عندما تتأمل في أعمال الفنان التشكيلي المغربي المعاصر مصطفى فقير، تحس وأنك في حضرة مبدع أصيل أدرك مبكرا بأن الفن التصويري تأريخ بصري لروافد الذاكرة الجماعية ولرموزها الحية. تشكل كل لوحة وثيقة مرجعية ولعبة روحية تسرد كل الانطباعات الراسخة في الفكر والإحساس والمخيلة.
يجد المتلقي لروائع هذا المبدع الرائي نفسه حائرا أمام فيض من الوحدات التي تحيل في مدلولها العام على المتخيل الجمعي بعيدا عن كل تقليد تناظري ومحاكاة تقريرية. اللوحة من منظوره متاهة باللون والشكل يتوجب فك ألغازها وتشفير طلاسمها، حيث يستغرق إنجاز اللوحة زمنا طويلا.
آمن مصطفى فقير ( مواليد 1972 بمدينة مراكش) باستقلالية الإبداع التصويري وحريته، متأثرا بقولة إدغار دوغا:«إن ما أسميه «الفن الكبير» هو بكل بساطة، الفن الذي يستوجب أن تعمل فيه جميع طاقات الإنسان، والذي يستوجب أن يكون في آثاره فن الآخرين دون تقليد…». يحلل هذا الفنان الموهوب الألوان إلى عناصر فاتنة ويوظفها بشكل دقيق على مساحات تشكيلية تشمل اللوحة وإطارها في آن واحد، جامعا بين العفوية والعقلانية في التركيبة والإخراج، معتمدا على رموز اصطلاحية تفصح عن موقفه من الطبيعة والأشياء. خارج كل منظور رياضي، يبني هذا الفنان صورة غرائبية تنتقل من حدود الانفعال والتلقي أحادي المعنى إلى المشاركة والفعل، متجاوزا مفهوم اللوحة الكلاسيكية. تنسجم أعماله التشكيلية مع روح المتخيل الشعبي في عالم معقد وقلق، دون السقوط في نزعات العدمية واللاموضوعية. فعلى عكس الفنانين المغامرين الذين انساقوا مع اتجاهات ما بعد الطلائعية، حرص مصطفى الفقير على العودة إلى النظام البصري القديم والتمسك بالجذور، خالقا واقعا جديدا بعمله التشكيلي، حسب تعبير وورنغر. لقد غرف هذا المبدع من سحر المحكي البصري واتخذ من العجائبي ملاذا مشهديا لتأكيد قيمة المتخيل الجماعي والاستغراب الموضوعي.
أعمال مصطفى فقير فضاء لمسرحة الحساسية الانفعالية التي يعبر من خلالها عن دلالة الأشياء الجوهرية الثابتة، مستعملا الأشكال الممتلئة، وفق هندسة ذهنية بليغة وهيكلة بنائية، دون تحطيم الشكل المألوف والواقع. يحلل الفنان موضوعاته الإيحائية ويحاول المتلقي الجمالي تركيبها حسب زاوية مواقفه وقراءاته وتصوراته. يجعل مصطفى فقير من اللون أساسا للشكل والمضمون، وكأن به يعيد دراسة كيمياء النور و إشراقات الألوان في ضوء حركة داخلية، تعطي الانطباع على الزمن القديم، هروبا من «البربرية الجديدة» للتكنولوجيا الحديثة التي تحدث عنها سينسر.
فإذا كان الفنانون المستقبليون قد انتصروا في بياناتهم وأعمالهم لجمال السرعة والتقنية، فإن مصطفى الفقير ينشد جمال الأصيل في الأشياء والكائنات، منطلقا من الوحدات البصرية لواقعه المحيط به، إذ على المتلقي المتذوق أن يبحث عن المعاني الضمنية بالعقل والحدس معا. آلف في تجربته التصويرية بين الانطباع التأثري، والاختزال التشكيلي، والجمال الصافي الموضوعي، وفعل اللون على الحواس و الاستيحاء البلاغي. يتخذ العمل الفني في هذا السياق العام موضع النوتة الموسيقية الترميزية لتحويل المشاهد من عالم القلق إلى عالم الانتشاء والابتهاج.
يقتنع المتأمل لأعمال مصطفى فقير أيما اقتناع بان الفعل التشكيلي يخضع تماما لقول كاندنسكي، مؤسس اتجاه الفارس الأزرق ورائد الفن التجريدي:«لابد من التعبير عن الحاجة الداخلية، حيث يبدو تناغم الألوان والأشكال حصيلة الاحتكاك الفعال مع الروح البشرية».
الحق في الحلم والخيال الخلاق
خارج مدارات اللافن مع الدادائيين وبعيدا عن الرؤية الهذيانية عند دالي الذي دعا إلى هدم أسس الفن والتقاليد عن طريق الهلوسة والبارانويا النقدية، نجد مصطفى فقير ملتزما بأسلوب اعتدالي يحفز المشاهد على التأمل الهادئ لما تتضمنه الصور الفنية من أشكال انزياحية خارج المألوف والمنمط والمعقد، أشكال تزيد من حبنا للحياة وتمنحنا الحق في الحلم والخيال الخلاق، كما تنقذنا من أزمة الانهيار الحضاري الذي تكرسه أشكال العبوديات الجديدة ولعب موتها وعبثها وعدميتها.
استأثرت أعمال مصطفى فقير بمشاهد الطبيعة الثانية الحلمية، فكانت، بالقوة والفعل، عتبة لولوج أعمال المشهد الخفي في حياتنا اليومية بكل قيمه الذاتية والانطباعية، إذ يصبح الشكل الشاذ هو المنظور الحقيقي للعمل الفني ويغدو معه اللون هو «البناء والأداة معا». يذكرنا صنيع مصطفى الفقير بمنجز موريس دوني، زعيم الرمزيين، الذي تخلى عن كل ماهو مادي، وكل ماهو نظري وجبري في عالم الجمال، متخذا موقفا من الطبيعة يقود إلى واقع «يقع خلف المدركات الحسية». بدوره، يفسح مصطفى الفقير المجال للبحث في ماوراء الواقع والحاضر المألوف ويذكرنا بقول موريس دوني:«إن على التصوير أن يوحي دون أن يعرف، فالطبيعة ليست إلا مجرد صدفة» (عفيف البهنسي، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن).
عندما نرصد أعمال مصطفى فقير التعبيرية نستشف الولع الكيميائي بالمادة وتفاعلات اللون، حيث افتتان التجربة التصويرية بمشهدة التركيبات الانزياحية ذات القوة الإبلاغية الصادمة. ألسنا، هاهنا، بصدد تحليق بدون أجنحة في تخوم الذات الباحثة عن جمالية افتراضية للتلاقح والتصادي مع الآخر؟ ألا يحاول الفنان في فصوص مراقيه التشكيلية بلورة علاقة استبطانية مع الكائنات والأشياء بروح مفعمة بقلق السريرة وهواجس الطوية؟
كلما تأملنا الفيض التعبيري والشاعري في حضرة مصطفى فقير ، ندرك جليا غنى الحس الباطني العميق بالموجودات ومدى التعامل الذاتي الجارف مع شطحات الروح ومدارجها. إنه يدرك تماما أن الفن ليس مجرد علاقة محاكاتية وتناظرية مع الواقع، بل هو في الجوهر استبطان الأساسي وتأويله في صيغة أشكال مغايرة ومدارات مشهدية هجينة تتأسس على فلسفة الحوار وتعددية الأصوات استنادا على الإبداع المتخيل الذي يملك بتعبير المفكر ريجيس دوبري قوة تبشيرية نظرا لطابعه الإشاري والبدائي. إن هذا التعامل الخصوصي والمنفرد مع الوسائط التشكيلية الأكثر تعبيرية هو الذي يحرر نموذجه البصري من كل سهولة مبتسرة ووساطة خادعة للسنائد والحوامل التقليدية. فلا سلطة إلا للمادة التشكيلية ولا فتنة إلا للمنزع التعبيري النابض بالحياة والحرية. وظف مصطفى فقير في لغته التصويرية سجلات متعددة من الموتيفات والرموز المرجعية، خالقا توازيا عجائبيا بين الواقع المرئي ومتخيله الإيحائي في حركية انسيابية تعز عن الوصف. كل قراءة بصرية لأعمال هذا المبدع المتمرد الذي يحلق خارج السرب هي نشاط تأويلي لسيرورة المعاني المضمرة وراء الأشكال والتداعيات التعبيرية غير المطمئنة ( الإفصاح والاستبطان، التواصل والمناجاة).
صور مجازية تنتج المعنى والأثر
نحن بصدد منعطف جديد على مستوى الإدراك الجمالي، فالفن، هاهنا، ليس تكرارا للماضي أو محاكاة حرفية للواقع. إنه رمز وأثر وعلامة على الذاكرة الفردية والجماعية، حيث يظل الرهان النوعي هو تقديم لغة بصرية لا تحنط الماضي ولا تجعل منه تحفة ميتة. يولي مصطفى فقير اهتماما خاصا لملكة الخيال في زمن السرعة الآلية، ذلك أن الإبداع من منظوره الخاص تعبير رمزي حر عما اختمر في العقل والوجدان، بأسلوب جريء وتلقائي يختزل عناصره الجوهرية المنسابة.
فإذا كان الشاعر مارينتي قد نادى في بيانه المستقبلي بموت الزمن وموت المدى ومجد الحرب، فإن مصطفى فقير يعيد إحياء الزمن بكل مداه ويمجد السلم كظاهرة صحية وحيدة للعالم. يرسم هذا الفنان الشاب بعين الأثري والمحافظ على الذاكرة لا بعين المتمرد العدمي والمرشد السياحي المرتزق: فالتراث بالنسبة إليه ليس مقبرة أو متحفا للموتى، بل هو ذاكرة حية متجددة في الحاضر والمستقبل. إننا لا ننتحر ولا نموت على أعتاب الذاكرة، بقدر ما نستشعر الحياة وهي تمارس طقس الانبعاث على طريقة طائر الفينق الذي ينهض من رماده.هذا هو الدرس الجمالي الذي نستخلصه من أعمال مصطفى فقير ، إنسانا متبصرا ومبدعا خلاقا.بدل أن يحمل معولا ومطرقة لهدم معالم التراث الشعبي والذاكرة الجماعية، تجده وفيا لرعاية الأحلام الغابرة وتأويلها من جديد في أعماله الصباغية دون ادعاء مقولة:«إننا لسنا إلا خلاصة وامتدادا لأجدادنا».
في حضرة أعمال مصطفى فقير، لا مكان لأي تمرد أو موقف نقدي أو رد فعل… اللوحة بيان بصري مسالم يفتح آفاقا رحبة للحلم نحو عوالم دينامية أكثر غرائبية وعجائبية. كل مشهد بمثابة لوحة مستقلة مثيرة للدهشة، لأنها مستوحاة من الخيال بكل تداعياته وهواجسه التعبيرية… تعلن كل تركيبة لونية بوصفها صيغة شاعرية وشذرية عن الحياة الصغيرة والحتمية لعبقرية الفن المستقل والغريب والحر. يرسم حاجته المتزايدة للمعنى والمجاز، بناء على حركية شاملة تتماهى مع بساطة الإحساس العميق الذي يجعل الفنان ينير جذبات شخوصه وأحوالهم دون أدنى استنساخ أو تقليد. الغريب في تجربة مصطفى فقير ، هو هذا الحرص الكبير على جعل المشاهد في قلب اللوحة/المتاهة. ينظر هذا المبدع إلى الإنسان بتراثه المادي والرمزي كمركز شامل للحياة، منطلقا من الطبيعة باعتبارها متحفا حيا وفضاء تصويريا خالصا يمجد النزعة الفطرية التي نجد تجلياتها في الشعر الحر والموسيقى البوليفونية.
هكذا، يصوغ موسيقى متعددة الأصوات عن طريق تصوير متعدد البؤر المشهدية، مقدما واقعا مغايرا في الحياة والإبداع معا: واقع يعتلي عرش أحلامنا المفقودة (عفوا المجهضة) حتى الجنون المعقلن. إن مصطفى فقير من الأصوات الجديدة في معبد «الأصالة المعاصرة» التي رفعت شعار «الإبداع من أجل الإبداع لا ضده» وفتحت الباب على مصراعيه لعلم المعاني اللامرئية. يرغب هذا الفنان في أن توجد العين الرائية في الحالة الفطرية لا المتوحشة أو القبلية كما يدعي البعض، فهو يمارس سحرا بصريا لا يكرس أي تمييز بين الجزء والكل والصورة والشيء والذات والموضوع. لقد آمن مصطفى فقير بقول ريجيس دوبري:«الصورة أكثر عدوى وأكثر وباء من الكتابة». فالصورة من منظوره الجمالي تذكير وانفعال في الآن نفسه، فهي تحيي بسلطتها الرمزية الروح وتنعش الذاكرة وتنتج المعنى والأثر.
بقلم: عبد الله الشيخ
(ناقد فني)