يقول الناقد وايت برينيت: «لا أعتقد أنك تستطيع كتابة قصة قصيرة جيدة دون أن تكون بداخلك قصة جيدة». انطلاقا من هذا الرأي/ النصيحة لا شك أن كل قاص سيجد نفسه يتساءل كيف يبحث عن قصة جيدة بداخله؟ وما طبيعة هذه القصة/ الحكاية التي يمكنها أن تتحول عن طريق الكتابة إلى قصة قصيرة جيدة؟
أعتقد أن كل القصص التي نحملها بدواخلنا، والتي استطاعت أن تجد لها مكانا بأعماقنا وذاكراتنا، لا شك أنها قصص صالحة لأن تخلق قصة جيدة. فكل ما يجري في الحياة يلامس جوهر الإنسان وكينونته الشائكة. يبقى أن الفرق بين هذا الكاتب وذاك، هو درجة التفاعل مع هذه القصص والحكايات وزوايا التقطاها، وطريقة تناولها. فالذي يمتلك القدرة على الإنصات لنبض الحياة العميق، وتأمل الأشياء في تفاصيلها الدقيقة كما في كليتها الشمولية، والتوقف عند المفارقات المثيرة والمواقف المدهشة، لا شك أنه سيكون مسكونا بحكايات جيدة تستوطن أعماقه، وتستولي على تفكيره بما يكفي للخروج في قالب ممتع ومثير. كل ما يوجد في الحياة حتى ما يعتبر منه تافها، يستطيع أن يكون مادة جيدة للقصة ما دام مرتبطا برؤية معينة، وسياق منسجم، وهدف محدد. أي أن تكون تفاهة المادة محكومة بجودة التصور.. لكن، ومع ذلك، لا تكفي القصة الجيدة، ولا التصور الجيد إذا لم يكن الكاتب على درجة عالية من التمكن من الأدوات الفنية لكتابة القصة القصيرة التي تختلف عن بقية الأنماط السردية في كونها ترتكز على حدث وحيد يتم من أجله توظيف كل الأساليب الفنية الممكنة لخلق أثر قوي، آني، وفعال.
انطلاقا مما سبق، نلاحظ أن مقولة الناقد وايت برينيت تحيلنا على إشكالية التنظير والتأطير للقصة القصيرة، وصعوبة تحديد معاير وقواعد مضبوطة لكتابة القصة القصيرة. فالنقاد الذين حاولوا التنظير لها يجدون أنفسهم دائما متجاوزين من طرف الإبداع القصصي نفسه، حتى أولئك الذين يمارسون منهم كتابة القصة القصيرة، لكونهم ينطلقون من تجاربهم الشخصية لتعميمها وصياغتها في شكل وصايا أساسية لا بد لكاتب القصة القصيرة من اتباعها. والحال أن مثل هذا التنظير يتنافى وحرية الإبداع وتعدد التجارب. ففي رأيي الشخصي، لا يمكن للنقد أن يضع قوانين صارمة سواء في مجال القصة القصيرة أو غيرها من أشكال الإبداع، لسبب بسيط هو أن التنظير النقدي يستمد قواعده من الإبداع نفسه، أي أنه دائما يأتي بعد الإبداع وليس قبله. لذلك لا أنتظر من النقد أن يضع قوانين علمية صارمة وقارة، وإنما خطوطا عريضة تشكل القواعد المشتركة في مجال كتابة القصة القصيرة، خاصة وأننا نعيش اليوم، زمن تداخل الأجناس الأدبية التي لم تعد معها هذه الأجناس تحافظ على صورها النمطية المألوفة. فقد صارت القصة القصيرة بدورها تجمع بين السرد والشعر والمسرح وغيرها من الفنون. والحكاية نفسها التي كانت جوهر القصة القصيرة، أصبحت متجاوزة من طرف العديد من كتاب القصة القصيرة لصالح الانسياب السردي بدون قيد أو شرط. وهذه الحرية هي التي أدت إلى ما عرفته القصة القصيرة في المغرب من دينامية مثيرة للجدل؛ إذ دفعت هذه الدينامية بالعديد من النقاد إلى اعتبارها تعبيرا عن أزمة ثقافية حقيقية تعكس غياب سلطة النقد،واستسهال الكتابة الذي ساهم فيه كل من النشر الالكتروني المفتوح لكل الأقلام، وعملية النشر الحر خارج نطاق دور النشر التي تتوفر عادة على لجان للقراءة تفرز الجيد من الرديء. كما يعتبرون هذا المد الذي تعرفه القصة القصيرة وما يتبعه من قراءات سطحية تدخل غالبا، في باب المجاملة، وتنجز أحيانا، من طرف كتاب لا علاقة لهم بالنقد أو الإبداع، شيئا مضرا بالقصة القصيرة نفسها لأن العديد من التجارب الهامة تغيب وسط هذا الركام القصصي. غير أن هذه الدينامية تعتبر في الواقع، ظاهرة صحية لأنها تشي بإقبال الشباب على القراءة- إذ لا كتابة بدون قراءة- وهو ما نطمح إليه، كما أنها تساهم في خلق التراكم القصصي الضروري للنقد نفسه والذي يسمح مع الزمن، بالمقارنة وفرز الجيد من الرديء. ذلك أن الكتابة الجيدة وحدها تستطيع الصمود في نهاية المطاف. وهذا ما أثبته ويثبته التاريخ باستمرار، وعلى كل مستويات الكتابة. ولقد بدأت مؤشرات أهمية هذه الدينامية تظهر من خلال اجتذاب القصة القصيرة مؤخرا للعديد من الأصوات النقدية التي كانت حتى وقت قريب، لا تهتم إلا بفن الرواية الذي يسمح بإمكانية تطبيق النظريات النقدية المتعددة. غير أن الحركة النقدية رغم هذه الالتفاتة، لا تزال متخلفة عن ركب القصة القصيرة التي تتزايد إصداراتها بشكل ملحوظ. فعدد النقاد المهتمين بهذا الفن قليل جدا، بالقياس إلى حجم الإصدارات كما أن الدراسات التي تنجز غالبا ما تسقط في فخ تعميم الأحكام على تجارب مختلفة. ذلك أن هذه الكتابات لا تنتظم في قوالب واضحة المعالم والاتجاهات، وإنما تختلف باختلاف الكتاب ومرجعياتهم وبصماتهم الخاصة، سواء منهم الذين يحافظون على المقومات الأساسية للقصة أو الذين يخوضون غمار التجريب. كما أن النقد يطبق عموما، المناهج الخاصة بالرواية على المجامع القصصية، وهو ما يطرح إشكالا كبيرا على مستوى دراسة هذه المجامع القصصية التي لا تخضع دائما لنفس التيمات، ولا لنفس القوالب الفنية. فنقد المجامع غالبا ما يهضم حقوق الكثير من النصوص القصصية التي تكون ذات قيمة فنية، وخاصة عندما تستأثر قضية التيمات والبحث عن مواضع معينة – كما هو الشأن فيما يسمى بالكتابة النسائية- حيث يتم البحث عن مواضع حساسة تتعلق بالجنس والجسد والصراع بين المرأة والرجل الخ.. على حساب الجوانب الفنية ومظاهر صنعة الكتابة، بالإضافة إلى قضية تصنيف كتاب القصة القصيرة حسب الأجيال وتعميم نفس الحكم عليهم دون مراعاة مظاهر الاختلاف المرتبطة كما أسلفت سابقا، بالمرجعيات والرؤى والتصورات.
إن الإنتاج المتزايد في مجال القصة القصيرة يفرض على النقد المزيد من الاهتمام بهذا الفن، ومواكبة تطوراته، والبحث عن أساليب وأدوات جديدة لمقاربته. ذلك أن القصة القصيرة تعكس بدورها واقعا جديدا مأزوما يؤدي إلى الغوص في الأنا الفردية كما الأنا الجماعية، وإلى الاحتفاء بالعوالم المهمشة وبالخصوصيات المميزة التي تسعى العولمة إلى محو آثارها، وبالتالي القضاء على جماليات الاختلاف التي تحتفي بها.
بقلم: الزهرة رميج