الحب والجمال في ديوان “مسرى الأشواق” للشاعرة فاطمة قيسر

  قبل غوصنا في تلابيب ديوان الشاعرة و الفنانة المقتدرة ” فاطمة بصور ” الزجلي لابأس أن نرسو لنخط موجزا لسيرتنا الفنية و الأدبية، من باب التعريف بهذا الهرم الأنثوي ” مجنونة الحرف و الركح” الذي  خلق الحدث من خلال بسط نفوذها ضمن ألمع كتاب الكلمة الرقيقة و الرزينة، و أنجح المسرحيين في الساحة الوطنية لو أنها لم تعط لها الفرص بالكفاية اللازمة، فهي مبدعة مسرحية و سينمائية إضافة إلى كونها مخرجة و كاتبة سيناريو، عاشقة لكتابة شعر الزجل حيث صدر لها أربع دواوين، عضوة بعدة منظمات و جمعيات فنية، كما مثلت المرأة المغربية المبدعة في العديد من المناسبات خارج أرض الوطن، و حضيت بالتكريم، فكانت خير سفيرة للمبدعات المغربية بصفة خاصة و المرأة المغربية بصفة عامة.  

           إن أول ما يشد الانتباه و نحن نطالع هذا الديوان الذي يقع في 112 صفحة من الحجم المتوسط و يضم 52 قصيدة هو تلك الكتابة الشدرية التي جعلت منه شعلة تفيض بالجمال من حيث التركيب أو المضمون، ذو ملمح رزين يجمع كومة من متعددة من الانشغالات التي باتت تورق بال و سكينة الذات الانسانية اجتماعيا و سياسيا ووجدانيا، كما عملت الشاعرة على مزاوجة بين العامي و الفصيح في حلة أنيقة و مستساغة، حيث تتراءى لنا من خلال قراءته تلك اللمسة الأنثوية العذبة و الصافية، لمسة المبدعة المتمرسة المدركة لأغوار الحياة بكل تفاصيلها و المشيعة بالثقافة الواسعة، لمسة تخالف في حكيها الكثير من يكتبون و يسمون أنفسهم بالزجالين لما يفتقرون إليه من مقومات و أسس من الواجب أن تتوفر عليها القصيدة الزجلية و التي تتجلى بالأساس في الصور الشعرية البليغة و الكلمة العذبة و اللفظ ذا الدلالة العميقة التي تجعل المتلقي يسبح في بحر من التأويلات و التساؤلات، فليس من كتب كلاما عاميا يمكن اعتباره زجالا، فالشعر الزجلي له قواعده و أوزانه و نبرته الموسيقية التي تحرك الإحساس و توقظ المشاعر و تجعل المنصت هائما في سماه، و لعل الشاعرة فاطمة بصور قد أفلحت في ديوانها الرابع هذا و الذي استطاعت من خلاله فك – خيوط مخبلة في راسي – (عنوان ديوانها قبل الأخير )، و تسجيل اسمها ضمن قائمة أعمدة الزجل بالمغرب من قبيل أحمد لمسيح و مراد القادري و حسن مفتي و الطاهر سباطة و إدريس العطار و نهاد بنعكيدة .. ، هي مجنونة الحرف و الركح لذا كانت بداية ديوانها كشاعرة مسكونة بعشق الحرف، بالاستجداء بالكلمة و رغبتها الملحة في الكتابة مشبهة نفسها بدالية العنب التي لا تفرز إلا عناقيد من الأحاسيس و المشاعر الجميلة و الصادقة التي تسكر الأرواح، مؤكدة على انتماءها للحيز الوجودي للكلمة في الحياة الانسانية، فالحرف لديها هو قوة و انصهار في نفس الوقت

خليني نكون دالية

و حروفي عناقد عنب

مرة ناكلها

مرة نعصرها

انخمرها/ انقطرها

بها يسكر حساسي

و بمدادها نكتب

شحال من تغريدة

سيحة الزربة

شحال من قصيدة

       لقد استطاعت فاطمة بصور أن تحول جلاميد الصخر لمنحوتات تعج بالأمل و الحب، معطرة بشهد الإبداع، تحمل في طياتها معاني العشق، والوطن، والحنين، مسافرة عبر قوافل هواها و أحلامها التي لا يستوعبها  صرعى الهوى و من اكتووا بنيرانه التي أوقدت منه شاعرتنا الجميلة جنها، فبقراءتنا لديوانها ” كاين علاش ” نلمس زخما شعريا شاعريا و قوة جمالية على المستوى اللغوي و كذا على مستوى تشييد الصورة الشعرية، فضلا عن طاقة إيقاعية لافتة بقيمتها التكوينية في بناء النص، فرغم التعدد و التنوع في طرح القضايا تبقى تيمة البعد الايروتيكي طاغية نوعا ما دون مبالغة أو السقوط في البورنوغرافيا الشعرية، و هو ما ميز نصوصها و منحها دفئا و نفسا جديدا مكسرة بذلك طابوهات الكتابة الشعرية خاصة أنه من حكي أنثوي، و جعل خطابها مميز و ذا طابع حداثي قل ما تطرقت له نصوص زجلية، فهي بذلك في مواجهة القمع الممارس على الذات الآدمية و حريتها،  كما في قصيدة ” اتسنيتك “

قاديت الحالة

تريحت

ب عطر الرغبة

و اتسنيتك

على سرير الشهوة

هاجت دواخلي

فيقت حساسي

كلت مع راسي

بعد الليلة

مزينها خلوة

          كما نلمس حرصها  في ديوانها هذا على القصيدة الاجتماعية أيضا التي تنتمي إلى الواقع الإنساني من خلال طرح عدة تساؤلات باتت تورق المواطن و التي لم تجد لها من تجاوب إلا من خلال الكلمة و لا أدل على ذلك عنوان الديوان ” كاين علاش ” كعنوان مستفز لدرجة أنه يحمل في طياته عدة دلالات تنم عن تجاوز الشاعرة لمرحلة الكتابة المقيدية إلى الكتابة المتمردة و الساخطة و التي تتجسد في المعاناة التي تتوالد في في الذات الحالمة و التواقة لمستقبل أفضل وزاهر تستكين فيه روح الشاعرة و تتلذذ بمفاتن هذه الحياة دون كدر أو ملل، هي رغبة جامحة إذن في تغيير الأوضاع من خلال إعادة الأمور إلى مجراها الحقيقي الذي يليق و يرضى عنه الجميع، و لو أدى الأمر على حد تعبيرها في بـ ( دميص الأيام ) في قصيدة ” علاش ” و هو مصطلح عامي يعني إعادة الشيء كما كان ثم توزيعه من جديد،

علاش م نتيكوش الزمان

و نعاودو نضمصو ليام

بـ مجاج هاد الوقات

نقلبو التاريخ

و نكون أنا التفاحة

و انت الشجرة

اللي م يهزها ريح

          لتبقى الشاعرة منتشية بالأمل و لو عن طريق الحلم من خلال ” زمان الضو ” الذي حسدته في قصة أهل الكهف لكن بصورة مغايرة، متطلعة أن تستيقظ على وقع جميل مشبهة نفسها بشمعة من شأنها إضاءة صفحات تاريخ الإنسانية و إزالة الغشاوة السوداء التي تخيم على العالم،

حيث بغيت ف زمان الضو

نكون شمعة

و شهريار زماني لوقيد

 يشعلني ف تاريخ الانسانية

انضوي صفحاته

ب تعاويد ايفيد

           و للعشق و الولع جانب ليس باليسير في ديوان فاطمة بصور، عشق بكل تجلياته صورته في عدد من نصوصها فيها الشجن و الحب و الغدر و الوحشة و .. ( راه سولني – يلا بصح – وااااه – خليني – يا خسارة- علمني – طل عليا – وخ كاع – قبل – كلت – يا خسارة – ماشي بيدينا … ) سمفونية عزفتها بأوتار قلبها الذي يتراقص تارة عشقا صافيا، عذريا و تارة حبا مشحون بالأسى و الحزب لغدر الحبيب أو هجره، و هنا يمكن أن تستوقفنا مرة ثانية عتبة العنوان ” كاين علاش” كأنها تتساءل ، هل هناك حقا قلب يستحق هذا الحب؟ معتمدة معجما غنيا بالمشاعر المدفونة في قلب امرأة عاشقة لكل ما هو جميل ( مت فيك – تحيا فيا يفدفد لكبية – ولينا واحد – خد العشق – يا تخمامي – يا القاتل في العشرة النشوة – مضوية ظلام دروبك .. ) ناسجة تلك العواطف و التموجات الوجدانية و انعكاساتها النفسية من خلال التكرار المتعمد لعدد من الألفاظ و عناوين النصوص أيضا ( يلا – يلا ) ( وبصح – يلا بصح ) ( خسارة – يا خسارة ) و الذي يمكن اعتباره تفريغا من الشاعرة لكل ما يعج بداخلها من مشاعر مكبوتة محاولة إعادة التوازن لحالتها النفسية، مؤكدة في نفس الوقت على تلك الحالة. و من حالات العشق االلامحدود ” قبل

من حبي ليك

اتمنيت نكون

بلقيس و انت السلطان

قبل م اتحرك خاتم الشوق

نتعرى من ظلام الليل

و نلبس الشمس قفطان

وف رمشة عين

نشرق ف عين لمكان

            لقد حاولت فاطمة بصور عبر ذاتها كشاعرة و فنانة مسرحية متألقة أن تفتح لها وللمتلقي فجوات للرؤيا من خلال متن لغوي شعبي، حلو و عذب التقبل و الهضم، لغة لصيقة بالواقع اليومي، جمعت ما بين كل المحسنات اللغوية و العلاقات المتبادلة بين نص و آخر المراد به إعادة الترتيب و الإيماء و أخرى التلميح كما في ( و كال قلبك طاح وصاب غطاه / مثل شعبي : طاح الحك و لقى غطاه )، و حالات التضاد ( مت فيك / تحيا فيا ) ( نلبس الليل/ نتعرى من الشوفة )، كما أن فاطمة أجادت استعمال تقنيات و أدوات الكتابة الصادقة التي تنزف ألما و أملا، الممزوجة بما هو واقعي و ما هو فني، لما راكمته من تجاربها الشخصية أو الأدوار التي تقمصتها كممثلة خشبة، تجارب مليئة بالأحداث التي تعكس واقع المجتمع و هي التي قالت في ” ديك : حق “

ياك اتعلمنا يا عبد الحق

باللي شجرة كلام الحق

جدورها نابتة ف لعماق

صامدة ف وجه النفاق

و كي كالو ناس الماضي   

سيفها يا عشراني ماضي

يقطع حس البطلان

و يسيل دم البهتان

         و بحكم أن الزجل فن شعبي من أشكال الشعر الذي ينظم باللغة المحكية، أكثر من الحرفية و بجكم أن الشاعرة مجنونة الركح كما تحب أن تلقب فقد صاحبت ديوانها هذا بقرص مدمج بصوت و أداء رفيع يجعل المتلقي يسافر عبر أغواره حرفا و صوتا. و بذلك تكون فاطمة بصور قد تفوقت في إصدارها ” كاين علاش” و استطاعات توظيف كل ما راكمته من تجاربها السابقة، و لعل ما نختم به قراءتنا هذه ما استهلت به الشاعرة ديوانها، قولة جون كوكتو: ” الفن ليس طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة، بل طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة “.

هامش:

وقع خطأ تقني في تركيب هذا المقال بعدد الجمعة الماضي، وإذ نستدرك الخطأ، نعتذر لكاتب المقال وللقراء.

> بقلم: محمد الصفى

Related posts

Top