تأملات سينمائية -الحلقة 16-

تعتبر السينما من بين أشكال التعبير الفني الأكثر انشغالا بقضايا الإنسان. هذا الإنسان الذي ظل قلقا بشأن كينونته، إنه لا يكف عن تجريب كل الوسائط لترويض الطبيعة ثقافيا، بحثا عن الانتماء الآمن للمشترك الجمعي.
ووسط الصخب البصري والحوارات “الشفافة” التي أصبحت تغمر وسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري، تتزايد الحاجة إلى السينما بوصفها فنا يحكي بـ”ذكاء” و”عمق” وبشكل “بسيط” هموم الكائن البشري، بانتقاء سلسلة من المشاهد البصرية المكثفة رمزيا، والحوارات المشبعة بالمعاني والدلالات.
وفي هذا الصدد، اخترنا في جريدة بيان اليوم الوقوف في هذه الزاوية طيلة شهر رمضان عند بعض الأعمال السينمائية، التي اهتدى مخرجوها إلى معالجة مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية، برؤى فنية وتصورات فكرية مختلفة تعكس اهتمامهم بمشاكل الإنسان.
قد يبدو في الظاهر، أن بعض الأفلام تصور تجارب أشخاص أو جماعات تنتمي لبيئات في مناطق جغرافية أخرى بعيدة بآلاف الأميال، إلا أنها رغم ذلك، تنقل ضمنيا انشغال الذات الإنسانية بوجودها كفرد أو بانتمائها إلى الجماعة.
أن تشاهد فيلما سينمائيا، معناه أن تحجز تذكرة لرحلة سفر جميل واستثنائي، يمثل فرصة للتأمل والتفكير، ولإعادة النظر في الكثير من الأشياء التي قد تبدو مع مرور الزمن من البديهيات، لاسيما في عصر يتسم بالإسهال في “الإنتاج”، إنتاج “اللاشيء” في الكثير من الأحيان.
إننا لا ندعي في هذه الزاوية، تقديم قراءات نقدية عميقة أو أكاديمية، بقدر ما نتوخى الوقوف عند بعض الأعمال الفنية التي حظيت بإعجاب النقاد والمتتبعين.

فيلم CODA للمخرجة الأمريكية سيان هيدر

عـــزلــة الــصــم

لعبت الإشارات والرموز دورا كبيرا في حياة الإنسان، فاستنادا إليها تحسس العالم، واكتشف ذاته وبنى كينونته، بعدما كان يعيش في الطبيعة الغفل، ولأن الإنسان بطبعه يحب الإبداع، اهتدى في البداية إلى الرسم، والنقش، وخط بعض الحروف، وصولا إلى تقطيع الأصوات وبناء الجمل، لهذا فالمكون اللفظي لاحق لنظيره البصري.
لكن رغم التطور الذي حصل في التجربة البشرية على مستوى التواصل اللفظي، إلا أن الجانب الرمزي بقي حاضرا، إما لتعزيز الحوارات بالإيماءات والعلامات، أو باعتباره لغة قائمة الذات، تتواصل بها فئات واسعة من العالم، وتحديدا الصم والبكم، الذين يبلغ عددهم 70 مليون شخص، يتحدثون أزيد من 300 لغة.
ويعاني ذوو الاحتياجات الخاصة، من هيمنة الأشخاص الطبيعيين على هذا العالم، لأنهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، لهذا يخططون، ويشرعون، ويشيدون، استنادا إلى حاجتهم الجماعية، أما من هم غير ذلك، فما عليهم إلا العيش معزولين عن كل الفضاءات العامة، لهذا سيهتدون إلى تأسيس جمعيات وتحالفات للنضال من أجل أخذ أوضاعهم بعين الاعتبار في الشوارع، والإدارات، والمدارس، والمستشفيات، والإعلام، وغيرها.. إلا أنه رغم ذلك يبقى التفاعل جد خجول إن لم نقل منعدم ببعض الأماكن.
وتعتبر تجربة إنتاج فيلم حول الصم محفوفة بالمخاطر، نظرا لما يمكن أن يواجهه من ضعف في الإقبال، لكن قد يكون ناجحا أيضا، ومن بين الأعمال التي حظيت بإعجاب الجمهور والنقاد، نجد CODA للمخرجة الأمريكية سيان هيدر (Sian Heder).
ويحكي Children of Deaf Adults (أبناء البالغين الصم) طيلة 111 دقيقة، عن قصة عائلة تتواصل فيما بينها بلغة الإشارة الأمريكية (ASL). ورغم أن روبي روسي تستطيع الحديث بشكل عادي، إلا أنها هي الأخرى تجيد لغة الصم، بحكم عيشها إلى جانب والدها فرانك روسي (تروي كوتسور) ووالدتها جاكي روسي (مارلي ماتلين) وأخيها ليو روسي (دانيال ديورانت) الذين لا يتخاطبون إلا بالإشارات.
واستطاع CODA إنتاج سنة 2021، المقتبس عن الفيلم الفرنسي La Famille Bélier، إنتاج سنة 2014، للمخرج إريك لارتيغو (Éric Lartigau)، أن ينقل تجربة روبي مع عائلتها التي تعيش معزولة عن محيطها، بحكم عدم قدرتها على الاندماج مع الأشخاص الذين لا يبذلون مجهودا للتواصل مع المختلفين عنهم، باستثناء إذا كان الأمر يتعلق بخدمة مصالحهم الشخصية.


وما جعل هذا العمل الأمريكي يحوز على سمعة محترمة هو اعتماده على ثلاثة ممثلين يتواصلون حقيقة بلغة الإشارة، على عكس الفيلم الفرنسي الذي أسند مخرجه المهمة لممثلين طبيعيين، وهو ما جعله يحصد عديد جوائز دولية، أبرزها ثلاث ذروع أوسكار، خلال سنة 2022، ويتعلق الأمر بأفضل فيلم، وأفضل سيناريو مقتبس، وأفضل ممثل مساعد لتروي كوتسور.
وظلت عائلة روسي أكثر ارتباطا بالمراهقة روبي، التي ترافقهم في زياراتهم للمستشفى، ورحلات الصيد في البحر، وبيع منتجاتهم السمكية في سوق الجملة.. إنها الوسيط بين الثلاثي والعالم الخارجي الذي يعج بالمحتالين، والمخادعين، والسماسرة، والمتنمرين.
ووجدت الشابة الطموحة نفسها مسؤولة منذ صغرها عن شؤون العائلة، علما أن والدتها كشفت لها في يوم من الأيام، أنها كانت ترغب في أن تكون صماء أيضا، حتى تتفادى مشكل التواصل، غير أن روبي نسفت هذا التوجس بقدرتها على إتقان لغة الإشارة واللغة المحلية (الإنجليزية).
ولأن روبي كانت تملك صوتا غنائيا جميلا، فقد وجدت طريقها الصحيح عندما تبنى موهبتها أستاذ الموسيقى برناردو (يوجينيو ديربيز)، حيث ساعدها بالتحفيز على التدرب المستمر بشكل فردي وجماعي، بل جعلها قائدا للكورال المدرسي خلال حفل التخرج.
وبحكم تحصيلها العلمي المتذبذب، جراء وضعها العائلي، كانت روبي تطمح إلى إتمام مسارها في مجال الموسيقى، بكلية بيركلي، وهو ما تم بالفعل، لكن بعد صعوبات كبيرة في الانفصال عن أسرتها التي ظلت مخلصة لها إلى آخر دقيقة، لا سيما والدها ووالدتها، باعتبارهما كانا أكثر ثقة وارتباطا بها، بينما ليو شجعها على صقل موهبتها في الجامعة، وتركهم ليتحملوا مسؤوليتهم بشكل مستقل عوض ثقافة الاتكال التي أصبحت لديهم منذ التحاقها بهذا العالم.


ولعبت روبي دورا كبيرا في السهر على شؤون العائلة، ما جعلها تملك شخصية قوية بفعل احتكاكها اليومي بالحياة، ومن أبرز المحطات التي شاركت فيها، انتفاضة فرانك وليو ضد سماسرة سوق الجملة لبيع السمك، بقرية غلوستر في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، حيث أسست هذه الأسرة شركة رفقة ثلة من صيادي القرية لبيع الأسماك بشكل مباشر للمستهلكين، عوض تسليم سلعهم لوسطاء يربحون أكثر من 60 في المائة.
وعانت أسرة روسي اثر غياب روبي في البداية، لا سيما في نشاط صيد السمك، نظرا للحاجة الضرورية لحاسة السمع في التواصل مع خفر السواحل، والتفاعل مع نداءات وتنبيهات راديو القيادة، وهو ما جعل السلطات تسحب الرخصة من فرانك وليو إلى حين العثور على مرافق له القدرة على التجاوب مع العالم الخارجي.
ولم يجد الأفراد الثلاثة بدا من دعم موهبة روبي في الموسيقى، رغم خلطها لكل أوراقهم، وهكذا سيحضرون لحفل التخرج، ولامتحان ولوجها لكلية بيركلي، داعميها لتحقيق النجاح، وإن كانوا لا يقدرون على سمع المقاطع الغنائية التي تؤديها.
وتوفقت سيان هيدر في نقل عوالم الصم، وتحديدا، في مشهد قطع الصوت والاحتفاظ بالصورة فقط لحظة غناء روبي في الخشبة، ثم مشهد لمس فرانك لحنجرة ابنته لمحاولة إدراك موهبتها لإبداعية، وكأن المخرجة تريد أن توصل للجمهور الإحساس بعدم سماع أي شيء، في إطار اجتهادها الكبير في سبر أغوار هذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
لكن يلاحظ أن طريقة تعامل المخرجة مع وضع الصم، كان لطيفا عوض أن تقسو عليهم كما هو الحال في الواقع، عبر إضفاء القليل من الدراما على حياتهم، ويرجع ربما ذلك إلى أسلوبها السينمائي، صحيح أن أشياء مثل التنمر، والمضايقات، ومشاكل التواصل، والعزلة كانت حاضرة، لكنها ليست بتلك الحدة التي تختلف من منطقة لأخرى، فليست كل الأسر لديها إمكانية الاشتغال بمفردها، رغم أن عائلة روبي فقيرة أيضا.
وبصرف النظر عن بعض المشاهد المستهلكة، سابقا، من قبيل قصة حب روبي، ولقطات حميمية زائدة لم تخدم الحكاية الفيلمية، إلا أن CODA يبقى من الأعمال التي خلدت اسمها في السينما، لأنه استطاع أن يكسر ذلك الجدار والهوة القائمة بين السينما وفئات الصم، الذين ولجوا قاعات السينما بكثافة من أجل متابعة هذا الشريط، الذي يستعمل لغة الإشارة في التعبير عن مجموعة من المواقف.
ويشكل هذا العمل الذي حازت “آبل +” حقوقه مقابل 25 مليون دولار، استثناء في التجربة السينمائية العالمية، لأنه تجرأ على توظيف لغة الإشارة، مع تخصيصه مساحة كبيرة للصمت، الذي يخاف منه المخرجون حتى وهو يتخذ شكل البياض، لهذا يعزفون عن استخدام لغات مغايرة، وهو إقصاء يحرم فئات أخرى من متابعة إنتاجات الفن السابع.

*************

سيان هيدر

سيان هيدر (Sian Heder)، كاتبة ومخرجة أمريكية ولدت سنة 1977 في كامبريدج- ماساتشوستس. تخرجت من مدرسة كامبريدج اللاتينية. بدأت مسيرتها الفنية بالتمثيل، لكنها سرعان ما انتقلت إلى الكتابة والإخراج. كتبت وأخرجت في عام 2006، الفيلم القصير Mother، وخلال 2016، أخرجت فيلمها الروائي الأول Tallulah. وأصدرت عام 2021 فيلمها CODA، الذي حاز سنة 2022 على ثلاث جوائز الأوسكار لأفضل فيلم، وأفضل سيناريو مقتبس، وأفضل ممثل مساعد (تروي كوتسور).


 
الإخراج والسيناريو: سيان هيدر.
تاريخ الإصدار: 2021.
زمن العرض: 111 دقيقة.
الإنتاج: فيليب روسليت، فابريس جيانفير، باتريك ووشيس.
التصوير السينمائي: بولا هويدو.
المونتاج: جيرالدين مافانوي.
التشخيص: إميليا جونز، تروي كوتسور، مارلي ماتلين، دانيال ديورانت، يوجينيو ديربيز، فيريدا والش بيلو.

 إعداد: يوسف الخيدر

Top