المغرب وفلسطين – الحلقة 18 –

تاريخ مشترك وتضامن ضارب في عمق العلاقات

في ظل الأوضاع التي تعرفها فلسطين، سواء بالضفة الغربية أو قطاع غزة من عدوان شامل للاحتلال ومحاولة لإبادة جماعية لشعب فلسطين الأبي، كان للمغرب دائما حضور وازن، لا من حيث التضامن الشعبي أو الرسمي من خلال المساعدات الإنسانية وغيرها أو من خلال دعم جهود الإعمار، وكذا دعم خاص للقدس الشريف.
ومنذ 7 أكتوبر 2023 الذي أطلق فيه الاحتلال الإسرائيلي حربه المدمرة على قطاع غزة واستمراره في مسلسل الاستيطان خاض المغاربة من شمال المغرب إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه سلسلة من الاحتجاجات والأشكال التضامنية مع القضية الفلسطينية.
ووفق التقديرات فإن المغاربة خاضوا أزيد من 6000 مظاهرة وأزيد من 730 مسيرة شعبية، في أكثر من 60 مدينة مغربية، إضافة إلى وقفات مركزية عديدة وبشكل دوري أمام البرلمان، بالإضافة إلى ما يزيد عن 25 موكبا تضامنيا للسيارات والدراجات، وما يفوق 120 ندوة ومحاضرة لتنوير الرأي العام وتوعيته في ما يهم معركة “طوفان الأقصى” والقضية الفلسطينية وتطوراتها.
هذا الغنى في التضامن مع القضية الفلسطينية يجعل المغرب في مقدمة الدول الأكثر تضامنا مع القضية الفلسطينية بالشارع العربي والمغربي، وهو ما يدفعنا في هذه السلسلة الرمضانية إلى العودة إلى تاريخ العلاقات المغربية – الفلسطينية، وكيف تضامن المغاربة مع القضية الفلسطينية وجعلوها قضية أولى إلى جانب قضية الصحراء المغربية.
وتستند هذه الحلقات إلى قراءة في كتاب “المغرب والقضية الفلسطينية من عهد صلاح الدين إلى إعلان الدولة الفلسطينية” للراحل أبو بكر القادري الذي شغل أول رئيس للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، وأيضا كتاب “فلسطين قضية وطنية” للكاتب عبد الصمد بلكبير، وأيضا إلى مراجع وكتب أخرى تناولت القضية.

شمعون ليفي.. المناضل المغربي الذي واجه الصهيونية وعاش مدافعا عن الهوية الوطنية

إلى جانب إدمون عمران المالح الذي تحدثنا عنه في الحلقة السابقة، نقف في هذه الحلقة على إسهامات ونضالات مغربي آخر، المناضل والمثقف والتقدمي الراحل شمعون ليفي، الذي بصم على تاريخ حافل ومتميز من النضال على مستويات متعددة وضمنها القضية الفلسطينية.

ويعتبر شمعون ليفي أو سيمون ليفي واحدا من أبرز الشخصيات اليهودية المغربية التي كرست حياتها للنضال من أجل العدالة والمساواة، مع رفضه القاطع للصهيونية ومشروعها الاستعماري. حيث شكلت مسيرته نموذجا فريدا من نوعه، جمع بين الدفاع عن الهوية اليهودية المغربية والانخراط في قضايا التحرر الوطني.

شمعون ليفي مؤسس متحف التراث الثقافي اليهودي، وشمعون ليفي القيادي بالحزب الشيوعي المغربي وبعده حزب التقدم والاشتراكية، والصحفي البارز في جريدة البيان ALBAYANE والذي أسس وترأس مؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي، بالإضافة إلى مسؤوليات ونضالات أخرى كأستاذ الجامعي ومحاضر ولساني وباحث ونقابي والعديد من القبعات التي كان متميزا بها، كان دائم الالتصاق بالقضايا الإنسانية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

فإلى جانب هذه المهام والمسؤوليات المتعددة، ارتبط اسم شمعون ليفي بالنضال المستميت أسوة بالعديد من المناضلات والمناضلين بالدفاع عن القضية الفلسطينية، فهذه القضية التي وحدت المغاربة على الدوام وجمعت تحت رايتها شخصيات مسلمة ويهودية ولا دينية ويسارية وإسلامية وقومية وغير منتمية، كلها اجتمعت للتعبير عن رفض الإجرام الذي يوقعه الاحتلال الصهيوني بالشعب الفلسطيني.

كان ليفي إلى جانب شخصيات مغربية أخرى لا تجمع بينها إلا الراية المغربية، والكوفية الفلسطينية، وقضايا إنسانية أخرى، من اشد المدافعين قضية فلسطين، وكان رافضا للصهيونية، بل حتى أنه رفض الحصول على الجنسية الفرنسية التي كانت تمنح لليهود بشكل مباشر، وتمسك وتشبث بمغربيته حتى آخر نفس له.

 ولد شمعون ليفي عام 1934 في مدينة فاس، وسط بيئة مغربية متعددة الثقافات، حيث تعايش المسلمون واليهود في إطار من الاحترام المتبادل. كان شغوفا بالفكر النقدي والسياسة منذ شبابه، وهو ما قاده إلى الانضمام للحركات التقدمية والماركسية التي عارضت الاستعمار الفرنسي ودعمت استقلال المغرب.

خلال فترة دراسته في فرنسا، انخرط في النضال اليساري ورفض المشروع الصهيوني، الذي اعتبره حركة استعمارية تسعى لطمس هوية اليهود الشرقيين وقطع صلتهم بجذورهم الوطنية.

وبعد عودته إلى المغرب، أصبح عضوا بارزا في الحزب الشيوعي المغربي ثم لاحقا التحرر والاشتراكية ثم التقدم والاشتراكية، حيث دافع عن مبادئ العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية لجميع المغاربة، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم.

ظل ليفي ثابتًا في موقفه المناهض للصهيونية، حيث اعتبرها أيديولوجية تروج لتهجير اليهود قسرا من بلدانهم الأصلية، وتساهم في خلق الانقسامات داخل المجتمعات المتعددة. كان من أشد المعارضين لسياسات إسرائيل التوسعية، مؤكدا أن انتماءه لليهودية لا يعني الولاء للحركة الصهيونية أو لدولة إسرائيل.

كما رفض الدعاية الصهيونية التي سعت لإقناع يهود المغرب بالهجرة إلى إسرائيل، وأصر على أن اليهود المغاربة جزء أصيل من النسيج الوطني، لهم حقوق وواجبات كمواطنين مغاربة، وأن مستقبلهم يجب أن يكون في وطنهم، لا في كيان استيطاني قائم على التمييز والاحتلال.

إلى جانب نضاله السياسي، لعب شمعون ليفي دورا محوريا في الحفاظ على التراث اليهودي المغربي. فقد ترأس “جمعية التراث الثقافي اليهودي المغربي”، وساهم في توثيق تاريخ اليهود في المغرب، مع التركيز على دورهم في بناء الحضارة المغربية. كما عمل على إبراز المشترك الثقافي بين المغاربة بمختلف أديانهم، مؤكّدًا أن اليهودية المغربية ليست مجرد ماض، بل جزء من الحاضر والمستقبل.

توفي شمعون ليفي عام 2011، لكنه ترك إرثا نضاليا غنيا، يستلهمه كل من يسعى للعدالة ورفض التمييز بجميع أشكاله. ظل اسمه رمزا لليهود المغاربة الذين تمسكوا بجذورهم الوطنية ورفضوا الضغوط الصهيونية، كما تظل إسهاماته ونضالاته شاهدة على تاريخ التضامن المغربي مع القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى ذلك بقيت مواقفه شاهدة على إمكانية التعايش والتضامن بين مختلف مكونات المجتمع المغربي.

وسيظل شمعون ليفي نموذجا للمناضل الذي لم ينحصر نضاله في الدفاع عن فئة معينة، بل امتد ليشمل قضايا التحرر والعدالة لجميع أبناء وطنه. وبينما حاولت الصهيونية محو ارتباط اليهود المغاربة بجذورهم، ظل ليفي شاهدا حيا على أن الهوية الوطنية لا تتعارض مع الانتماء الديني، بل تتكامل معه في إطار مجتمع متعدد ومتسامح.

< إعداد: محمد توفيق أمزيان

Top