يحتضن رواق باب الكبير في قصبة الأوداية بالرباط، حاليا، معرضا فنيا للفنان التشكيلي محمد مكوار تحت عنوان “الطريق”، حيث يواصل الفنان، من خلال هذا المعرض الذي يستمر في استقبال عشاق الفن التشكيلي إلى غاية 24 من شتنبر الجاري، تكريس مشروعه الفني الداعي للاستمرارية والاستدامة التي يجب أن تكون عليها العلاقة بين الفن والمتلقي، من خلال اعتماد تقنيات مختلطة ودمج عناصر مختلفة.
ويمثل هذا المعرض، حسب المنظمين، محطة جديدة في مسار محمد مكوار، حيث يقدم فيها الفنان التشكيلي، من خلال خمسين عملا، تجربة فريدة تمزج بين التأمل الروحي والتعبير الفني من خلال استكشاف العلاقة بين الجسد والمادة.
وقد نجح محمد مكوار في هذه المحطة من “طريقه” الفني الطويل، في تحقيق توازن فريد بين الرسم والخط والتمزيق واللصق وإعادة تثبيت المواد، جاعلا من لوحاته فضاءات تزخر بتمظهرات جمالية في غاية التناسق.
المعرض التشكيلي، الذي أطلق عليه الفنان مكوار عنوان “الطريق”، رسالة شعرية بلون المحبة، تسائل الروح والوجدان، وتفتح الباب أمام عوالم تشكيلية يوجدها الفنان بطريقة غاية في الإبهار والمتعة البصرية، ما يجعل من أعماله صورا مشوقة بلا حدود.
لوحات محمد مكوار، في هذا المعرض، الذي جاء بعد معارض فردية كثيرة امتدت لأزيد من أربعين سنة، متعددة الأحجام والأشكال، وتفيض بالكثير من الرموز والدلالات الموحية بشكل رفيع.
إن الفنان التشكيلي محمد مكوار يتففن في رسم كل ما له علاقة بالفلسفة، والتصوف، حيث تجد ألوانا مبهجة توغل في القداسة، وخطوطا أشبه بطريق تقوده إلى النورانية الإلهية، حيث تصفى الخواطر والنفوس.
وفي تصريح للفنان التشكيلي محمد مكوار، أكد أن عنوان المعرض، هو، في العمق، طريق إلى الله سبحانه وتعالى، وهو المستقيم، مبرزا أن ناس زمان كانوا يقولون “خذ معنا الطريق”، أي سر على الطريق المستقيم، وهذا هو المغزى، بكثير من المعاني الوجودية والفنية والاجتماعية.
وحول إن كان قد يصنف ضمن ما يسمى بالحروفيين، خاصة أنه يوظف الحرف داخل اللوحة، نفى مكوار أن يكون كذلك، مبرزا أن استعمال الكلمة داخل اللوحة، هو استعمال محدود، ويحيل إلى اللغة العربية بسموها وقداستها.
ولفت إلى أن الكلمات، جاءت مقطوعة في اللوحات، مثل (أبي وأمي)، وأنه عمل على إعادة ترتيبها، حتى تبقى لتلك الكلمات معانيها وكرامتها، وأهميتها في الحياة وفي المجتمع، مشددا على أن معرضه الجديد هو امتداد للمعارض السابقة التي انطلقت منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي.
وتشكل أعمال محمد مكوار عالما فريدا يجمع بين المسحة الشعرية الموحية، والرمزية التعبيرية، التي تمنح للمتلقي مساحات شاسعة للتأمل، وطرح السؤال الفلسفي، وذلك في قوالب فنية تجمع بين المادة والجسد والملامح الموغلة في بلاغة الإبهام والغرابة أحيانا.
لوحات مكوار في هذا السياق، رؤية إبداعية للعالم والوجود، وكتلة مشاعر تعبر بكل أريحية عما يختلج الفنان من نبضات، إنه أشبه بحوار دفين، يجسد رحلة فنية مشوقة، تلامس النور والعتمات، وتمنح القارئ إحساسا بالجمال، وعناقا تجريديا بين الروح وعوالم غيبية وصوفية، تصنعها الحروف والكلمات التي تضئ طريق الحلم.
ويعتبر محمد مكوار، الذي ولد في الرباط سنة 1962، من الفنانين الذين ساهموا في إثراء المشهد الفني المغربي بأعمالهم الفريدة والمبتكرة التي تتسم بتقنيات التقطيع والتجميع والتراكيب المبتكرة والمزج بين الألوان والخامات لخلق توازنات بصرية وتعابير عاطفية.
وشارك الفنان التشكيلي، الذي انطلقت مسيرته الفنية في بداية الثمانينيات، في أكثر من 30 معرضا جماعيا، كما نظم 17 معرضا فرديا.
***
في حضرة الفنان محمد مكوار
كتب: حسن خيي
بكثير من الأمل والإصرار يلج الفنان مكوار تجربته التشكيلية الجديدة، بالاعتماد فقط على إمكانياته الذاتية ورؤيته الفنية الخاصة، بعيدا عن فوضى المرئي، وبعيدا عن المفاهيم الفنية المستغلقة التي أصبحت تؤطر الفن وتهدد مساره أحيانا.
الفنان مكوار مؤمن بالفن كرسالة إنسانية، ومولد للغبطة الجمالية كمشروع جدي لمعاجلة مسألة الهوية في الفن البصري، يترنح بين هاجس القلق والإحباط وبين الطمأنينة والسكون في صيرورة الحياة العصرية وهاجس الحلم البعدي القريب، في الفضاء المفتوح على مساحة اللوحة حين يكون فيها لمعان الضوء نورا يهتدى به.
ما يستعصى على الفهم هو إبراز وإظهار وإجلاء ما يختفي وما يتوارى في منتوج الفنان، فمكونات اللوحة التي تقوم على حركات الأجساد، وتوزيعها داخل الفضاء، فرادى أو مجتمعة أحيانا، في وضعيات مختلفة تحتدم فيها العلامات والرموز والأصباغ والآثار في بؤر هي طبقات تصويرية مستعملة بحسب وتائر ودرجات وإيقاعات تحكمها حضرة اليد وهي تشكل رقصا خاطفا، يسجل نمطا من الكتابة التعبيرية، المحكمة بلمسات الفرشاة السريعة والتلقائية، النابعة من نبض الذات وذلك عبر إيقاع يمارس لعبة الملء ويراعي قيمة الفراغ في آن واحد، وفق مسلكية تعبيرية رمزية تتسم بالتوزيع الفضائي المحكم، وبالاقتصاد البليغ على مستوى التلوين والتركيب إلى جانب تقنيات تشكيلية تتعلق بالإضمار والاختزال بالرغم من عفوية متعاكسة منخفضة تمنح اللون والمادة سطوتها الإنسانية واللاشكلية، يتخذ السكون معباره لتثبيت الوحدات التشخيصية، وإدماجها ضمن ما يشبه حكائية تصويرية تروم تخفيف حدة البعد التجريدي، استنادا إلى تبعية الخط الذي يتدخل بتحفظ موزون للإحاطة بأثر السيل وتحويله إلى شكل مقروء.
حروف كلمات ممزقة فملصقة، ضوء المادة ولونها حسب طبقات عجينية ملطخة تتجزأ وتتقاطع ويعاد تركيبها حسب متطلبات موضوع اللوحة إلى أن تصبح المحاور الحقيقي مع المتلقي، بعدما كانت غائبة طيلة عهود مضت، إنه يجردها من مفهومها وينذرها للفراغ ولروعتها الجسمانية، والحرف أحيانا يتحول إلى كلمة ذات بعد صوفي وأحيانا أخرى لا يبقى غير شبح الحرف، كما لو أنه خط شخصي يأخذ شكله في مجهولية جسده وأحيانا يتحول الشبح ذاك بشكل راديكالي إلى انبساط التعاريف ليأخذ شكل رق يحاكي الكتابة ودعوى إلى انمحائها الأصلي.
يذكر أن المعرض الجديد للتشكيلي محمد مكوار يحتضنه رواق باب الكبير بقصبة الاوداية منذ العاشر من هذا الشهر ويستمر في استقبال عشاق هذا الفن وهذه التجربة إلى غاية 24 شتنبر الجاري.
***
مكوار يحاور الصوفية بألوان الحلم
كتب: حميد السالمي
في زحمة القلق والتوترات اليومية، يصعب إيجاد التوازن مع أنفسنا، مع محيطنا، مع العالم كله. يصادق الفنان بتجربته الخاصة من موطنه الخاص وحتى من داخل ضيق الفضاء الذي يلهمه، مساراته، تتسع الصباغة عنده إلى رحاب التقاطعات داخل التوزيع الهندسي للوحة وخصوصية الألوان حين تغازل نفسها وتتحدى الأفكار الجاهزة.
الفنان ينسج عالمه الروحي الممزوج بالصمت والتجاوز امتدادا للأشكال والسمو أو الرقي بهذا الإحساس الذي يعطي معنى للحياة ومصداقية لهذه المباحث، ليختبر وقع الألوان وتناغمها وانسجامها مع الأشكال المتفاوتة التأليف، وليشتق مادة رسمه مما يجول في باطنه من انفعالات وفي ذاكرته من ذكريات وفي مخيلته من رأى، وهو ما يشكله الفنان في عالمه هذا داخل لوحاته، فمن تأملات وجودية مفتوحة على تأويلات متعددة إلى متغيرات الذات، والنظر في مرحلة حركية الشخوص ببنيتها وصراعها الوجودي تم الاستغلال الدال على العلامات البصرية وإيحاءات العين وكتلة الأحاسيس، لا تنفك تحمل في طياتها حقائق إنسانية يجدر التوقف عندها وتبنيها، إنها خاصية تترجم لنا رمزية مكوار التي ترفض الانصياع إلى قلقها الداخلي ولكنها تبوح به بأسلوب أنيق وصادق حتى وإن كان يميل إلى سحر بصري، مبالغ فيه أحيانا، يفصح عما يسكن صدر هذا الفنان من هواجس وآلام، آفاق وأحلام، لأنه لن يتبقى لنا سوى الأحلام لنبني لأنفسنا جسرا للتواصل والتفاعل، لقد اكتشف الفنان في حواريته مع الصوفية، وهي موضوع أعماله الجديدة، اكتشافا مذهلا: الحلم كقوة الفنان اللاواعية: الحلم كآلة خلاقة للأشكال بل وكشرط لكل إبداع تشكيلي فيه يحقق الفنان حميميته مع ذاته كمركز ثابت، يثبت ذاته ويثبت العالم حوله، من هنا يصير الفن مع الفنان مفتاحا ودليلا لولوج حياة العالم الجوهرية، ويصير موضوعه الحق، ليس الكائن البشري الذي يبدع هذا الفن وإنما عمق العالم لا كخلاص ولا كجشع ولا كمكابدة لا سكون فيها، وإنما كفرح وغبطة يترنح فيها بين النشوة والتذوق، خارج الزمن لا يملك الفنان منها سوى ترنيحاته وشطحاته لأنها تصبح عنده أهم من المنجز.
يعطي الفنان بصمته وتصوره للمستقبل الفني في زمنه، فمشاريعه الفنية تصب جميعها في تبسيط الأشكال وروحانية الألوان من أجل فتح حوار تشكيلي يوصلنا إلى البراءة والتلقائية التي ينطق بها الأطفال أو الحكماء.