المسرح والهجرة…

قد يتساءل المرء عند أول وهلة: ما العلاقة التي تربط الهجرة بالمسرح(1)؟ فيتبادر للذهن كجواب مبدئي أنهما ظاهرتان مجتمعيتان مستقلتان لا رابط بينهما. لكن بالنسبة للمتأمل الحصيف، هما مرتبطتان بحبل سري لا ينقطع. فنشأة المسرح بأنواعه ببعض البلدان تم ويتم بفضل الهجرة. وتطوره واستمرار انتشار أنواعه ومدارسه يتحقق أيضا بشتى الوسائل ومنها الهجرة. وقد يتبين لنا لاحقا معنى هاتين الإشارتين.

ما الهجرة؟

الهجرة هي أن ينتقل كائن ما عن مكان إقامته المعتاد. والهجرة تاريخيا وطبيعيا هي ظاهرة قديمة قدم العالم. ولولا الهجرة التي قامت بها الكائنات الحية عموما لما كان العالم كما نعرفه الآن، خصبا، غنيا، مختلفا، ومتنوعا. فالحيوانات هاجرت وتهاجر محققة التنوع الإحيائي؛ ولقاحات وبذور النباتات تهاجر بالرياح وفي فروة وزغب الحيوانات، ومع مجاري المياه، لتزرع الخصب حيثما راحت. أما الإنسان فهاجر وتوالد، فكانت الشعوب والأمم، ونشأت الحضارات، وتلاقحت، فتنوعت مشاربها واختلفت.
بمعنى أن الهجرة عامل أساسي لتحقيق التلاقح والخصب، والنماء، والتنوع، والغنى، والازدهار، سواء في الطبيعة أو بالنسبة للإنسان وما ينتجه من حضارات بفكرها وثقافتها وعلومها وفنونها المختلفة ومنها المسرح.
والهجرة بمعناها المتداول، كما يصطلح عليه من طرف المنظمة العالمية للهجرة (IOM) التابعة للأمم لمتحدة، هي: أن ينتقل المهاجر عبر حدود دولية أو داخل دولة بعيد عن مكان إقامته، بغض النظر عن: أولا الوضع القانوني للشخص؛ وثانيا ما إذا كانت الحركة طوعية أو غير طوعية؛ وثالثا ما هي أسباب الحركة؛ ورابعا ما هي مدة الإقامة.
لكن، إن كنا قد سطرنا على أهمية الهجرة في الانفتاح والتلاقح والغنى، فلا بد أن نشير أيضا إلى أن للهجرة واجهات أقل إشراقا، خصوصا إذا كانت من أجل غزو الآخر واستغلاله؛ أو فيما يتعلق بالهجرة غير المعقلنة من البادية إلى المدينة، وما ينتج عنها من إفقار البادية وعشوائية في حياة المدن؛ أو هجرة السواعد والأدمغة إلى خارج البلدان خصوصا بالنسبة للدول النامية.

أنواع وأسباب ودوافع الهجرة

الهجرة أنواع، تلك التي تتم بطواعية، وأخرى بإكراه، وقد تكون نهائية بلا رجعة، أو قد تكون مؤقتة يعود فيها المهاجر إلى وطنه الأصلي.
أما أسباب ودوافع الهجرة فهي تاريخيا شتى.
أول دوافع الهجرة كان هو البحث عن الطعام، ثم عن الكلأ، والهروب من القحط والجفاف والفيضانات والثلوج حسب فصول السنة. ثم كانت الهجرة بسبب الحروب، حيث يهاجر الغزاة من أجل التوسع وبسط النفوذ؛ ويهاجر المضطهدون للفرار والنجاة بأرواحهم ومعتقداتهم. فكانت الهجرة على سبيل المثال لا الحصر من مكة ليثرب للفرار بدين النبي محمد(ص)؛ وكانت الهجرة إلى الأندلس للفاتحين المسلمين؛ نفسها تسببت في هجرة الكاثوليكيين من الأندلس لشمال شبه الجزيرة الإيبيرية إلى ما وراء پواتيي (Poitier) جنوب فرنسا؛ ثم تطور مفهوم الهجرة إلى البحث عن الذهب والمال والأسواق الاقتصادية ووو… وكانت الهجرة أيضا لطلب العلم ومعرفة الآخر وثقافة الآخر، وأيضا لنقل الثقافة الذاتية إلى الآخر.

تلاقح الثقافات أساسي لنشأة المسرح وانتشاره وتطوره

سبق وأشرنا إلى أن الهجرة، لسبب أو لآخر وفي اتجاه أو آخر، تحمل في طياتها تلاقحا فكريا ومعرفيا وفنيا. وهكذا سنستشهد ببعض الحالات لتبيان ذلك:
1 عندما زار شكيب أرسلان (أديب ومفكر وسياسي لبناني الأصل) تطوان في سنة 1930 تغيرت مفاهيم العمل السياسي عند نخبة الشباب التطواني المثقف آنذاك الذين سيوسمون بالوطنيين، فتعددت وتنوعت أساليب وتكتيكات الحركة الوطنية من أجل رفع الوعي عند الأهالي. إذن هي مجرد “زيارة” لشخصية وازنة لا تصل حد وصفها بـ “هجرة” أثرت في الوعي الجماعي المحلي. وهكذا نجد عبد الخالق الطريس يوظف المسرح لهذا الغرض ويكتب سنة 1933 مسرحية “انتصار الحق على الباطل” يدور موضوعها حول شاب من أسرة ميسورة يرغب في الرحيل (الهجرة) إلى إسبانيا (بلد المستعمر) طلبا للعلم، بينما يخاف أبوه عليه من ضياع دينه. فكانت خلاصة الصراع بالمسرحية هي الدعوة للانفتاح. فحين كتابة مسرحية “انتصار الحق على الباطل”، كان المجتمع المغربي بصفة عامة أميا أو يقتصر أفراده على حفظ ما تيسر من القرآن وتعلم مبادئ علوم الدين، فرأى عبد الخالق الطريس أن يدعو في مسرحيته إلى الهجرة من أجل اكتساب علوم عصرية والانفتاح على معارف جديدة بالنسبة للمجتمع المغربي آنذاك، بهدف تحقيق النهضة المنشودة من أجل تحرير الوطن لاحقا.
2 وفي إطار فعل التلاقح الفني هذا، نجد موليير يترك باريس ليتجول في معظم مدن وقرى وبوادي فرنسا بفرقته البسيطة المتواضعة زهاء ثلاث عشر سنة. فكانت له، خلال رحلاته هذه، لقاءات بفرق مختلفة وشخصيات مسرحية متعددة فرنسية طبعا ومنها أيضا الإسبانية والإيطالية. هذه الرحلات، وما تمخض عنها من إغناء تجربة موليير وفرقته، طورت تجربته الإبداعية وأهلته في نهاية المطاف ليعرض مسرحياته أمام الملك لويس الرابع عشر بقصر ڨيرساي.
موليير هذا قال عنه الكاتب لويس مولان في مقدمة كتابه “موليير والكوميديا الإيطالية” الصادر سنة 1863 العبارة التالية: “لذلك، يوجد في عمل موليير وفي عبقريته، جزء يجب منحه لإسبانيا، وكذلك جزء يجب منحه لإيطاليا”.
معنى هذا أن موليير استفاد من تنقلاته (أي هجرته) التي منحته فرصة التقاء بأشخاص عديدين منهم فرنسيون وأيضا أجانب نهل منهم وطور تجربته من خلال تبادل التجارب والخبرات معهم.
3 بفضل الهجرة أيضا دخل المسرح الغربي بلدان الشرق الأوسط. فنجد مثلا مارون النقاش اللبناني، الذي كان يعمل تاجرا، يعتبر أول من أدخل المسرح إلى العالم العربي. لكنه لم يكن ليفعل لولا أنه كان يتقن اللغات التركية والإيطالية والفرنسية؛ ولكونه كان يشتغل بالتجارة فقد طاف مدن الشام، وحضر إلى الإسكندرية وزار القاهرة، ثم سافر إلى إيطاليا فأدهشته مسارحها وما يمثل فيها من الروايات. ولما عاد إلى بيروت ألف فرقة مسرحية من أصدقائه، ودربهم على تمثيل رواية «البخيل». ولما أتقنوها دعا إلى حضورها القناصل والأعيان في منزله بالشارع المعروف باسمه في حي الجميزة ببيروت سنة 1848(2). لاحظوا أن مارون النقاش كان يتقن اللغات وانتقل إلى بلدان متعددة بحكم عمله ومنها بالخصوص إيطاليا.
4 ثم هناك فعل الاحتلال الأجنبي بالنسبة للبلدان العربية مثلا.
صحيح، كانت لهذه البلدان على غرار باقي الشعوب فرجات شعبية، لكنها لا تستجيب لمعايير المسرح كما هو متعارف عليه والمنحدر من المسرح اليوناني. فإذا اقتصرنا على المغرب على سبيل المثال، نجد أن له فرجات شعبية متعددة منها الحلقة ورقصات أحواش وأحيدوس وبابا عاشور وبوجلود وعبيدات الرمى وغيرها كثير.
لكن الاحتلال الأجنبي العسكري وما رافقه من استوطان مدني من طرف الأجانب، أغنى الساحة الفنية بالبلدان العربية، فأثر الوافدون الجدد في المجتمعات العربية بثقافتهم وفنونهم ومنها المسرح.
في هذا السياق أشير إلى ما وقف عليه الأستاذ الباحث رضوان احدادو(3) عن تاريخ المسرح بتطوان، إذ يقول إن الإسبان لما دخلوا تطوان سنة 1860 دهشوا لما كانت عليه المدينة من رقي حينها ومظاهر حضارية بادية للعيان. فكتب أحدهم(4) قائلا ما معناه: تطوان مدينة كاملة متحضرة لا ينقصها إلا بناية مسرح. فكان أن بني أول مسرح خشبي بتطوان من طرف الإسبان بمدرجات وخشبة بمكان حدائق القصر الملكي الحالي.
5 ثم هناك عامل آخر وهو الهجرة المؤقتة في الاتجاه الآخر نحو الشمال من طرف التجار كما هو الشأن بالنسبة للنقاش، وللعاملين أيضا في الحقل الدبلوماسي، ولطلبة العلم. وهنا أخص بالذكر عموما الأشخاص الذين يطول بهم المقام بالدول الشمالية بما يكفي للنهل من ثقافاتها وفنونها في فترة زمنية كان يعز فيها السفر لخارج الأوطان العربية إلا للقلة القليلة من الناس. هؤلاء عادوا لأوطانهم متأثرين بما نهلوه من ثقافات وفنون الغير.
باختصار، هذا سرد سريع ومختزل جدا بقدر ما يسمح به المقام لبعض عوامل ارتباط المسرح بظاهرة الهجرة، وانتشاره بدول العالم العربي عموما.
المسرح في خدمة الإدماج والحد من الهجرة

لكن الهجرة لم تكن دائما من الشمال نحو الجنوب، فأصبحنا نتحدث الآن عن هجرة عشوائية مستمرة ومترسخة من الجنوب نحو الشمال، خصوصا لطلب الرزق، مصحوبة بمشاكل عدة بالنسبة للمهاجرين وأيضا بالنسبة للبلدان المستقبلة ومنها قضية الاندماج. ولما انتبهت شعوب الدول الشمالية إلى أن الهجرة نحو بلدانها أصبحت أمرا واقعا لا يمكن تفاديه أو القضاء عليه، فكرت في الحد أو التخفيف من سلبيات الظاهرة بالعمل على إدماج المهاجرين بشتى الوسائل ومنها المسرح.
هكذا أصبحنا نجد العديد من المسارح والدوائر الرسمية تشجع على استخدام المسرح كوسيلة لنشر ثقافة عدم التمييز، ومحاربة العنصرية العرقية، وبشكل أساسي إدماج المهاجرين في المجتمعات الغربية. ولنا أمثلة متعددة لا حصر لها أذكر منها مثلا:
> مسرح تورسكي الدولي بمرسيليا. هو مسرح عصري كبير، مجهز بأحدث الوسائل التقنية والمرافق المتعددة، موجود بحي شعبي يسكنه الأجانب عموما، يستقطب ضمن أنشطته الشباب المهاجر أو المنحدر من أسر مهاجرة للتعبير عن ذواتهم وثقافاتهم الأصلية، وربما معاناتهم، بكل حرية، كمرحلة أولى في طريق الاندماج.
> هناك أيضا وليس على سبيل الحصر “مسرح الحرية” بمدينة طولون الفرنسية الذي له أنشطة مشابهة.
> وغير هذين المسرحين كثير بمدن ودول أوروبا وحتى أمريكا الشمالية، التي تعرف هجرة مستمرة من دول أمريكا اللاتينية.
> ثم تجدر الإشارة إلى تجربة مهمة للغاية اعتمدتها دول غرب إفريقيا ومن بينها السينغال أساسا وڴامبيا وهي صيغة “المسرح الاجتماعي”. هي تجربة فريدة من نوعها والتي من أبعادها، من جهة، جعل المسرح قاعدة للتوعية والحوار محليا، بين فئات الشباب الراغب في الهجرة، والشباب الذي عاد إلى الوطن بعد محاولة الهجرة، وأيضا أسر الشباب الذي هاجر ولم يعد أو انقطعت أخباره؛ ومن جهة ثانية، التنسيق مع مسارح أوربية تعمل من أجل نفس الغرض.
أهمية هذه التجربة أنها تحاول أن تجعل من المسرح قوارب نحو الوطن.

بعض الأعمال المسرحية المغربية التي عنيت بموضوع الهجرة

إن موضوع الهجرة ومخاطرها، بعدما تعززت أساليب محاربتها والحد منها على مختلف حدود بلدان الشمال، أسالت الكثير من المداد من طرف كتاب المسرح بكلتي الضفتين. فكانت هذه الكتابات قناة أخرى للتوعية والاندماج والحد من المخاطر التي تعترض المهاجرين.
وسأقتصر فيما يلي على بعض النماذج المغربية لهذه الكتابات التي تطرقت لهذا الموضوع في سياقات ولأغراض مختلفة.
> مسرحية “انتصار الحق على الباطل” مثلا، التي تدعو إلى طلب العلم. والهجرة في هذه الحالة تتم في ظروف آمنة لا خطر فيها على المهاجر المحتمل.
> أما المسرحي المغربي رضوان احدادو فقد عالج موضوع الهجرة من أجل تحقيق هدف آخر، في زمن آخر، عندما كتب مسرحية “طارق الذي لم يعبر”. فاستحضر شخصية تاريخية مشهود لها بالبطولة والعزة والنخوة، شخصية فاتح الأندلس طارق بن زياد، وهاجر بها عبر الأزمان والحقب إلى زمننا، ليصف آفات المرحلة الموسومة بالتردي والانهزام والضياع، وبالرغبة الملحة في الهجرة إلى الضفة المقابلة من أجل كسب لقمة العيش، ولو على حساب الكرامة والنخوة والعزة والحياة.
هكذا نجد طارق يقول في مسرحية “طارق الذي لم يعبر” صفحة 61: “كل الأزمان لها بطولاتها. وشهادة هذا الزمن هي من أجل الخبز..”.
لاحظوا أن الهجرة الأولى لطارق بن زياد كانت لنشر الدين ونشر عقيدة الإسلام، في حين أن هجرة كل “طارق بائس” أتى في زمن لاحق غير زمن “طارق الفاتح” فهي من أجل كسب لقمة العيش وما تحمله في طياتها من هوان.
> النموذج الثالث هو مسرحية “أحلام بلا لون” من تأليف صاحب هذا المقال. هي مسرحية تدور أحداثها في منطقتي بنيونش وميناء طنجة المتوسطي (حسب الوصف والتلميح داخل النص دون التصريح بذلك صراحة). فقد تناولت المسرحية موضوع الهجرة بالنسبة للشباب الآتي من جنوب الصحراء أساسا، والذي يجعل من المغرب عند انطلاقه من موطنه الأصلي بلد عبور، لكنه كثيرا ما تنتهي به المغامرة بجعله بلد الاستقرار. ثم إن العمل ككل يدعو إلى عدم الهجرة بأساليب مختلفة غير مباشرة من ناحية، ومن ناحية ثانية يعمل على خلخلة ودحض الاعتقاد السائد بأن الضفة الشمالية تمثل “الألدورادو” أو “الفردوس المنشود”. وهو فردوس لا وجود له إلا في مخيلة اليائسين بأوطانهم التي ينخرها الظلم والفقر وتفاوت الفرص. كما تحث المسرحية على لفت النظر إلى أن بلدان الانطلاق من أجل الهجرة هي بلدان حبلى بالفرص لأبنائها، وتحفظ لهم – على كل حال – كرامتهم وحياتهم.
هكذا نجد “أومُو” وهي إحدى شخصيات المسرحية تقول في ص 39:
أُومُو: لا أفهم لم يفكر شباب هذا البلد في الهجرة؟ أحس أن هذا البلد ما زال يوفر فرصا عديدة للعيش الكريم.
وفي ص 40 تبدي “أومو” بجد عزمها على جعل بلد العبور (أي المغرب) بلدا للاستقرار، فتقول:
أُومُو: (بانكسار، مشيرة للرضيع) بثقلي هذا أصبحت أفكر جديا في الاستقرار بهذا البلد… لن أغامر بحياتي وحياة ابني، لن أسلك طريق العبور، هو طريق للموت لا رجعة منه.
لكن لموضوع الاستقرار ببلد أجنبي جوانب ليس وردية دائما. ففي حوار بين “أومو” و”مامادو” نجد التحفظ التالي:
أُومُو: مهما قلتم من كلام كبير، والله لو قبلوا إقامتي بهذا البلد لما اخترت غيره.
مامادو: عليك أن تعلمي، إذن، أن الغريب يبقى غريبا مهما تطبع أو تجنس.
بمعنى أن المهاجر غير الشرعي مهما حلم بعالم وردي بوطن غير وطنه، لا بد وأن تجتاحه لحظات ندم قد تلزمه أبدا إلى ما لا نهاية. فنجد في ص 48 ضمن حوار يدور بين “أمينتو” و”أومو”:
أمينتو: ليتني ما فكرت في الهجرة.. تركت أمي.. أسرتي.. قريتي.. وطني… الموت هنالك أرحم من فردوسٍ مهين، وحلم أصبح من سراب…
أُومو: يبدو أن الفردوس المنشود وهم، لا يوجد إلا بخيالنا.. كان أجدر أن نبحث عن فردوس أكثر واقعية في دواخلنا وفي تفاصيل أدغالنا وصحارينا.
بمعنى أن لا بلد عقيم وشحيح بالمرة، وأن ببذل بعض الجهد يمكن للفرد أن يتخلص من فقره وحاله التعيس.
ولدحض فكرة الفردوس المنشود تمت الإشارة داخل المسرحية إلى أن الهجرة المضادة نحو الجنوب أصبحت متنامية في السنين الأخيرة من طرف الأوروبيين ومن طرف من عادوا إلى الوطن بعدما خبروا الهجرة وذاقوا مرارتها.
فنجد في ص 55 قاسم يقول:
قاسم: فرص العمل هنالك أصبحت شحيحة، بينما سبل الانحراف والتشرد مشرعة ورحبة.
ويرجع هذا العمل المسرحي سبب الضياع والانحراف في بلد الغير، حين تسير الأمور على عكس المتوقع، إلى عامل فتاك وخطير وهو عامل “المكابرة”. فنجد الحوار التالي يدور بين “قاسم” و”سامبو” و”مامادو” في ص 55-56:
قاسم: المكابرة هي نتيجة الخوف من التعرض للتشفي في حال العودة إلى الوطن الأصلي بعد فشل التجربة.
مامادو: ردة فعل طبيعية لكبرياء خدش، يكفي تخيل مدى المعاناة التي قد تعتري أي إنسان في مثل هذا الوضع.
سامبو: وهل سبق لك وعبرت؟!
مامادو: (كمن يتذكر) لا، بل كابرت عندما خطرت ببالي فكرة الهجرة، كابرت وأنا أصم أذني عن كل نصح، كابرت وأنا أثقل كاهل الأقارب لجمع ما تيسر من مال، كابرت وأنا أتخلى عن مسؤولياتي تجاه الأسرة، كابرت.. وكابرت.. وكابرت…
باختصار فإن مسرحية “أحلام بلا لون” ناقشت ضمن سياقها موضوع الهجرة، والهجرة المضادة، والاتجار في البشر، وموضوع الهوية، وقضايا أخرى بإيحاءات خاطفة. فجاءت المسرحية نداء لكل من عزم على المغامرة بالارتماء في أحضان البحر أن يفكر أكثر من مرة. فالهجرة من الوطن هي هجرة من الذات كما جاء في ص 49:
أَمينتو: الظاهر أن الهجرة لم تكن من أوطاننا، بل من ذواتنا، من كرامتنا وهويتنا. ندوب التجربة غيرت ملامحنا.. نفوسنا.. غيرت طباعنا.. حولتنا إلى غرباء عن كينونتنا.
> بعد هذا أتطرق لعمل مغربي آخر متميز، حصد عدة جوائز في مهرجانات مختلفة، وهي مسرحية “شاطارا” لمجموعة مؤلفين. هي مسرحية تحكي قصة ثلاث مهاجرات من جنوب الصحراء اقتضت ظروفها أن تهاجر إلى بلدان الشمال. هي في الواقع مسرحية تكاد تكون مكونة من ثلاثة مونولوڴات مستقلة تسردها بالتناوب ثلاث فتيات إفريقيات. مسرحية تعالج أيضا قضية الهجرة ودوافعها وسلبياتها.
> وأخيرا مسرحية “جنوب” للدراماتورج البصري يوسف الريحاني، والفائزة بجائزة دبي الثقافية الأولى لأحسن مسرحية عربية عن سنة 2014، كما حظيت بالعديد من تنويهات النقاد والمختصين. فنجد الناقد محمد اسماعيل مثلا يقول عنها(5) “بحلم التغيير وتسوية نتوءات الجغرافيا والحدود بين جهات الأرض، يبدو مهموما المسرحي المغربي، يوسف الريحاني، في نصه «جنوب»، وجها مسرحيا متمردا، يلخص جانباً من مأساة نوارس تتساقط بالجملة من دون أن تبلغ الضفة الأخرى… على بحر «المتوسط» كل يوم، من القادمين في الغالب من الجنوب البعيد (إفريقيا)، أو حتى القريب (المغرب وسواها من الأقطار المتاخمة لذلك الشمال… “.
هكذا يكون المسرح قاربا آخر نحو الوطن وهجرة نحو الذات والكينونة.

——————–

هوامش:

1 – نص معدل لمداخلة ألقيت بالندوة العلمية للنسخة الرابعة لأيام الفنيدق المسرحية يوم لجمعة 08 نوفمبر 2024.
2 – نص منقول بتصرف عن مقال تاريخ المسرح في العالم العربي نشرته مؤسسة هنداوي. https://www.hindawi.org › books
3 – كتاب رضوان احدادو “المسرح في تطوان سنة 1860” (قيد الطبع)، عن مقال صدر بجريدة “مخبر تطوان” الإسبانية Noticiario de Tetuan.
4 – نفسه، في إحالة لكتاب “شاهد عيان على حرب إفريقيا” ل Pedro Alalcon.
-5 صحيفة الإمارات اليوم / مقالة بعنوان: (جنوب.. نوارس هاربة تتساقط على مسرح مارق) بتصرف.

< بقلم: الطيب الوزاني

Top