ما هي الأسباب الحقيقية التي جعلت من المؤرخ الإسرائيلي الشاب نجما في عالم الثقافة والفكر منذ حوالي 4 سنوات؟ ولئن كان الأمر عاديا في بقية بلدان العالم المتعود أغلبها على الموضات الفكرية العابرة، فمن الغريب أن يصبح مرجعا وأستاذ فكر في فرنسا، بلد العلوم الإنسانية والفلسفة والنقد المتعدد.
فمنذ صدور “العُقال ـ موجز تاريخ الجنس البشري” كتابه الأول مترجما إلى اللغة الفرنسية سنة 2015 مرورا بثاني كتاب له تحت عنوان “هومو ديوس” أو “الإنسان الإله، موجز تاريخ الغد” سنة 2017 ووصولا إلى آخر كتبه “21 درسا للقرن الحادي والعشرين” الصادر في شهر سبتمبر الماضي والصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية الفرنسية تحتفي بالرجل كأنه المهدي المنتظر الذي طال انتظاره، ولكن من يتمعن في أطروحات كتبه الثلاثة بعيدا عن التقديم اللطيف والسطحي الذي يحظى به في وسائل الإعلام، لا يعثر على ابتكار متناسب مع الشهرة التي حققها كشخص والمبيعات التي حققتها كتبه عبر العالم وفي فرنسا تحديدا.
بكلمة واحدة هل يستحق ما جاء في ثلاثيته كل هذا الاهتمام والاحتفاء إلى حد القول إنه أهم وأكبر مفكر في الوقت الحالي في صحف عالمية عديدة، من بينها أسبوعية لوبوان الفرنسية التي وصفته بـ”المفكر الحالي الأكثر أهمية في العالم”؟.
أما المياغازين ليترير الشهرية الفرنسية الشهيرة فقد وضعته في عددها الأخير يناير 2019 على قائمة “الـ35 مفكرا الأكثر تأثيرا في العالم” وهو العنوان الذي يتصدر صفحتها الأولى.
كيف يمكن لأستاذ تاريخ مغمور في إسرائيل متخصص في تاريخ أوروبا في العصور الوسطي أساسا أن تجد “أفكاره” صدى في موضوع “ما بعد الإنسان” ومستقبل النوع البشري وغيرهما من الإشكاليات التقنو-علمية الراهنة التي يطرحها العبر-إنسانيون في السيليكون فالي؟ واختصارا ما هو سر نجاح مؤلفات تزخر بالأخطاء التاريخية والفلسفية؟
حكي أم تاريخ؟
لقد تم رفض كتابه الأول “العقال ـ موجز تاريخ الجنس البشري” من قبل 25 دار نشر في الولايات المتحدة الأميركية قبل صدوره سنة 2014 ببريطانيا، ثم الحصول على ذلك النجاح الكبير في أميركا ذاتها بعد ذلك وترجم إلى حوالي 30 لغة وهو نجاح غير معهود، فالكتب التي تبحث في التاريخ قلما يكون لها مثل هذا النجاح الخارق للعادة.
وفي الحقيقة لا يعود ذلك النجاح إلى إضافات جديدة وإنما بسبب تناوله لموضوع يجعل القارئ يحلم بالقبض على تاريخ الإنسانية كله في قبضة واحدة، علاوة على اعتماده الأسلوب السردي المتحرر من المرجعية العلمية الصارمة. فهو يتتبع تاريخ الجنس البشري منذ أن كان في مرحلة الصيد والقطف في العصر الحجري القديم ووصولا إلى الملاعب الرياضية في القرن الحادي والعشرين. وليس هذا فحسب بل يسمح “المؤرخ” لنفسه بالتحول في فقرات كثيرة إلى قارئ فنجان يتنبأ بمستقبل الإنسان ويصف ما سيكون عليه بالتفصيل الممل.
وإن جمع الكاتب كمية هائلة من المعطيات والأفكار من مختلف التخصصات كعلم الأحياء والأنتروبولوجيا والاقتصاد والتاريخ الخ، فإنه لم يتمكن من الوصول إلى تركيبة مقنعة بل بقي الكتاب في الغالب عبارة عن مجموعة من الحكايات، يقفز الكاتب عبرها من موضوع إلى آخر وكثيرا ما يتيه القارئ مع استطراداته المجانية.
ما الفائدة من تخصيص صفحات وصفحات لاستحضار ما هو بديهي واضح كالقول إن “إجراء البحوث العلمية يكلف غاليا” وهل يحتاج القارئ لكي يفهم أن الإنسان هو الذي يسيطر في العالم أن يعرف أن وزن مجموع الحيوانات الأليفة هو 700 مليون طن وأن هناك 80 ألف زرافة على وجه الكرة الأرضية و200 ألف من الذئاب الرمادية؟
ولكن ما يدعو للتساؤل أكثر هو تساهل الكاتب الكبير مع التوثيق وشح المصادر. يغامر في التأكيد مثلا على بعض الأطروحات ويعللها بطريقة سريعة سطحية ودون ذكر لأي مصدر أو نقاش في الموضوع كقوله إن “التطور جعل من الإنسان العاقل ومعه كل الثدييات الاجتماعية مخلوقا كارها للأجانب”! هو في النهاية كتاب حاول أن يعالج قضايا مثيرة للغاية ولكن دون اكتراث كبير بمتطلبات البحث العلمي والحقيقة العلمية.
أخطاء فادحة
من “هومو ديوس” (الإنسان الإله)، تنبعث رائحة عالم الاجتماع الفرنسي أوغست كومت. فهو يعيد طبخ أطروحة هذا الأخير الشهيرة بكل توابلها ولكن دون أن يذكره. تلك النظرية التي قسمت تاريخ البشرية إلى ثلاث مراحل كبرى: الدينية، الميتافيزيفية والوضعية.
يرى يوفال نوح هراري أن التاريخ الغربي ينقسم إلى العصر اللاهوتي حيث كانت تأتي المبادئ التي تحدد الأخلاق ومعنى الحياة من الإله. والعصر الميتافيزيفي-الإنسانوي الذي افتتحه جان جاك روسو والذي يترسخ فيه انسحاب الإله والسعي لنقل السلطة إلى قلب الإنسان وإرادته الحرة وحساسيته وأناه العميقة.
وقد تولّدت حسب هراري عن الإنسانوية أو المذهب الإنساني أمور ثلاثة: أولا الليبرالية الفردية وثانيا الاشتراكية التي يرى أنها وصلت إلى أوجها مع فلاديمير لينين وماو تسي تونغ! ومن الغريب أنه لا يفرق بين الاشتراكية والشيوعية. وثالثا السياسة التطورية والتي يقول بالحرف الواحد ودون أن يخشى لا من إثارة السخرية ولا الشفقة إنها بلغت الذروة مع “النزعة الإنسانية النازية”! أما العصر الثالث فكما هو الحال لدى أوغست كومت فهو عصر العلم الوضعي ولكن متمثلا اليوم حسب هراري في البيو-تكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
أليس من العبث استغباء القارئ
من المدهش حقا أن تكون لدى مؤرخ أصبح نجما عالميا رؤية خاطئة ساذجة لتاريخ أوروبا الحديثة، أليس مأساويا أن يرى في الفيلسوف جان جاك روسو أب إنسانوية عصر الأنوار بينما هو أول نقادها الراديكاليين!
أليس من الغريب أيضا أن يجعل يوفال نوح هراري من ماركس ونيتشه وفرويد الممثلين المثاليين للإنسانوية في حين أن “فلاسفة الارتياب” هؤلاء هم الذين دمروا قواعد الإنسانوية قبل علماء الأحياء بتطوير نقد جذري لفكرة حرية الإرادة. فليس العلم الحديث هو الذي أثبت أخيرا أن مفهومي “حرية الإرادة” و”الشخص” مجرد خيال كما يعتقد هراري، فالتعارض بين الحتمية والحرية فكرة قديمة قدم الفلسفة ذاتها ولم ينتظر مارك أوريل، ابن رشد، سبينوزا أو سيغموند فرويد البيولوجيين المعاصرين ليطرحوا الإشكالية ويفهموا أنها مستعصية الحل ولا يمكن أن تحل عن طريق العلم لأنها مسألة ميتافيزيقية لا تجريبية. أليس من الغريب أن تغيب هذه البديهية عن ذهن مثقف من هذا الطراز؟
أليس من العبث واستغباء القارئ اعتبار أدولف هتلر وماو تسي تونغ الرجلين الأكثر تمثيلا لإنسانوية عصر الأنوار؟ أيتطلب الأمر جهدا ليعرف الكاتب المؤرخ أنهما النفي المطلق لها؟
يتنبأ يوفال نوح هراري بأن الإنسان سيطاح به مثلما حدث للإله في أوروبا بفضل التقدم العلمي وخاصة البيولوجيا والمعلوماتية والخواريزميات الإلكترونية. يدخل الإنسان في عصر “الداتايزم”، بمعنى معالجة وامتلاك تدفقات البيانات الهائلة التي يخلفها أي مرور على الإنترنت تجعل السلطة التي كانت قديما ملك الإله ثم الإنسان تنتقل من الآن فصاعدا إلى الخواريزميات غير الواعية التي تعرف الإنسان أحسن من معرفته لنفسه والتي تبدأ في حرمانه من حريته شيئا فشيئا.
فالذكاء الاصطناعي حسبه هو الآن أقوى بكثير من الذكاء الطبيعي أو البيولوجي، فهو يتفوق على أي طبيب متخصص في مرض السرطان في تقديم تشخيص واقتراح علاج، ولكن ما لا ينتبه إليه المؤرخ المغامر في مجال العبر-إنسانية أن هذا لا يعني فقدان الحرية فالطبيب يبقى هو العنصر الأساسي في العملية الطبية لأنه سيبقى دائما هو الذي يستعمل الذكاء الاصطناعي لصالح المريض، ما دام الأمر لم يصل بعد إلى الذكاء الاصطناعي القوي المجهز بوعي، بمعنى الواعي بذاته.
ومن الغريب ألا يذكر يوفال نوح هراري هذه الفرضية الشهيرة المرعبة! والتي تثير نقاشا كبيرا بين العبر-إنسانيين والبيو-محافظين. ألا يعرف أن في السيليكون فالي التي تبجله تصرف الملايير من الدولارات من أجل الوصول إلى هذا الذكاء الاصطناعي القوي الذي سيتفوق نهائيا على الذكاء الطبيعي ويستقل بذاته في حدود 2045 إذا ما صدقنا رأي كروزويل صاحب كتاب “كيف نصنع عقلا؟” والذي كلفته شركة غوغل لتحقيق هذا الحلم؟
لماذا هذا الشغف؟
في كتابه الأخير “21 درسا للقرن الحادي والعشرين”، يثير يوفال نوح هراري الضحك عندما يحث المجتمعات على أن تحمي نفسها. ولا يحصّل سوى الحاصل عندما يقول إن الإنسانية المعاصرة تواجه تحديات عديدة أهمها: الانفجار التقنو-علمي، الأزمة البيئية! أما تنبؤه بالصعوبات التي قد تعترض الفرد في النظام الليبرالي والديمقراطي الغربي وأمام تفوق الذكاء الاصطناعي فما هو سوى استنساخ غير مباشر وتحيين “1984” كتاب جورج أورويل الشهير المنشور سنة 1949.
لم ينل كتابه الأول “العقال ـ موجز تاريخ الجنس البشري” نجاحا فوريا ولم تهتم به وسائل الإعلام ومن ثم اهتمام القراء سوى بعدما وضعه مدير عام فايسبوك مارك زوكربيرغ على قائمة كتبه الخاصة وإشادة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي دعاه لمأدبة غداء في قصر الإليزيه وإطراء مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس على صفحة نيويورك تايمز الأولى والكثير من الفنانين النجوم.
لقد وجد جبابرة التكنولوجيا في السيليكون فالي وكل العلماء والمهندسين والمبدعين الرجل الذي يؤكد لهم أنهم إذا ما أرادوا تغيير العالم جذريا فالسلطة لا تزال بين أيديهم وينصحهم ولو بطريقة ملتوية أو لاواعية أن يتجنبوا تحول حلمهم التكنولوجي إلى كابوس مرعب سيكونون فيه هم أول الخاسرين.
وما ساعد أيضا في إنجاح طريقة يوفال نوح هراري هو الأحكام النهائية التي يطلق على الأحداث والظواهر التاريخية والمستقبلية والاستنتاجات والتفسيرات السريعة التي يقدم وهو ما يتناسب مع القارئ العادي عكس الأعمال التاريخية الأكاديمية الصارمة منهجيا وتوثيقيا والتي كثيرا ما تحبط بل تثبط من عزيمة هذا القارئ لصعوبة متابعتها وعدم اقتراحها لحلول مباشرة للمشكلات المطروحة بسبب حذرها واعترافها بعدم الإلمام الشامل بكل حيثياتها.
ومن هنا يجد القارئ العادي في يوفال نوح هراري ما لم يجده لدى علماء التاريخ: البساطة والسهولة واليقين. وهو ما تجده الجماهير الغفيرة في ملاعب كرة القدم فتملؤها ولا تجده على ركح المسرح المعاصر فتهجره.
وأخيرا ألا يحق لنا أن نطرح هذا السؤال الذي قد لا يطرحه غيرنا وقد يراه البعض في غير محله: ألم تتوفر في يوفال نوح هراري ثلاث صفات يستلطفها إنسان الطبقة المتوسطة في فرنسا ساعدت على انتشاره: كونه إسرائيليا، مثليا وبوذيا؟
> حميد زناز