الكتابة إبحار، وللمسرح هم مركب، وأيضا متعة مركبة، والكاتب المسرحي فيها هو الحامل لكل تلك الهموم، والمنتشي بكل تلك المتع، باعتباره المصور الأول للعمل المسرحي، ولذلك نراه يكتب بأقلام متعددة، أقلام منسجمة متنافرة في الآن نفسه، يكتب بالكلمات والعبارات والحوارات، يكتب بالإنارة والإظلام، يكتب بالصوت والصمت، يكتب بالموسيقى والإيقاع، بالهمس والهدوء، بالامتلاء وبالفراغ، بالملابس والديكور والإكسسوار، يكتب بالجسد والحركة، والإيماءة، بالجغرافية وبالتاريخ والمناخ وأحوال الطقس، يكتب بالمواقف والحالات والأحداث والحوادث، بالمفاجآت والمغامرات، يكتب، ويكتب ثم يكتب… يكتب بالغضب والتمرد ولا يكتب بالانصياع والولاء.
لحظة الكتابة يكون وحده المؤلف، ووحده المخرج، ووحده السينوغراف، وقد يكون هو الممثل والجمهور، من هاته الكينونة تنشأ العلاقة، بين المؤلف وغيره، بين الكاتب والسينوغراف، علاقة يكون فيها أول من يمد اليد لتأثيث حضور ينشد المتعة، متعة الجمالين، جمال يخاطب الأذن والعين معا، وهكذا كانت السينوغرافيا وتكون، ومن قبل أن نعرف شيئا اسمه (السينوغرافيا)، حاضرا في العرض المسرحي.
إن الركح المسرحي دائما هو في حاجة إلى تأثيث من أجل أن تكون الحياة فيه أكثر قناعة فكرة وجمالا مما يبعث في النص حيوية الحياة، بمعنى أنه في حاجة إلى مؤثثين مؤثرين ومقنعين طليعتهم ما اصطلح عليه بالسينوغرافي.
والسؤال: من هو السينوغراف؟ وما دوره؟
يمكن اعتبار السينوغرافيا بمفهومها العلمي المتداول بيننا ضيفا طارئا على المسرح لارتباط ظهورها بالتطور الذي واكبه المسرح عبر مسيرته الطويلة إلى جانب تطور العلوم والفنون والصناعات الحديثة.
والكلمة مؤطرة بجغرافية المكان الذي هو الركح المسرحي(1) وهي مساحة بقدر ما تبدو للعين ضيقة هي في الواقع فسيحة لكونها تشكل أفقا لعمل لا تحده حدود، وهو المجال الذي يشكل الفضاء المكاني للعرض المسرحي، وهي نفس المساحة التي سبق للمؤلف أن اشتغل عليها وليمرر من خلالها أفكاره، ويحرك شخوصه داخلها، وعمل عليها المخرج، مما يستوجب إيجاد خيط رفيع رابط موصل ناظم بين الفاعلين الثلاث، وبهذا لا يمكن الفصل بين السينوغرافيا والكتابة المسرحية والكتابة الركحية، بين الكاتب المسرحي والسينوغراف بين المسرح عامة لارتباط هذا الاسم – أي السينوغرافيا – ومنذ ظهوره بالعرض المسرحي، إذ لا وجود لسينوغراف بدون كاتب مسرحي.
هذه العلاقة التفاعلية وهذا الارتباط المتوازي والمتداخل معا هو الذي دفع إلى تصنيف السينوغراف كمؤلف حسب قانون الملكية الأدبية والفنية (11 مارس 1957) وهو تصنيف يؤشر على الأهمية التي أصبحت للسينوغرافيا في المسرح الحديث ويؤكد أهمية العلاقة التكاملية بين الطرفين، الكاتب والسينوغراف.
والسينوغرافيا إذا نحن نظرنا إليها من زاوية الاجتهاد بحثا عن مسرح أكثر تطورا وأكثر إقناعا وجمالية، ليست وليدة اللحظة، فلقد كانت على الدوام هاجسا وشغلا يسكن الكاتب والمخرج معا ومنذ أن وجد هذا المسرح.
فقبل اختراع الكهرباء، كان المشهد المسرحي مشهدا واقعيا وطبيعيا، كان البيت بيتا حقيقيا، والسلالم سلالم حقيقية، والنهار والليل حقيقيين، وكان الانتقال من مشهد بصري إلى آخر يتطلب نزول الستار، وتغيير المنظور البصري، وكذلك هو الحال إذا أردنا الانتقال من فصل إلى فصل أو من مشهد إلى آخر، فيتطلب الأمر وجود استراحة، استراحة قد تأخذ حيزا زمنيا طويلا لغاية الانتهاء من تغيير المنظر وتركيب ديكور الفصل الجديد. أما اليوم مع تجاوز الواقعية والطبيعية جاء السينوغراف معتمدا على الإيحاء، فالأمر يتطلب فقط إطفاء الإنارة ليعم الظلام ثم عودة الإضاءة بعد قليل.
وهكذا أصبح للإنارة دور اللغة المعبرة عن الزمان والمكان، ووظف الإيحاء توظيفا دالا معبرا، ويكفي أن ندخل العجلة بدل السيارة أو الدراجة وأصبحت لقطعة الإكسسوار أكثر من وظيفة هي الصندوق والكرسي، والمصطبة والأريكة والسرير، وأصبح الممثلون يغيرون ملابسهم ويتزينون أمام الجمهور، وأصبحنا نرى على الركح البحر والنهر والشلال، ونركب من مقاعدنا في القاعة القطار والعربة والسيارة.
والواقع أنه بإحداث المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط سنة 1987 ومع أعمال الطلائع الأولى من خريجيه سنلاحظ الاشتغال الكلي بالسينوغرافيا، حيث دخلت على أيديهم دائرة الضوء والاهتمام على مستوى الفرق والنقاد والباحثين وعموم المهتمين بالمسرح، وساهمت إلى حد بعيد في تصدير ونشر الوعي المسرحي والمتجلى في قدرات المتلقين على ترجمة الإيحاء وفك الشفرات.
لقد أعطى السينوغرافيون المغاربة الشباب للمسرح المغربي حياة جديدة ونقلة نوعية أكسبته مكانة لائقة في ملتقيات ومهرجانات عدة عربية وغيرها، وأعادت له البريق الذي كان في حاجة إليه.
وأصبح الكاتب المسرحي يكتب بالسينوغرافيا، مما وطد العلاقة بين الطرفين، ولم يعد مقيدا متجنبا إحضار مشاهد الظواهر الطبيعية والمناظر العصية التي كان يكتفي بالإشارة إليها في سياق الحوارات.
وأصبح المتلقي هو أيضا يشاهد بالسينوغرافيا بعد أن استوعب الإيحاءات والدلالات
وأصبحت السينوغرافيا هي المسرح بعد أن أخذت شيئا أو أشياء من حقوق المؤلف والمخرج.
رواد الكتاب السينوغرافيين في المغرب
سكن المسرحيين المغاربة الآن وقبل الآن هاجس التغيير بحثا عن الهوية المسرحية، فالتجأوا من أجل ذلك إلى الوقوف على مختلف التجارب الكونية والاجتهادات المختلفة وقد بدت طلائع الإرهاصات الأولى المبشرة بمقدم مسرح مغربي مغاير ثائر على المألوف والمتوارث مع تجربة الهواة – المأسوف عليها – التي كانت وقتها تقوم على حماس شباب باحث معزز بثقافة مسرحية أصيلة، وقتها كان هناك الكاتب المسرحي والمخرج المسرحي وشيء من السينوغرافيا بدون سنوغراف، بمعنى هناك هوس، هناك تجربة، ولكن ليست جلية السمات والمعالم.
وكان علينا أن ننتظر حتى أواخر ستينيات القرن الماضي خصوصا مع تجارب الرائد الطيب الصديقي التأصيلية، رائد السينوغرافيا المغربية بلا منازع.
لقد ألف للمسرح المغربي نصوصا وأعد أعمالا مغايرة تقوم على الغرائبية بأشكال احتفالية فنطازية، محدثا ثورة في المناظر والملابس والإكسسوارات، ولعله أول مسرحي مغربي يتمرد على التقاليد الفنية وبنياتها الإسمنية من خلال مسرحيات كـ (الحراز) و(مقامات بديع الزمن الهمذاني) و(أبو حيان التوحيدي) والقائمة طويلة مستفيدا مما يطلق عليه بالواقعية السحرية التي برزت فترة السبعينات والثمانينات مع اجتهادات الهواة من خلال أسماء تمكنت من الحفر في الصخر بحضورها الراسخ في المشهد، أذكر منها:
عبد الكريم برشيد، محمد مسكين، محمد تيمد، محمد الكغاط، المسكيني الصغير، رضوان احدادو، محمد قاوتي، أحمد العراقي، عبد السلام الحبيب وغيرهم، مع الاعتذار لمن غاب عن الذاكرة من واضعي اللبنات الأولى من خلال نصوصهم التي قلصت إلى حد ما من سلطة المخرج وسيادته، مما أجبره على الاجتهاد والبحث والتفكير قصد توظيف رؤى وأدوات بديلة، ولنقل مغايرة تتجاوب مع رؤى المؤلف، وترجمة أعماله، مما عجل بظهور السينوغراف، هو حمال أفكار وفنون، فظهرت على يده المناظر المتنقلة والمتحركة وما عاد الأمر يحتاج إلى إسدال الستارة وتركيب الديكور كما سبق.
السينوغراف وحدود الاشتغال
ينطلق عمل السينوغراف من لحظة الوقوف على النص المسرحي وهو في شكل حوارات وأحداث جامدة على الورق، من هنا يبدأ الإبحار نحو المرافئ المجهولة، معانداً الموج والتيار، لا نعرف زمن الوصول، لا نعرف خط الوصول، هي النهاية التي ليست لها نهاية، ومرد ذلك أن الإبداع خيال مجنح لا يؤمن بالحدود، وهذا سر بهائه وبقائه، فاللاحدود حدوده.
ويجب الاعتراف باستحضار الدور الكبير الذي يؤديه المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي في هذا الجانب والذي يعود له الفضل في:
بداية الاشتغال العلمي الإدراكي بالسينوغرافيا على مستوى الأعمال المسرحية والتي عرفت تطورا كبيراً وملموسا للإنجازات السينوغرافية فعم بذلك الوعي السينوغرافي، وقد دخل دائرة الاهتمام على مستوى الفرق والنقاد والباحثين وعموم المهتمين بالمسرح، كما تطور إدراك المتلقي وقد تمكن من حل شفرات الإيحاء السينوغرافي على يد شباب سينوغرافيين متمكنين من أدواتهم الفنية والمعرفية.
إذا كنا على إدراك من أن التكنولوجيا في تصاعد متواصل وسير حثيث وأن عجلة التطور مواصلة الدوران فإننا لا ندري غداً أو بعد غد حدود اشتغال هذا السينوغراف! بمعنى أننا نخاف على ثوابت المسرح من الغلو السينوغرافي الذي قد يؤدي يوما ما بعد إطلاق العنان إلى موت المؤلف والنص والحوار وأجزاء من الممثل والاكتفاء بالبصري.
يجب أن نحافظ على روح المسرح وخصوصياته، ويجب أن يقتصر الاجتهاد في إطار ركائزه وثوابته.
إنه مسرح من ثلج وصخر، من إسمنت وخشب وحديد، مسرح ميكانيكي، آلي، ليس لنا مقعد بين جمهوره، وهو جمهور غير جمهورنا النحن، والآن، جمهور هو أيضا حديدي، ميكانيكي، آلي، لا روح، لا لحم ولا دم.. جمهور روبوطي.
هامش:
(1) قد يتجاوز عمل السينوغراف حدود جغرافية الركح ليشمل قاعة العرض والبناية المسرحية، كما نجد عند تيمد في (الأحذية اللاذعة) حيث كان بنفسه يمسح أحذية جمهور العرض في الشارع عند الباب الخارجي للمسرح، وفي مسرحية (الحافلة رقم 3) لرضوان احدادو فقبل ولوج بناية المسرح كان على المتلقي اقتناء تذكرة ركوب الحافلة حيث تتحول قاعة العرض المسرحي إلى حافلة كبيرة.
بقلم: رضوان احدادو
كاتب وباحث في المسرح