تصرح وزارة الثقافة غير ما مرة، على مر الوزراء الذين تعاقبوا عليها، أن من بين الاستراتيجيات التي تنتهجها في سياستها هي دعم الصناعات الثقافية بمختلف أشكالها وتمظهراتها. كيف يتم ذلك؟ عبر توسيع دائرة الدعم العمومي، الذي تروم منه توفير فرص العمل والخبرة للموارد البشرية المغربية العاملة في القطاع، لأن منظومة دعم الإنتاجات الابداعية إذا ما كانت كافية تعد محركا أساسيا للتنمية الاقتصادية وتطوير القدرات الفكرية والإبداعية والثقافية. وتفعيلا للشراكة مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب الممثل بفدرالية الصناعات الثقافية والإبداعية التي تهدف الوزارة إلى جعلها بناءة واسعة وشاملة ومستدامة تعزيزا لتنمية القطاع عبر التخصصات والجهات، سيما وأن هذا القطاع يتمتع بإمكانيات مهمة من حيث خلق القيمة والعمالة. هي ذاتها الشراكة بين القطاعين العام والخاص التي تهدف في التقائيتها إلى تشجيع إقلاع قطاع أساسي في نموذج التنمية الاقتصادية والثقافية في المغرب.
لكن السؤال الذي يجب ان نطرحه أولا وقبل كل شيء بعد هذا الاستهلال، هل لدينا فعلا صناعات ثقافية وإبداعية؟ وهل نضجت التربة لاستقبال هذا المفهوم عندنا؟
ارتبط مفهوم الصناعة الثقافية بمفهوم الصناعة الإبداعية، فقد ظهر الأول مع مدرسة فرانكفورت؛ إذ استعمله كل من “تيودور أدورنو” و”ماكس هوركايمر” منذ أربعينيات القرن المنصرم إثر انتقاد أعلام هذه المدرسة النقدية للتنميط وإعادة الإنتاج المرتبطة بكل المحتويات الثقافية التي تقدمها وسائل التواصل والإعلام والترفيه الجماهيرية كالإذاعة والتلفزيون والسينما، وما ارتبط بذلك من تطور لأنظمة الإنتاج والتوزيع التي صارت بموجبها الخيرات والخدمات الثقافية منتشرة بشكل شبيه بالسلع الاستهلاكية الأخرى.
وبالنظر إلى التفريعات الكثيرة التي طالتها بفعل التطورات والتغيرات المتلاحقة على مستوى تقنيات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، فقد صار من المتعارف عليه أنها تشمل ذلك الكل المتغير باستمرار من الأنشطة اللصيقة بالإنتاجات والتبادلات الثقافية التي تسري عليها قواعد السلع مهما بلغت تقنيات صناعتها من التطور، وذلك وفقا لمنظومة الإنتاج الرأسمالي الذي يفصل بين المنتج والمنتوج، وبين مهام الإبداع والتنفيذ. هكذا صار مفهوم الصناعات الإبداعية يشمل كل صناعة تنشأ عن الإبداع الفردي والمهارة والموهبة، والتي تصير لها القدرة على توليد الثروة، وإحداث فرص العمل نتيجة خلق واستغلال الملكية الفكرية.
وتتأسس فكرة الإبداع على تلك القدرة التي يتم بموجبها ابتكار وتوليد أفكار جديدة، وهو الأمر الذي يجعل مفهومي الصناعة الثقافية والإبداعية مرتبطين ببعضهما البعض إلى حد الاندماج على اعتبار استخدام فكرة الإبداع في الصناعات الثقافية والصناعات الإبداعية، فكلاهما يتطلبان الاشتغال على محتوى ثقافي أو فني أو تراثي معين، وكلاهما يستندان إلى حقوق الملكية الفكرية. بالرغم من أن الصناعة الثقافية تحتاج أكثر إلى صورة أو علامة للمنتوج أو “الماركة”، فإن الصناعات الثقافية صارت تشمل مجالات النشر والسينما والموسيقى والإذاعة والتلفزيون وفنون العرض أو الخشبة وألعاب الفيديو.. بالرغم من هذه الفوارق، فإن بعض الفنون كالهندسة المعمارية والديزاين والإشهار والصناعة التقليدية والموضة والسياحة الثقافية تظل أقرب إلى الصناعات الإبداعية.استنادا على دينامية المجال ظهرت مفاهيم أخرى مماثلة طالت ما يسمى بصناعات المحتوى، والصناعات المحمية بموجب حقوق المؤلف.. وبناء عليه، نَخْلُصُ إلى أن التعاريف تتطور وتختلف وفقًا لمجالات النشاط الذي يمارسه كل شخص، ولذلك يكون للخيارات الشخصية تأثيرها الملموس على قياس الأهمية الاقتصادية والثقافية للقطاع، وكذا على التوجهات التي تبرر سياسات الدعم التي تنبني على أن الأصل في هذه المنتجات – مهما اختلفت مجالاتها – هو الإبداع الذي يخضع لقواعد الاقتصاد الصناعي وقوانين السوق، لكنه ليس كأية سلعة أخرى، بل هو منتوج يعتمد على حقوق الملكية الفكرية.إن مقاربة موضوع الصناعات الإبداعية والثقافية بالمغرب هو في جوهره فتح النقاش ومساءلة أحوالها من منظور تشخيصي يسعى لملامسة مختلف الجوانب، وذلك وفق المحاور التالية:- الإرث الثقافي والطبيعي: التقليد والتجديد.- اقتصاد الثقافة والفن حيث يتقاطع الثقافي والاقتصادي والسياحي.- فنون العرض والتظاهرات الثقافية والفنية.- الكتاب والصحافة في ظل الطفرة التكنولوجية.- الصناعة الإبداعية والثقافية: حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.- السينما والسمعي البصري والوسائط التفاعلية.- الديزاين والخدمات الإبداعية.
تشمل الصناعات المرتبطة بقطاع السمعي البصري مجمل الوسائل التي تعنى بالمواد والتقنيات وطرق المعلومات أو الاتصال أو التدريس التي تربط فيما بين الصوت والصورة.. ويشير مصطلح “المشهد السمعي البصري” إلى النظام الذي يتألف بشكل خاص من القنوات التلفزيونية، ومنتجي المحتويات السمعية البصرية، ومختلف الشركات المرتبطة بهاتين المرحلتين الرئيسيتين من أجل تقديم تلك المحتويات إلى المشاهد أو لمستخدمي الشبكة العنكبوتية. وتنتظم صناعة السينما بشكل أساسي حول إنتاج الأفلام السينمائية، وتوزيعها على نطاق يضمن لها المشاهدة في القاعات، وعبر الوسائل الأخرى الممكنة، وذلك بغرض خلق سوق ينظم العلاقات بين المتفرجين والأفلام.. وتعتبر صناعة السينما من أكثر الصناعات الثقافية وضوحا في العَالَم.
إلى أي حد يمكن الحديث عن صناعة سمعية بصرية سينمائية في المغرب؟
هل لدينا سوق يستطيع تحقيق نوع من التباين بين المهن في القطاعين معا؟
ما علاقات الارتباط بين مصادر التمويل في القطاعين (الدعم العمومي، رأسمال خاص، دعم أجنبي، إشهار…)؟
في إطار الدراسات المقارنة ما هو الوضع العالمي للصناعات الثقافية والإبداعية؟
ما هي نسبة تأثير الثورة الرقمية والتقنيات الحديثة على الصناعات الثقافية؟
إن بسط النقاش حول مجالات الصناعات الثقافية والإبداعية التي تحتفي بالتراث والاستثمار في المستقبل هدفها العام هو تقديم حصيلة الرأسمال الثقافي بالمغرب كما يعكسها حقا وضع هاته الصناعات التراثية والثقافية والإبداعية في بلادنا للوقوف على مدى الإمكانات والرهانات التي يطرحها استغلال هذا الرأسمال الثقافي من خلال إعداد استراتيجية وطنية ممكنة لتطوير الصناعات المذكورة. هذا الورش الذي يتطلب انخراط عموم الفاعلين في ضمان حسن تأهيل هذا القطاع الحيوي وتطويره، وإعطاء أفق جديد للصناعة الفنية بالبلاد، بهدف جعلها مركز استقطاب إقليمي ودولي للصناعة الفنية.
القطاعات المرتبة بالصناعة الفنية ببلادنا تشكل تحديا حضاريا حقيقيا يجب الرفع من مردوديته عن طريق تشجيع الإنتاجات الوطنية والرفع من قدرات كل المهن المرتبط بها. إضافة إلى أن فتح باب تشجيع المقاولات والاستثمار في المجال الفني من شأنه توفير فرص العمل والخبرة للموارد البشرية المغربية العاملة في القطاع، مثلما تعتبر منظومة دعم الإنتاجات السينمائية والمرتبة بإصدار نشر وتوزيع الكتب إلى جانب المهرجانات المسرحية، محركا أساسيا لتنمية القدرات الفكرية والإبداعية والثقافية وتثمين التراث الثقافي الوطني وفق المنظور التنموي الشامل.
بقلم: دة. فوزية البيض
أستاذة باحثة في الأنثروبولوجيا الثقافية وناقدة فنية