في رحاب فكر عزيز بلال -الحلقة 19-

عزيز بلال

التنمية… ما لا تقوله الأرقام! 

عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟ 

في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية. 

في قراءتنا المستمرة لفكر عزيز بلال من خلال كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، نصل في هذه الحلقة إلى تحليل أوجه التناقض التي حكمت التجارب التنموية في العالم العربي، بين الرغبة في الاستقلال الاقتصادي وواقع البنية الرأسمالية التابعة.

يبرز المفكر عزيز بلال، في الجزء الأخير من الفصل الرابع من مؤلفه، كيف أن فشل الرأسمالية التابعة في إيجاد حلول ناجعة للأزمات الاجتماعية والاقتصادية دفع بعض الدول العربية إلى تبني نماذج وطنية-تقدمية متأثرة بالنضالات الشعبية والأفكار الاشتراكية.

جدلية التحديث والاستقلال في فكر عزيز بلال

ويشير بلال إلى أن هذه الأنظمة اتجهت إلى تبني إصلاحات اقتصادية واجتماعية هامة، من أبرزها الإصلاح الزراعي وتأميم الشركات الكبرى، خاصة في القطاعات الاستراتيجية مثل المحروقات والبنوك والتأمين.

غير أن هذه التغييرات وفق عزيز بلال لم تكن كافية لإحداث تحول جذري في علاقات الإنتاج، إذ ظل الطابع الرأسمالي مهيمنا حتى في القطاعات المؤممة، التي شكلت “رأسمالية دولة وطنية” بدلا من نمط إنتاج اشتراكي حقيقي.

ازدواجية الإيديولوجيا والممارسة في مشروع التنمية

يؤكد عزيز بلال أن القوى الاجتماعية التي تولت قيادة هذه المشاريع، والمتمثلة أساسا في البرجوازية الصغيرة، حملت تناقضات داخلية بين توجه تقدمي وآخر محافظ، إذ من جهة، دفعتها مواجهتها للإمبريالية وحلفائها المحليين إلى تبني إصلاحات جذرية، لكنها من جهة أخرى، سعت للحفاظ على امتيازاتها الطبقية، مما أدى إلى محاولات للالتفاف على التغيير الجذري.

ويبرز بلال أن هذا التناقض انعكس في مواقف هذه القوى من قضايا أساسية مثل دور القطاع الخاص، ومسألة الحريات الديمقراطية، والعلاقة مع أحزاب الطبقة العاملة.

فبينما سعت بعض الأنظمة إلى تعزيز القطاع العام، فإنها في مراحل لاحقة شهدت محاولات لإعادة إحياء القطاع الرأسمالي الخاص وتقليص دور الدولة في الاقتصاد، مما أدى إلى تفكيك تدريجي لمكتسبات الاستقلال الاقتصادي.

يرى بلال أن المكتسبات المحققة في بعض الدول العربية ظلت مهددة بسبب عاملين رئيسيين: أولا، التدخل المباشر للإمبريالية عبر الرأسمال الاحتكاري والشركات العابرة للحدود، وثانيا، تنامي دور البرجوازية التجارية ورجال الأعمال الذين سعوا إلى توسيع القطاع الخاص على حساب القطاع العام؛ وقد أدى ذلك إلى تقديم امتيازات مالية وضريبية للرأسماليين الخواص، مما هدد بإعادة فرض التبعية الاقتصادية.

ويؤكد بلال أن القضاء على القطاع الخاص في ظل الظروف الراهنة ليس مطروحا، لكنه يشدد على ضرورة وضع ضوابط دقيقة لتحجيم نفوذه، بحيث يخدم التنمية الوطنية دون أن يصبح أداة للهيمنة الرأسمالية.

ويرى المفكر بلال أن تحقيق هذا الهدف يتطلب وضع سياسات رقابية صارمة تمنع إعادة إنتاج التبعية الاقتصادية.

الديمقراطية كأساس للتحول الاجتماعي

يشدد عزيز بلال على أن توسيع الديمقراطية الشعبية وتعزيز دور القوى التقدمية في اتخاذ القرار يشكلان شرطين أساسيين للحفاظ على استقلالية القرار الاقتصادي.

ويرى عزيز بلال أن أي مشروع للتحرر الاقتصادي يظل مهددا إذا لم تتمكن القوى العمالية والفلاحية من فرض سيطرتها السياسية والإيديولوجية على عملية التنمية.

وفي هذا السياق، يناقش بلال إخفاقات التجارب الوحدوية في العالم العربي، مشيرا إلى أن الفشل لم يكن ناتجا فقط عن اختلافات سياسية، بل عن غياب قاعدة اجتماعية واعية قادرة على قيادة مشروع الوحدة بعيدا عن حسابات الهيمنة الطبقية للبرجوازيات الصغيرة.

نحو رؤية تحررية للتنمية

في ختام هذه الحلقة، يبرز فكر عزيز بلال كدعوة لإعادة التفكير في النموذج التنموي العربي، من خلال التأكيد على أن التنمية لا يمكن أن تكون مستقلة حقا ما لم ترتبط بمشروع تحرري شامل يقضي على الاستغلال الطبقي ويعزز سيطرة القوى المنتجة على القرار الاقتصادي.

عبد الصمد ادنيدن

Top