سعيدة أنا بتقديم هذا التقرير المتعلق بالأطروحة التي بين أيديكم، والتي تتناول المشروع الفكري للأستاذ عبد الله العروي في بعده الحداثي. لماذا عبد الله العروي ومشروعه الفكري؟ الاقتراح في الواقع كان من طرف الأستاذ العميد عبد المجيد القدوري مشكورا، لحظتها انتابني شعور بالاعتزاز لتناول أبرز مثقف ومفكر عربي خلال القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، مشوب بنوع من التوجس، تجاه إنتاج قامة فكرية، بخلفية تاريخية وفلسفية، طالما شغلت الساحة العربية والمغربية بطروحاتها الجديدة والعصية على الفهم.
تجاوبت مع الاقتراح لأكثر من سبب.
الأول: أن الاهتمام بالمفكرين والباحثين من أساتذتنا، ودراسة أعمالهم لازالت نادرة في مكتباتنا وجامعاتنا، ولم تمارس هذه العملية النبيلة بما فيه الكفاية في مجتمعنا، وتناول تجربة من أكبر التجارب الفكرية العربية تنوعا وثراء للمؤرخ والمنظر للتاريخ الأستاذ العروي تأتي في هذا السياق، لانتمائه لجيل كان المغرب في المراحل الأولى من حياته مسرحا لوعي وطني يتطلع إلى التحرير، ويستمد معنى الحياة من الانخراط في الكفاح من أجل الاستقلال وتشييد وطن حر، كما أن البحث في كنه هكذا شخصية متعددة الأبعاد غزيرة العطاء، تشكلت بفعل عوامل ذاتية وموضوعية، وحياة ملؤها الحركة والانتقال، بدءا بإرهاصات النشأة حتى مرحلة النضج والعطاء، والتي يعد إنتاجها من المصادر التي لا يمكن الاستغناء عنها في الساحة الفكرية العربية والمغربية.. جد مغري.
الثاني: أثناء إنجازي لرسالة الماستر حول “مقتضيات التحديث الضاغطة في القرن التاسع عشر”، وقفت عبر المصادر المعتمدة على فهمه العميق لما يعانيه العالم العربي من خلال التشخيص الدقيق لواقعه، تستغرقه الجذور كما في الدراسة التحليلية لبنية المخزن، ومنهجية الحفر في الأنقاض قبل كنسها كما في “سنة وإصلاح” موضحا أن المعرفة لا يمكن أن تنبني على الجهل الذي كرسته السنة.
الثالث: يتعلق براهنية المشروع، نظرا للتحولات التي تعيشها المنطقة العربية، في سياق انفجار الظاهرة الأصولية بشتى ألوانها، وبلوغها قمة السلطة في بعض الدول التي عاشت ما سمي “بالحراك الديمقراطي”، مع اختلاف توجهاتها، وثقافة العودة للسلف باختلاف تجلياتها القومية والعرقية والدينية والطائفية، جعلتها الكنولوجية المعلوماتية في متناول الجميع، إضافة لمظاهر العنف والتقتيل والتهجير، لدرجة تبخيس قيمة الحياة البشرية، مع عودة المكبوت الاجتماعي والثقافي، وما أكثر ما حذر العروي من مخاطر هذا المد منذ عقود، حين صرح أن مهمة المثقفين العرب ليست في الاستيلاء على السلطة وإنما في السيطرة على المجال الثقافي، متسائلا عن أهمية استعمال المنهج السلفي في حل مشاكلنا، علما أن اللجوء إليه يحول وفهم إنجازات العصر الحديث، وكيف تعيق السلفية العملية الديمقراطية.
هذه بعض الأسباب التي دفعتني للقيام بسفر معرفي في ثنايا المشروع غير عابئة بالصعوبات، وما أكثرها، للاقتراب من معالمه وأبعاده وتحليل قضاياه… بهدف الإفصاح عن مكنونات علمه والوقوف على استنتاجاته.
ليست الغاية الإحاطة بمختلف الأبعاد التي يكتسبها هذا الإنتاج الفكري النقدي كما يدل على ذلك العنوان، لأن الأمر يكاد يكون مستحيلا بالنسبة لمشروع يفوق عمره خمسة عقود، يشهد على ذلك عدد ما ألفه من كتب ودراسات، وما أخضع له من تحليلات، ونظرا لاتساع رقعته، فقد آثرت التركيز في المساحة المحددة لمادة هذه الأطروحة على جانب رئيس يتعلق بسؤال الحداثة، باعتبارها لحظة حاسمة في سيرورة التاريخ، مهما تم تأخير هذه السيرورة فإنها ستحقق ذاتها بذاتها يوما ما، مثلما السؤال نفسه جزء من سيرورة التاريخ في معناه العام. وهي قضية مرتبطة بفهمه للفكر والعصر، إذ صرح منذ الستينيات أن لا مخرج للأمة العربية ولفكرها من الأزمة الحضارية إلا بالانخراط في العصر، عبر مشروع حداثي يأخذ بحقائقه، ويرتبط بمقومات فكره وبمسيرته الثقافية والعلمية، أي بمنطق وفكر وثقافة تأخذ على عاتقها مهمة التغيير الشامل لكل مظهر من مظاهر الحياة، وترسم للإنسان العربي طريقا واضحا وجديدا لتغيير وعيه وسلوكه، وصولا لتجديد نظرته لذاته ولعصره، أي الحداثة كدينامية للتغيير بتعبير محمد سبيلا، مؤكدا أنه لا خوف على الهوية والعقيدة والسلطة منها، فنحن لا نملك هويتنا إلا بمدى تحكمنا في الحاضر وانخراطنا في صنع المستقبل.
المشروع بالأساس مبني على الحداثة التي جعل منها القضية الكبرى والإشكالية المركزية، ويطرحها الواقع المجتمعي: كيف تلمس طريقها وسبر أغوارها؟ بأي منطق عالجها؟ مقوماتها، مظاهرها، سيروراتها، التحولات النوعية العلمية والمنهجية المرتبطة بتملك أسسها، أي ما يقود إلى التحديث باعتباره أدلوجتها، يحدد وجهتها ويؤشر عليها، لكن لا يطرح نفس مشاكلها الثقافية. لكن هل يمكن ولوج هذه المرحلة دون معالجة إشكالية التراث: كيف تأسس؟ أهميته بالنسبة لحاضرنا ومستقبلنا، هل ثمة حاجة معرفية لإحيائه؟ وهل في إحيائه معالجة لمشاكلنا؟ أم أن هناك أوضاعا ظهرت لن نستطيع مواجهتها باعتماده؟ ما مشروعية تحكم الأصوليات في حياتنا الراهنة؟ ألا تعتبر المظاهر المادية للتخلف والأسباب الإيديولوجية بمعناها الواسع هي الأكثر عمقا وتعطيلا لمشاركة ثقافتنا في الإنتاج والإبداع الكوني بشروطه. ما موقفنا من تاريخنا وتاريخ الإنسانية؟ وهل يمكن المرور إلى الحداثة مع الحفاظ على خصائصنا، واستعمال نتائج التكنولوجيا دون المرور بمعاناتها الفكرية والاجتماعية؟ ثم ما هو المنهج المفيد الذي يمكن اعتماده لتحليل مشاكلنا الواقعية والنظرية لإيصال المعرفة العلمية المطلوبة بمقاييسها الدقيقة؟ وهل ثمة سقف مفهومي لموروثنا الفكري يتطلب مسألة التجاوز كأنجع الطرق للفهم، وأسلم منهج للدراسة والتحليل. ذلك هو موضوع الأطروحة، ويمثل إشكالا علميا يصلح للدراسة، ويطرح نفسه بإلحاح، هذا ما دفعني للبحث فيه وفق منهج تاريخي تحليلي تركيبي.
اختياري لهذا الجانب ليس مجرد فضول معرفي أو ترف نظري بعيد عن أرض الواقع، وإنما استجابة لأسئلة مقلقة عاشها جيلي بصورة مغايرة في سبعينيات القرن الماضي، ويعيشها جيل الألفية الثالثة بحدة منذ أحداث 2011، حيث طفت إلى السطح نفس الأسئلة تقريبا، لكن هذه المرة في واقع انقسم أهله إلى فرق وطوائف متغايرة في الرؤية، وتجسدت في شكل صراع بين الملل والنحل، وفي أكثر مظاهر الصراع دموية، بعد المرور بعصر النهضة وعصر الحركات التحررية والاستقلالات وما صاحبها من أفكار وتطلعات، ولد الوهم القائل بأن الظواهر العقدية الوثوقية قد ولت، وأن الإنسان الحديث إنسان العقل والمنطق قادر على استبعاد مظاهر التعصب اعتمادا على المنطق الفكري العلمي العقلاني.
في واقعنا الحالي إذن ما يدعو لإعادة إنتاج سؤال الموعد مع الحداثة من جديد، في الوعي العربي المعاصر، عبر هذا المشروع بصفته نموذجا للفكر الحداثي، وطريقة جديدة في النظر وإدراك العالم، برؤية تاريخية واجتماعية، بالأخص ونماذج الوعي الثلاثة التي حللها في كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة لا تزال حاضرة بيننا.
طرح المشروع أسئلة إشكالية قوية على الواقع العربي في امتداداته الثقافية والسياسية والتاريخية، وفق أسس نقدية مبتكرة ارتكزت على قضايا رئيسة: التأخر التاريخي/ والتأخر النقدي/ والبناء النظري. أي الأسئلة المعرفية التي أثارتها الأزمات المصيرية في العالم العربي والإخفاق النظري على مستوى النهضة والبعد الرؤيوي الخلاق، وعلاقة الوعي بالموروث، والعجز عن دخول أبواب العصر الحديث باقتدار، في إطار مشروع وطني وعربي متعدد الجبهات، بوحدة سياقية ومنطق متسق، بدايته القرن التاسع عشر، حيث إخفاق الإصلاحات الداخلية، وتذبذب سياسة السلطة المركزية والاحتماء بالدول الأوربية والاختلالات المترتبة عن اختراقها مع التركيز على النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين حتى الزمن الراهن في إطار الكوني وعلى المدى الطويل.
طرح سؤال الحداثة عبر رزمة من الأسئلة المحرجة: هل هي فكرة أم وضعية اجتماعية اقتصادية أم حقبة تاريخية لها بداية ونهاية؟ أم تراكم تاريخي طويل مشروط بموقف الإنسان من الطبيعة؟ أم فكرة غيبية إذا تصورنا أنه متى مكنا الناس من بعض الأدوات المتطورة، وبطريقة عفوية نكون قد جعلنا منهم أشخاصا حداثيين، يعيشون وفق معايير عالمها. هل الثورة مجرد تغيير في النظام السياسي وبناء قواعد اقتصاد قومي ونهج عملي وتقني؟ أم تحرير الفرد والجماعة من كل قيد ماض أو حاضر، وجعل الفرد مالكا لشروط إنسانيته: العقل والحرية والاستطاعة والشعور بالمسؤولية والتعبير عنها قولا وممارسة. هل لب التخلف أن تفضل الجماعة إنقاذ المطلقات بانتحار الأفراد عوض إنقاذ الأفراد بضياع المطلقات؟ تساؤلات في منتهى الدقة، يتداخل فيها التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي والنفسي، طرحها في عمله النقدي التنويري وأثار عبره العديد من القضايا التي سوف يتجه فكره لاحقا لبلورتها. ثمرته الكشف عن الاستخدامات الإيديولوجية للتقدم من قبل المثقفين العرب في عصر النهضة والثورة، حيث تعاملوا مع مقومات الحداثة بمنطلقات إيديولوجية تهيمن عليها صبغة البحث التبريري عن الأصالة العربية للنهضة والتحديث، دون الاهتمام بالقدرة الدلالية المعرفية على إنتاج معرفة عقلية تناهض الثبات القاتل، وتفتح أبواب التجديد.
الحداثة إشكالية استغرقته وعمل على فك رموزها باستخدام العقل النقدي الإيديولوجي، لمعالجة عين المشكل وليس مظاهره فقط. بدءا بقضية الاستعمار كعملية طويلة المدى، بتعميق السؤال لحدوده القصوى ليستنتج أن الذين قاوموه لم تكن لهم القدرة على تحليل القضية الأدق وهي كيف جاء؟ وهل نعتبره مجرد حدث؟ بعد ذلك يأتي التعيين، لماذا أخفق المغرب، لماذا أخفق الأندلسيون؟ وهل يحدث الإخفاق أو التأخر أو التخلف بصورة قدرية؟ أو يحدث ذاتيا أو ميتافيزيقيا؟ ما منهج العمل للخروج من هذا الواقع لدخول واقع الحداثة؟ البداية نقد الخطاب المعرفي التقليدي على أساس ما تشكله مطلقياته من تأثير على تطور الوعي والرؤية للعالم، ويقينياته المخترقة لمجالات الحياة العامة، والمنتعشة من البنيات التقليدية القبلية والعشائرية، التي لا تخلو منها الأسرة والمدرسة والتنظيمات الحزبية والنقابية والإعلامية، ناهيك عن الخطابات المؤطرة لحياتنا وتصوراتنا. والثورة الثقافية المنتظرة لا بد أن تبدأ من فك الارتباط مع موروث الحقب الوسيطة القابع بصيغ قيمية مختلفة في العقل والواقع رغم كثرة الكلام عن العقل العربي. هكذا أشكل الفكر العربي من خلال المحاور التالية: التأخر التاريخي والوعي به، ضرورة العقلنة، ودور النخبة الثقافية والسياسية المبدعة، وكلها قضايا تدخل ضمن إشكالية العرب مع الحداثة، عالجها بمنطق المؤرخ، كواقعة تاريخية حدثت في واقع تاريخي من العالم ثم بدأت تنتشر. ويربطها بجملة من التحولات النوعية العلمية والمنهجية. عالجت الأطروحة في ثلاثة أقسام وستة فصول مع مقدمة وخاتمة.
ما الذي يميز فكر العروي الحداثي؟ المستوى الأول هو المستوى النقدي. والنقد شرط جوهري لتأسيس كل ما هو جديد معرفيا، اعتمادا على مبدإ كل شيء خاضع لمحكمته، بوضع الثوابت التي تتحكم في التفكير العربي تحت مجهر التحليل العلمي وآلياته، لتقويض البنى الثابتة وخلخلة القيم التي تقف عائقا في وجه التغيير. دراسة تاريخية نقدية للتحرر من هيمنتها على أساس ما تشكله وثوقياتها من تأثير على تطور الوعي والرؤية للعالم بحيث يصعب التخلص من سلطتها وسيطرتها على الوعي والسلوك الفردي والجماعي، كما تخضع لذلك كل الأديان والمجتمعات الحضارية الكونية.
ثانيا: هو منظومة فكرية بتعبيرها النظري ونسقها الفكري، يمثل النقد الجذري للفكر السائد نسغه، ويعكس فهما عميقا لقضايا الوطن، والتزاما بأسئلته باحثا عن كيفية إخراجه من التأخر، فوظيفة المفكر ليس التوصيف الخارجي لسطح المشهد، بل التحليل الحفري العميق، بطريقة منهجية، علمية، موضوعية، متكئا على التاريخ كوسيلة للتشخيص الدقيق للواقع، لذا جاء مخالفا لما ينتظره منه المجتمع.
ثالثا: الحوار مع الغرب هو الخيط الناظم والرحم الذي خرج منه هذا المشروع المؤسس على مفهوم الحداثة، وما تعنيه من كونية المعرفة ومقولات العقل، ومنظومة المفاهيم، وبناء الإنسان مبدع الحضارة وصانع التاريخ، منذ ظهوره، المفاهيم والصور والنماذج مستقاة من مجتمع غير مجتمعنا، هذا ما يفرضه منطق التطور ما دام فكرنا العربي لم يولد أسئلته من واقعه المجتمعي والثقافي بل من المعرفة المؤدلجة، وفي طرح فكرة التأسيس على الأسس السابقة المتهالكة بدل الأسس العلمية الواقعية هدر للوقت لا غير.
رابعا: تجاوز فكر النهضة، وفكر المقاومة وفكر مرحلة الاستقلال، رغم دوره البارز في إنتاج يقظة قومية قوامها النضال من أجل الحرية والسيادة، وصنفه فيما يسمى بالإيديولوجية الثقافية أي السجال والمجادلة الكلامية؛ لم يستوعب التاريخ ولم يهتم بالنظرية والمفهوم. والاستخدام النفعي الذرائعي للتراث في الحدود التي تحفظ للمجتمع شخصيته وموروثه، حال وتحقيق انفصال جذري عن النقيض السلفي، بل مكن السلفية من الالتفاف على ما تحقق من إنجازات جزئية. وإقامة التواصل بينه وبين شروط الحداثة عملية مفرغة من محتواها المعرفي الخلاق، لأن الثوابت التي يكرسها تتنافى وشروط الحداثة والعقلانية، من رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني لمحمد عبده ورشيد رضا حتى طه حسين وعلي عبد الرازق. ولم ير في مساهمة هذين الأخيرين سوى تجديدا للمنهج السلفي، واستعارة لأساليب المنهج العلمي، فرضهما نمو المنهج المطرد وعجز المنهج السلفي على مواكبة التطور الحاصل.
خامسا: فشل النخب الحاكمة في بناء دول ومجتمعات فعالة عبر آليات التغيير لتبني لعصرها جسر العبور من القديم المألوف نحو الجديد المعاصر، الثائر على السائد، ولم يعمل هذا الفشل سوى على تعزيز شعارات الإسلام السياسي. تركيزه على المجال الثقافي أس كل تحديث وتقدم، لأهميته في تغيير الواقع بتغيير أفكاره، لأن المعركة الثقافية ليست أسهل من المعركة السياسية. داعيا لمشروع للمثقفين العرب قوامه استيعاب الفكر الليبرالي الغربي كما تبلور في القرن الثامن عشر، قمة ما وصل إليه الفكر الإنساني.
سادسا: العروي صاحب منهج ورؤية شمولية تنطلق من الخاص الوطني والعربي لتعانق الإنساني والكوني. أسس منهجا فكريا تحليليا وضح من خلاله أن ثورية الأنظمة العربية في معظمها لفظية لا فكرية، وأن الأزمة التي يعاني منها الفكر العربي عموما هي أزمة منهج في التفكير. وقبل الحكم على الإنجازات لجأ لدراسة جهاز النخبة الذهني لأن العقل أساس العمل الفكري وليس النقل، وحاجتنا للتحول من النقل بالنقد نحو الإبداع جد ملحة. وصف التغيير الاجتماعي في العالم العربي بالتناقض الذي يقع بين رفض مسار الحضارة الغربية والعجز عن تأسيس مسار بديل؛ يتطلب إعداد فكر ونظم اجتماعية وأبنية فوقية وهياكل اقتصادية، أي ابتكار نموذج وبنائه على أساس المبادئ الإنسانية العامة لفكرة الحرية والديمقراطية مادام المفهومان فضاء للمبادرة والابتكار، كما اشتغل على الطاقات المغايرة للخروج من هيمنة القواعد التقليدية بقوانينها الضاغطة، بالأخص قضية المرأة ومساواتها في الحقوق بما في ذلك موضوع “الإرث”، المطروح حاليا، ويرى أن سر تقدم أوربا يكمن في المطر والمرأة، كما يعتبر السلوك من ركائز الحداثة، فركوب قطارها يجب أن يكون ذهنيا وسلوكا.
سابعا: لا يشتغل العنوان عنده في منطقة الفراغ. هو المرتكز الرئيس والبؤرة الفاعلة. اختيار العنوان ودلالته ميزة لأسلوبه، تستوقفنا في “سنة وإصلاح” الإحاطة الشاملة بكل ما يشل قدرات المجتمع الذي يشق طريقه نحو الحداثة؛ فالسنة ترفض المتاح للبشرية. ويبرز العنوان بصيغته الاسمية، التي تحيل على الثبات والجمود، فالعروي مبدع حتى في اختيار بعض عناوينه.
ثامنا: يمارس حرية التفكير ويقف على مسافة نقدية من الذات والهوية والتراث، متواصلا مع الأفكار التنويرية. مواقفه الأولية تجاه القضايا الجوهرية لا تتجدد ولا تتغير لأنه يجيب عن مسائل مبدئية، لا تتبدل مع تبدل الأوضاع: الإيديولوجيا، الثقافة، التاريخ، العقل، والسياسة، والاقتصاد واللغة، والتراث، والوعي المدني، والأمازيغية، والمرأة، فيما يتعلق بالسياسة، بعلاقات الدول، بالدين، له مستخلصات لا قناعات: ما يراه هو خطاب التاريخ خطاب التطور. من استنتاجاته كما يورد الفيلسوف على حرب: (ألقى عبد الله العروي محاضرة في بيروت عام 1980 على ما أذكر، تنبأ فيها بأن القرن المقبل لن يكون عصر الانتهاء من الاستعمار ونيل الشعوب حرياتها، بل سيكون بالعكس عصر تصفية الشعوب الضعيفة وإبادتها،أي عكس كل الأحلام والأمنيات). (2)
أخيرا الحداثة اختياره الاستراتيجي لقدرتها على الاكتساح، والتاريخانية أداة لترسيخ الفكر التحديثي بصفتها ثورة ضد الاتباع، ورؤية الإنسان الفاعل في التاريخ صاحب المشاريع الإنشائية، وفي سيرورتها إنسية مطلقة، وقائع لا تجليات لحقائق ورائية. وتتلخص ثورتها في نفي المنظور الانتقائي والتوفيقي التلفيقي، وفيه يحدد تحول الفكر إلى تراث بقيام تحولات تحدث انتقالا في نمط التفكير، وتفتح دروب مرحلة جديدة وأشكال علاقات جديدة تتطلب التجاوز. وأن تكون تاريخيا معناه أن تتموقع في سجل التغيير الدائم والنظر إلى الأشياء برؤية استخدامية للتمكن من فهم اللغز الذي يهيكل واقع المجتمعات، لينتهي لثقافة التحديث التي تتجسد عبر الدولة وآلياتها ودورها الريادي في تحقيقها. والدولة الحديثة وحدها هي القادرة على أن تكسب التحرير السياسي دلالته، والتغيير الاجتماعي هدفه الذي يتجلى في بناء مجتمع حديث قادر على إعادة ترتيب الروابط والأولويات.
ولا يفوتني ذكر بعض الصعوبات: أولها أن نتناول دراسة أعمال مفكر ما تدخل في إطار”البحث في شروط البحث”، وهنا تتجسد صعوبة هذا النوع من الدراسات التي تؤسس البنية التحتية للبحث، كما أنه ليس من اليسير التعامل مع فكر عميق غاية في العمق، لما يتطلبه من القراءات المتعددة ودفعة واحدة. ولا تجدي قراءة إنتاجه مفصولا عن مواقفه ومتابعته للعمل السياسي، كما لا يمكن التفاعل معه دون قراءة المشروع في شموليته، قراءة متأنية غير مجزوءة، عمودية وأفقية، للإمساك بخيوط الحداثة التي تخترق المشروع برمته، فهو بمثابة عمل واحد بعناوين متعددة. القراءات المتقطعة قد تسقط فيما سقطت فيه بعض الانتقادات التي وجهت له، والتي تجد أجوبتها في المشروع برمته. كما أن كتابته مكثفة، وقد تحتاج لفهم فقرة واحدة العودة لقراءة مجموعة كتب، لكنها كتابة غنية بتعبيرها الموجز، موحية بما تملكه من مقومات الثراء اللغوي والشفافية الأسلوبية وأناقة اللغة العربية ومتانتها.
تأتي الصعوبة أيضا من اختلاف تقنيات التأليف ما بين البحوث الأكاديمية والإبداع الفني والمقالة والرواية والخاطرة، وموسوعية المفكر وتملكه لفلسفة الأنوار الكونية ولجذور الفكر العربي وللنقد الإبستمولوجي، ومعايشته لأهم الأحداث والمنعطفات، فهو شاهد على عصر. لب منهجه المقارنة والمقابلة والاستنتاج، ويلتقي فيه النظر بالعمل: يقوم بتحلل عناصر المادة ويصنفها ثم يعيد ترتيبها ترتيبا جديدا، موظفا مختلف حقول المعرفة ومناهج البحث العلمي مما أضفى عليها من القوة والتماسك ما يصعب تجاوز نتائجها. أما بناؤه النظري فيكتسب شروط التأصيل من فهم النقد التركيبي لإيواليات انتظام الأنساق الرمزية والمعيشية في إطار التطور التاريخي الرحب، الذي يظل رائده في الحقل الثقافي والفكري العربي الراهن. هذه السمات مجتمعة تضع الباحث أمام إشكالية الفهم وزاوية التناول. من الصعوبات أيضا ما يتعلق بلغة الخطاب النقدي الذي يمارسه، لا فيما يتعلق بالمفردات والأسلوب، بل بالبنى المنطقية والشكلية المعتمدة في التعبير عن تلك اللغة، فالكتابة لديه ليست أداة تعبير بقدر ما هي حقل إنتاج. ويستطيع أن يقول في فقرة، بعربية معاصرة، غنية بمضمون جديد، ما يحتاج قوله لأكثر من كتاب، كما في كتابي”السنة والإصلاح” و”من ديوان السياسة”، يتعامل مع اللغة بكيفية دقيقة حتى لا تبتلع الصياغة اللغوية الفكر وتفرغه من مراميه، أيضا اهتمامه بعملية التنقيط، التي إن أهملناها أثناء القراءة قد نسقط في تغيير المعنى المقصود. ما مدى إمكانية تحقيق المشروع على أرض الواقع؟ كان بالإمكان عبر عقود الاستقلال الطويلة أن تعمل الأنظمة التي ورثت الاستعمار على نقل المجتمعات إلى مرحلة بلدان المواطنة والقانون والدستور وبذلك توفر على نفسها ومجتمعاتها “الانتفاضات” التي حملت النفوذ المتسارع للإسلاميين المعبر عنها بالفوز بالنتائج الانتخابية، لكنها سوف تتعرض بدون شك في الحقب القادمة إلى اختبار علني وشامل في مخبر الوعي الشعبي، قد يأخذ هذا الاختبار ردحا من الزمن أو يلتهم عمر جيل كامل، ليتحول وعي الشعوب العربية من الهوس بالهوية لوعي الواقع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، أي من طوبى تعليق الآمال على شعارات إيديولوجية في مواجهة الواقع ومحاكمة الأحزاب والحركات بناء على ما تقدمه من برامج فعلية وحقيقية على الأرض.
قبل الختام أود أن أتوجه بخالص الشكر للأستاذ عبد المجيد القدوري، الذي أشرف على هذا العمل. أشكره على توجيهاته ومتابعته الدقيقة بتواضع علمي، ونبل عطاء قل نظيرهما. شكري الخاص للمفكر عبد الإله بلقزيز، أستاذي الذي كثيرا ما استمتعت بمحاضراته القيمة، وشرف لي أن يكون ضمن لجنة المناقشة. شكري الجزيل كذلك للأستاذ محمد الحاتمي الذي أتعرف عليه لأول مرة، لكنني استمتعت بقراءة الترجمة الأنيقة التي قام بها بمعية الأستاذ محمد جادور لكتاب الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية، شكري أيضا للأستاذ معروف الدفالي الذي كثيرا ما أخذت من وقته لاستشارته في بعض المسائل التاريخية، مجال تخصصه، ولأستاذي المحترم محمد الشيخ الذي رافقت محاضراته ثلاث سنوات. ولا أنسى شكري الكبير وامتناني للمفكر والمؤرخ الحريف عبد الله العروي على الجلسات العلمية الممتعة التي مكنني منها، وما تحفظ على الإجابة عن أي سؤال من أسئلتي بما في ذلك الأسئلة الخاصة بسيرته. شكري موصول أيضا لأطر وموظفي هذه المؤسسة العلمية العتيدة.
هوامش
1- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت 2006، الطبعة 5، ص 168.
2- علي حرب، الممنوع والممتنع، نقد الذات المفكرة، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء/ بيروت 2011، الطبعة الخامسة، ص 204.( العروي يستنتج كما أكد لي في الحوار معه ولا يتنبأ)
بقلم: خديجة صبار