طرح أفكاره حول القضايا التي يعتبرها البعض من المحرمات, وقد أدى ثمن نضاله ومواقفه”.

وأضاف أنه “كان مناصرا للوحدة والمقاومة والممانعة في مواجهة التجزئة والمشروع الصهيوني مسكونا في كل ذلك بهاجس رفع تحديات الأمة والذود عن حياضها ومصيرها المشترك ومقاومة المشاريع الاستعمارية التي تستهدف سيادتها وحريتها وخاصة في فلسطين والعراق ولبنان”.
وأكد أنه “كان مهموما بإعادة بناء الفكر العربي للوقوف على مظاهر الخلل في البنى الذهنية التي شكلت الثقافة العربية, حاملا هموم تجديده بحثا عن طريق تستعيد فيه الأمة قدرتها على الفعل الحضاري دون اغتراب في ماضيها أو انسلاخ عن هويتها لتتقمص هوية الآخرين, فكان في مشروعه الفكري المتميز مثال المفكر النهضوي والمصلح الرائد الذي شخص أمراض الأمة واقترح وصفة لعلاجها, وهو ما حقق عليه إجماعا نادرا من مختلف المدارس الفكرية والتيارات الإيديولوجية بالوطن العربي”.
و”كيف لا يتحقق ذلك واقعا, يقول البلاغ, وهو المدافع المستميت عن ضرورة بناء الكتلة التاريخية بين الأطراف والتيارات الأساسية في الأمة كإطار لتوحيد الجهود في مواجهة استراتيجية التشتيت والتمزيق ومن أجل تجاوز حالة الانسداد وتيسير الانتقال نحو الديموقراطية”.
“إن هذا الإجماع الذي يشكل اعترافا بالجميل الذي أسداه هذا المفكر العظيم للأمة, جعل من مشروعه مرجعية فكرية لكل الأمة تستند على خلاصة نصف قرن من البحث والتنقيب قام بها الدكتور الجابري باعتباره أحد العارفين بالتراث الفكري والفلسفي العربي الإسلامي, وأحد الملمين بالفلسفة وعلم الكلام وأصول الدين وقواعد اللغة, مما مكنه من القيام في مشروعه الفكري الرائد بعملية نقدية مزدوجة”.
وأوضح البلاغ أن هذه العملية تقوم “على نقد الفكر الأوروبي في أبعاده الهيمنية والاستعمارية, مستفيدا مما طرحه من مناهج. وعلى إعادة قراءة التراث العربي رافضا توظيفه لخدمة قيم الجمود والانغلاق, مركزا على استخراج معالم وبذور العقلانية داخله, مساهما في إنجاز مشروع نهضوي يتجاوز واقع التخلف والانحطاط الذي تعيشه الأمة (خاصة في رباعيتيه “نقد العقل العربي” و”تفسير القرآن الكريم”)”.
واعتبر أنها “هي المساهمة الفكرية التي بقدر ما نقلت الدكتور الجابري إلى مصاف العالمية, حيث ترجم مشروعه الفكري إلى عشرات اللغات وحصل على العديد من الجوائز, فإنها أنارت الطريق أمام نخب الأمة العربية ومثقفيها لبناء المشروع النهضوي العربي الذي استوى في صيغته الأخيرة قبل فترة”.
وخلص المؤتمر القومي العربي إلى القول إنه “إذ يستحضر الأهمية الكبيرة للإرث المعرفي الذي خلفه الدكتور عابد الجابري للأمة العربية, وسيرته الطاهرة المضمخة بقيم الصدق والنزاهة والاستقامة والتعفف عن تقلد المسؤوليات والمناصب والالتزام بقضايا الأمة وحمل همومها, مما جعله نموذجا للمثقف العضوي الملتزم, ليعاهد الراحل الكبير على الوفاء لنهجه ومشروعه وقيمه”.
ومن جهة أخرى, جاء في بلاغ لبيت الشعر بالمغرب “بمَرارَةٍ قصوى وأسىً عميق, تلقى بيت الشعر في المغرب رحيلَ المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري. قسوَة هذه الفاجعة مِن فداحةِ الخسران الناجم عنها. خسران يَمَس أكثر من حقل معرفي, بحكم موسوعية علم الفقيد”.
وأضاف أن الراحل “جسد, إلى جانب تعدد انشغالاتِه المعرفية, نموذجَ المثقف المنخرطِ في مشروع رَحيب, بإعادة قراءته لِقديم الثقافة العربية الإسلامية وحدِيثها اعتماداً على منجَز الفكر العالمي المعاصر. نَموذج هذا المثقف عزَ في الزمن الراهن, لِمَا يَتَطلبه عِبء المسؤولية, التي تحملها, من صبر وجهدٍ ومكابدة, لأن حياة واحدة لا تَتسع لتحديات الشسوع الزمني والمعرفي للمشروع الذي أوقف حياته عليه”.
وأضاف أن الفقيد “لم يكف, منذ إسهامِه في تأسيس الدرس الفلسفي, عن الحفر في أكثر من واجهة, قبل أن يخص العقل العربي بالتفكيك الذي اتسعت له أربعة كتب, تناولت تكوينَ هذا العقل وبنيَتَه ووجهَيه; السياسي والأخلاقي. كما أشرف على نشْرٍ جديدٍ لِأعمال ابن رشد, مرفقة بمداخلَ ومقدماتٍ تحليليةٍ وشروحٍ مضيئة. سَنَدُهُ في ذلك إرادة معرفية مَكينة, هيأت له النهوضَ بما لا يستقيم إلا بعمل جماعي, يفوق حدودَ الفرد. وها هو قَد قضَى, “وفي نَفسِهِ شيء” من المشروعات الكبرى, على نحو ما هو بين من المسالك التي شقتها الأجزاء الأولى من كتابه عن القرآن الكريم”.
واعتبر أنه “بموتِ المفكر محمد عابد الجابري, يتسلل الصمت إلى إحدى الجهاتِ المنتجة للضوء في الفكر العربي الحديث. صَمت قاسٍ ومربك في آن, لِشسوع ظِله, وخفوتِ تَحَد نادر اقترن بالمشروعات الكبرى. وهو ما لمْ تَعُدْ تُسْعِف الحياة الحديثة, بإيقاع الاستهلاك المتحكم فيها, في إنتاجه. لنا, إذن, أن نُنْصِتَ عميقاً لهذا التحدّي ونَعُدَّه إحدى البذور الخصيبة التي استنبتها الفقيد, وأن نوليها العناية الخليقة بها”.
ولم يتردد بيت الشعر في “الإقرار, من داخل ألم هذه الفاجعة, بأن ضوء مُنجَز الفقيد يشِعُّ, على نحو ما, حتّى في الممارسة الإبداعية للشعراء. ذلك ما يُمكن أن نعثر عليه متى انتبهنا لِما لا يُرى, أي لتلك الخيوط الرفيعة التي تُؤمِّنُ نسيجَها في خفاء. لم يكن نَسَب المفكر محمد عابد الجابري الشعري يَتحدرَ من داخل الشعر, وإنما من الفكر وقضاياه وأسئلتِه. فالموجهات المعرفية التي تحكمت في مشروعاته تتقاطع مع دروب الشعر وآفاقه”.
“يتبدى النسب الشعري من داخل الفكر اعتمادا على إقامةِ الفقيد في السؤال المعرفي, والحفر في الهوية بما يمنَع من انغلاقها, وإعادةِ كتابة الذاكرة الثقافية بوعي حديث, ومحاورةِ الآخر برؤية نقدية, وإرساءِ المسالك المضيئة نحو مستقبل ينتصر للقيم الرفيعة”.

Top