“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…
رفاعة الطهطاوي… رائد الفكر التنويري وإمام النهضة
البُستاني الذي نشر بذور المدنية والحداثة في قلب المجتمع التقليدي
“…لقد جاءت الحملة الفرنسية إلى الشرق بأكثر من مائة الف جندي ولم يبق منها سوى الأثر الثقافي والحضاري، أما الجانب العسكري لتلك الحملة فقد ذهب مع جيوش نابليون عندما انسحبت ذات ليل في العام الأول من القرن التاسع عشر، لم يبق سوى المَطبعة وأصداء اكتشاف شامبليون لحجر الرشيد على الحضارة العالمية، وازدهرت في الأرض الحرّية والإخاء والمُساواة وانعقد البرلمان المصري بعد عقود قليلة منذ زمن الحملة، وطرحت أفكار للعدل الاجتماعي والمساواة السياسية وتمت الدعوة لتحرير المرأة من أسر الحجاب بتعليمها وتثقيفها ودعوتها إلى الإقبال على العمل”، هكذا يروي فوزي النجار الأحداث التي رافقت ولادة رفاعة الطهطاوي في كتابه الشيّق والمُمتع “رفاعة الطهطاوي رائد فكر وإمام نهضة”.
العلمانية.. المسخ العقلاني القبيح
ويضيف فوزي النجار في وصفه لتلك الفترة بالقول “….كانت تجربة الالتقاء الحضاري الشامل بين المُجتمع العربي والإسلامي والحضارة الأوروبية بدايات القرن التاسع عشر قد خلّفت العديد من الآثار التي لا تزال الأمة تتجرّع مراراتها بعد أن صبغت وجهة العالم الإسلامي وحدّدت مساره الفكري والنفسي والقيمي لفترة طويلة، وأفرزت عند الأمة هذا المَسخ العقلاني القبيح المُسمى بالعلمانية الذي تسلّل إلى حياة المُسلمين واحتل جانباً كبيراً في عقولهم وقلوبهم من حيث لا يعلمون، ولولا رحمة الله بهذه الأمة والصحوة الراشدة التي صحّحت مَسارها لبقيت على شفا الهلاك وغرقت حتما في مستنقع العلمانية النتن، لقد ألقيت تلك البذور بقوة في الأرض العربية وما كان لها أن تنمو وتُزهر وتحمل ثماراً بغير إرادة حقيقية على حب الوطن والارتباط بالحياة وإلحاق الشرق بركب الحضارة الحديثة، وشاءت الأقدار أن يقيض الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة ذلك البستاني النبيل الذي أخذ بحب ودأب يغرس الأرض ببذور المدنية والتحديث فطرحت الأرض خيرها، فبقي حريصا على تعليم وتربية أجيال جديدة أنبثتهم هذه الأرض برغم ما واجهه من النفي والصعاب مثله مثل البستاني الذي يرعى الأرض برغم ما تدمي الحصى والعثرات قدميه…”.
رائد التنوير والتغريب
ففي أتون المُواجهات العَسكرية العنيفة بين الشعب المصري المُسلم في صعيد البلاد وبين قوات الحملة الفرنسية النابليونية 1801 ولد رفاعة رافع الطهطاوي بمدينة طهطها بمحافظة المنية المصرية ليصبح بين عشية وضحاها رائدا للتنوير وبوقاً من أبواق هجمات التغريب والانبهار بالحضارة الغربية، وبذلك يكون رفاعة قد استقبل الحياة في حين استقبلت مصر دوراً عظيم الشأن بعد أن رأت لأول مرة صوراً من اوروبا وحضارتها وقوتها العسكرية والعلمية وأسلوب حياتها وطرائق نظمها، رأتها غازية فاتحة وأسلوبا مُجددا في حياة المصريين ومفيدا لكثير من قواعد حياتهم، رأتها بعد ذلك مُحاربة تنتصر وتنهزم، وتشتد وتلين حتى جمعت متاعها ولملمت سلاحها وعتادها ورحلت عن أرض الكنانة مُهزومة عسكرياً، مُنتصرة حضاريا، إذ أنها بذرت من البذور ما بقي في تربة مصر أجيالا عدة.
أجيال العلم والمعرفة
كان رفاعة الطهطاوي حينها من طلائع هذه الأجيال التي بحثت عن العلم والمعرفة، ففي السادسة عشرة من عمره (1817) ركب النيل إلى القاهرة في رحلة شاقة استغرقت أسبوعين ليلتحق بالأزهر الشريف التي ظهرت عليه فيه إمارات النجابة التي أعانته على إتمام تحصيل العلم في زمن قياسي، فتخرج من الأزهر بعد ست سنوات (1823) وانتقل من موقع الطالب إلى مكان المُدرس في نفس المعهد العتيد بعد أن تتلمذ الطهطاوي في الأزهر على يد شيوخ أجلّاء كالشيخ الفضالي وحسن القويسني والدمنهوري وغيرهم قبل أن يصبح واحدا من هؤلاء الشيوخ، لكن أبرز شيوخه وأكثرهم تأثيراً على فكره وعقله كان هو الشيخ حسن العطار (1766/1835) الذي أوصله بالعلم إلى كرسي مَشيخة الأزهر وأوصلته استنارته إلى إدراك ما في الحضارة الأوروبية المُقبلة مع علماء الحملة الفرنسية من أسباب للقوة العلمية تتطلب من الأمة أن تنهض وترقى سالكة سبيل التغيير واليقظة والتجديد.
الرحلة إلى فرنسا
كان للشيخ العطار عند الطهطاوي مكانة خاصة والعكس صحيح، فاستمرت هذه التلمذة الفكرية حتى بعد أن أصبح الطهطاوي واحدا من شيوخ الأزهر الشريف، إذ كانا يشتركان في مُطالعة الكتب الغربية التي تتداولها أيدي غالبية شيوخ الأزهر، وفي هذا يقول فوزي النجار “…. رعى حسن العطّار تلميذه وهو طالب في الأزهر وحبّب إليه الأدب والقراءة في مُختلف الفنون وتحدّث إليه في شؤون الوطن وفيما آل إليه الإسلام فأخرجه من نطاق التقليديين إلى فريق المُجددين، بل أن العطار نجح في إقناع محمد باشا والي مصر بتعيين رفاعة الطهطاوي إماما في الجيش، ولما قرّر الوالي أيضا أن يوفد عددا من شباب مصر إلى باريس عام 1826 عاد حسن العطار فزين لمحمد علي أن يجعل لهؤلاء المبعوثين إماماً يُبصّرهم في باريس بأمور دينهم وأن يكون رفاعة الطهطاوي هو ذلك الإمام، فأقبل على دراسة العلوم المُقرّرة على طلاب البعثة بأكثر ممّا أقبل طلاب البعثة نفسها، وبدأ بإتقان اللغة الفرنسية وبها قرأ التاريخ والجغرافيا والأدب ولفت بهذا الاجتهاد نظر رئيس البعثة الفرنسي الذي أحبه وشجعه وسعى إلى تحويله مُترجماً ينقل إلى العربية ما تحتاج إليه القوة الجديدة الناشئة (قوة الجيش) من علوم عسكرية وهندسية وطبيعية وكيمياء، حتى وصل الأمر باجتهاده إلى دراسة جلّ العلوم إلى جانب الفلسفة الاجتماع والسياسة…”.
الإبريز في تلخيص باريز
ويستطرد فوزي النجار “…..ما أن وصل الطهطاوي إلى فرنسا حتى تتلمذ على يد علماء أفذاذ منهم جومار وسلفستر دي ساس وكوسان دي برسفال، يقرأ للأعلام البارزين (مونتسيكو وجان جاك روسو)، يُترجم النصوص والكتب والمقالات التي بلغت العشرات قبل عودته إلى مصر 1831 حاملاً لكتابه الشهير والفذ “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” في صورة بحث اجتاز به الامتحان النهائي الذي عقد في التاسع عشر من أكتوبر 1930، وهو الكتاب الذي أراد به (كما قال أحد أساتذته) أن يُوقظ أهل الإسلام ويُدخل عندهم الرغبة في المَعارف المُفيدة، ويُولّد عندهم مَحبة تعلم التمدّن الإفرنجي والترقّي في صنائع المَعاش، أما هو فقد سأل الله سبحانه وتعالى في مقدمة كتابه أن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم، إنه سميع مجيب وقاصده لا يخيب…”.
الدور الإصلاحي والريادي
عاد الطهطاوي إلى مصر وقد امتلأت نفسه بالأفكار واحتدمت فيها الأحلام بوطن حديث متطور بعد أن جاشت بآمال التجديد والتطوير بلا اندفاع ولا طيش حاملا لتلخيص باريز الذي أمر محمد علي باشا سريعا بنسخه وترجمته وتوزيعه على الأعيان والوجوه ومطالعته في المدارس المصرية حتى أصبح بداية الريادة لذلك الجهد الفكري العملاق الذي أيقظ به الطهطاوي الأمة ونقلها من العصور المظلمة إلى عتبات عصرها الحديث، مُتجها في ذلك إلى تثبيت قناعاته الكامنة في ضرورة التقريب بين الأحوال الإسلامية والغربية خاصة فيما يتعلق بفكرة التشريع التي يقول عنها في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” “.. من زاول علم أصول الفقه وفَقِه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي الأمم المُتمدّنة إليها (الأوروبيين) وجعلها أساسا لوضع قوانين تمدّنهم وأحكامهم قلّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية..”، مُقدماً إلى العالم الإسلامي مفهوم الوطنية من وجهة النظر الأوروبية حيث يقول: “… ما يَتمسك به أهل الإسلام من مَحبة الدين والولوع بحمايته ممّا يُفضَلون به عن سائر الأمم في القوة والمَنعة يسمونه (أي الأوروبيون) محبة الوطن..”، هادفا من كل هذا وذاك إلى وضع الأفكار النظرية مَوضع التنفيذ في إطار إنتاجه الفكري بشكل يُمهد لوضع خطة اجتماعية عملية في التشريع والتعليم والسلوكات حتى حظي بذلك على ثقة كل من محمد علي باشا وأولاده من بعده، لدرجة أن الخديوي إسماعيل طلب منه ذات يوم إقناع شيوخ وعلماء الأزهر لقبول التشريع الأوروبي الوضعي رغم أن مثل هذا الطلب لم يتحقق ولم ينفذ بسبب تخوف الطهطاوي من تعرضه للتكفير من طرف شيوخ الأزهر الشريف الذي بقي فيه لسنوات عدة قبل أن ينطوي وينزوي لرئاسة تحرير جريدة الوقائع المصرية حتى وفاته في العام 1873.
معالم لا تنسى
ويخلص النجار في كتابه بالقول “…كان هناك حالة من الاتفاق لدى مؤرخي الثقافة والسياسة العرب على أن الطهطاوي بكتابيه الرائعين “تخليص الابريز في تلخيص باريز” و”مناهج الألباب” قد عدّ رائدا من رواد الفكر السياسي والاجتماعي نظير علمه الواسع ومطالعته الوتيرة على الأفكار الجديدة والاتجاهات غير المَسبوقة وتحديثه لأساليب الحياة التي تخرج بين الفينة والأخرى عن قيد العادات والتقاليد، بقي مُلتزما في جلّ مؤلفاته (البالغة 26 كتاباً) مَنهجاً واضحاً يقوم على مخالطة الأوروبيين والتفاعل مع حضارتهم والاقتداء بهم فيما لا يُخالف القيم والثوابت والشريعة والدين مُقسّماً للبشر تقسيماً لا يقوم على معايير الكفر والإيمان بقدر ما يقوم على معايير التحضر والخشونة التي كان في إطار تحضير مؤلف خاص بشأنها قبل أن يسارع أجله ويحول دون إكمال مشواره الطموح لنهضة الوطن والأمة، فحان رحيله ليختار مقعدا إلى جوار ربه يوم الثلاثاء السابع والعشرين من مايو 1873 عن عمر تجاوز الاثنين والسبعين عاما حقق فيها لمصر خاصة، والعروبة والإسلام عامة، فتوحات مُبينة في ميادين الفكر والعلم جعلت منه الرائد العملاق في التنوير والتغريب وإمام النهضة الذي حصد بذورها بعد أن رعاها كبستاني طيلة اثنين وسبعين عاما مضت.
> إعداد: معادي أسعد صوالحة
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب