مبدعون مازالوا بيننا -الحلقة (10)-

 تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

شعيبية طلال.. طفولة أحلام وأحلام طفولة

  تطالعنا الرسامة الراحلة الشعيبية طلال (1929 – 2004) كظاهرة التشكيل بالمغرب، فقد أقامت أول معرض لها عام 1966 بمعهد غوته الألماني بالدار البيضاء. ظلت طيلة حياتها الإبداعية تتمتع بشهرة دولية واسعة خصوصا بعاصمة الفن والجمال باريس، مخلفة وراءها عددا هائلا من اللوحات الصباغية والجوائز الدولية والاستحقاقات، أبرزها التكريم الذي حظيت به قبل سنوات من طرف المؤسسة الأكاديمية للتربية والتشجيع بباريس، بوصفها رافدا من روافد الإبداع المغربي المعاصر، وذلك خلال 04 ماي 2003 بفضاء “عبر القارات” بباريس ضمن حفل بهيج تميز بالرئاسة الفعلية للرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.

     هذه المرأة بقدر ما ظلت تحكي من خلال لوحاتها عن ذاتها وطفولتها وإحساسها بالحياة والوجود، فهي تعكس حياة الكثيرين من الذين يشبهونها في التفاصيل الصغيرة، فكم تكتب باللون جزءا من تاريخ وذاكرة الناس وتمنحهم الحق في الحلم، وكأنها – في ما يبدو- ترسم سيرة غيرية بمعنى من المعاني. يذكرنا هذا بالشجرة التي كتبت حولها قصيدة شعرية نقلها إلى الفرنسية الكاتب مارك دو غوبلان، هذا مطلعها: “عندما تمنح الأرض حبة زرع. عندما تصير الحبة شجرة. الشجرة تنمو. وعندما تكبر الشجرة. تتمدد جذورها في الأرض”. هذه هي صورة الشعيبية/ صورة أية فنانة مكابرة: شجرة تمنح الحياة والفرح.

     إن تجربة الشعيبية، بلا ريب، مفعمة بالحنين واللوعة، لذلك تحكي عن طفولة أحلام وأحلام طفولة مبددة، وعن كهولة يعتريها نوع من الحنين والشجن، وتبوح بألوان احتفالية هادئة ولكنها كاشفة. كم هو ضروري أن ينتسب الفنان إلى من هم في حاجة لمن يفصح عن أحوالهم. أصرت على أن تحتفي بوطنها عبر بلاغة اللون الأصفر، لون النور والحياة غير قابل للطمس والتعتيم. كانت الشعيبية في كل حواراتها تصرح بأن الأصفر يمثل القمح وحصاد السنين. فقد كانت تحب الزهور الصفراء والزرقاء والخبازية. فهي ألوانها التي طالما سكنت روحها وكيانها شأنها في ذلك شأن كل الفنانين الصادقين مثلها.

     حول مسار الشعيبية طلال الممتد من عام 1961 إلى عتبة عام 2004، يقول نجلها الراحل الفنان التشكيلي الحسين طلال الذي خلصها من جحيم الموت الرمزي والمتاهة، وجرح الأمية والجحود: “إن سر الشعيبية يكمن في العمل الجاد. فنانة اشتغلت كثيرا طيلة حياتها، في بيتها استقبلت عددا وافرا من الشخصيات الاعتبارية. بالنسبة إليها الصدق هو مفتاح الإبداع وجوهره العام. تتجلى شخصية الشعيبية في الخطوط والتركيبات. كل لون يكشف عن صورتها الفنية. علينا أن نعترف بأن الشعيبية قد أفضت بالتصوير المغربي إلى مستوى الكونية عن طريق ألوانها، وملابسها واستيهاماتها وبوهيميتها. ألهمت العديد من الفنانين المغاربة والأجانب”.

     يذكر الحسين طلال دوما بقول والدته الراحلة الشعيبية: “لوحتي دائما حية على الجدار، فهي تثير شعور الفرح والبهجة في نفوس وقلوب ناظريها”. صرحت  للكاتبة السوسيولوجية فاطمة المرنيسي: “ألح على التعليم لأن الأمية جرح. ينبغي إعداد مغرب لن تكون فيه أي امرأة جريحة، فحتى عندما تلاقي النجاج، فإن هذا الجرح لا يندمل أبدا”. كانت مثال المرأة المناضلة والمكافحة بعفة وكرامة. تقول في هذا الصدد: “أنا لا أحب النساء الضعيفات وغير الراضيات. رسوماتي توجه إلى النساء القويات ذوات إرادة صلبة وقوية ومحبات للحياة رغم كل صعوباتها”.

     لقد وصفها الناقد الفرنسي لويس مارسيل (مؤسس المتحف المنطلقl’Art en Marche) بأسطورة المغرب الحي ذات قدمين على الأرض وهامة مرفوعة إلى السماء، واعتبرتها الناقدة ومؤرخة الفن أوزير غلاسيي “مهبولة اشتوكة، بركة المغرب ونعمته”. قال في حقها الشاعر والناقد الفرنسي أندري لود: “إنها تحتفي بألوان المغرب”. كم تمنى الناقد الفرنسي جورج بوداي (المندوب العام للبينالي الدولي للفنون بباريس ونائب رئيس الجمعية الدولية لنقاد الفن) عام 1978 أن يكبر عدد فناني المغرب وأن يرتقوا إلى قيمة الشعيبية.

تتويجا لمسارها الفني، صنفت الشعيبية ضمن رواد حركة كوبرا أمثال آبل، وألشنسكي، وكورناي وكونستون.. كما حصلت على الدكتوراه الثقافية في الفنون الجميلة من الجامعة الدولية«Round Table»  عام 1988، وانتخبت عضوا بالمجلس الوطني للبرلمان العالمي للأمن والسلام مع جواز دبلوماسي عام 1989 كما بادرت دار الثقافة ببرلين عام 2008 إلى عرض لوحة للشعيبية إلى جانب لوحة الفنان العالمي والمهندس المعماري الشهير لو كوربوزييه. في عام 2003، حصلت على الميدالية الذهبية بمؤسسة الأكاديمية الفرنسية “فنون، علوم وآداب”، وأخيرا خصت موسوعة فن شمال إفريقيا التي أعدتها المؤرخة أوزير غلاسيي دراسة معمقة حول مسارها الفني عام 2012 عن جامعة أنديانا الدولية للإعلام، وهو توثيق شامل ينضاف إلى قاموس السير الإفريقية لجامعة أكسفورد للإعلام بنيويورك.

 إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Related posts

Top