إسهاما في التوضيح…

بعض المواقف والقراءات، من داخل بلادنا ومن محيطنا العربي، تصر  هذه الأيام على أن لا ترى في المستجدات الدبلوماسية والسياسية الأخيرة، سوى”صفقة تجارية” أبرمها المغرب، وتقوم على تقابل بين الصحراء وفلسطين، وبالتالي هي تمعن في جر كامل النقاش إلى منبر الشتائم واللعن في حق المملكة.
خطيئة بارونات هذا الخطاب الشتائمي أنهم يعتبرون المغرب بلا قضايا وطنية كبرى، وبلا مصالح استراتيجية كباقي الدول العريقة، وأنه ليس دولة حتى.
نعم أيها الناس، المغرب يعاني من استهداف وحدته الترابية وسيادته الوطنية على أقاليمه الصحراوية، ويدوم هذا النزاع المفتعل حوالي نصف قرن، وقدم الشعب المغربي من أجل ذلك تضحيات جسيمة، ومست تداعياته السلبية باقي شعوب المنطقة والمنظومة المغاربية الإقليمية المشتركة، وتبعا لذلك هو يسعى منذ سنوات للطي النهائي لهذا الملف العبثي، والذي تقود إشعال نيرانه دولة جارة، وهي التي شرعت اليوم في قرع طبول الحرب ضد بلادنا من جديد، وأطلقت ماكينتها الإعلامية للهجوم علينا بكثير من العدوانية والخسة والجهالة والإسفاف.
الموقف الأمريكي الجديد من تطورات هذا النزاع المفتعل هو انتصار ديبلوماسي حقيقي وكبير للمملكة، ومن حق المغرب تثمينه والاحتفاء به والفرح به.
من جهة ثانية، ليس طبيعيا أن تبنى المواقف والتقييمات من خارج اشتراطات السياق الدولي وطبيعة موازين القوى، وبعيدا عن ما يتيحه الممكن اليوم، ضمن مختلف الانسدادات التي تعانيها مختلف الآليات الدولية، وخصوصا كل المسارات ذات الصِّلة بقضايا الشرق الأوسط.
هنا مرة أخرى نجد لزاما استحضار المبدأ الخالد:(التحليل الملموس للواقع الملموس)، ونرتب عليه سؤالا مركزيا هو:
لماذا يطلب من المغرب اليوم أن ينسى قضاياه الوطنية ويتوجه نحو… الانتحار؟
لماذا ينسى البعض أن ملك المغرب كان الوحيد الذي عبر رسميا للعالم أجمع عن رفضه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكتب ذلك في رسالة، ولا زال موقفه ثابتا إلى اليوم، ولم يخف ذلك عند اتصاله الأخير بالرئيس الفلسطيني محمود عباس؟
ولماذا ينسى هذا البعض ذاته أن بلاغ الديوان الملكي جاء دقيقا في المفردات والمعنى والأفق والأهداف، ولم يترك شيئا للالتباس؟
ولماذا ينسى البعض كذلك أن الملك بادر إلى الاتصال بالرئيس الفلسطيني، عكس دول عربية أخرى، وفِي هذا السلوك كثير من الدلالة والرمزيات والتعبير عن الثبات على المواقف المبدئية؟
واضح أن جر النقاش كله اليوم إلى تقابل بين الصحراء وفلسطين، وتركه معلقا في السماء، سلوك لا يخلو من إصرار على المغالطة.
نعم، المغرب يريد كسب معركة وحدته الترابية، وفِي نفس الوقت أن يبقى على ذات الثبات التاريخي من القضية الفلسطينية.
المملكة لا ترى المعادلة مستحيلة، ولكنها تؤمن بقدرتها على ربح الرهان.
مرة أخرى، ينسى البعض أنه لما فتح المغرب مكتب اتصال بينه وبين إسرائيل نتيجة الأفق الذي أسسته اتفاقات أوسلو، لم يتوقف دعمه التاريخي للقضية الفلسطينية، ولما رسمت الانتفاضة الثانية معالم مرحلة أخرى، قرر المغرب إغلاق مكتب الاتصال، وأيضا تواصل دعمه لفلسطين إلى اليوم.
وسواء من خلال رئاسة العاهل المغربي للجنة القدس، أو عبر منجزات وكالة بيت المال في الميدان، أو من خلال المواقف الرسمية والشعبية كلها، بقي المغرب دائما في قلب فلسطين بلا أي مزايدات أو منة  أو احتراب.
الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين سيبقى كذلك حتى ينال الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله، ويقيم دولته الوطنية المستقلة، والمغاربة لن يتبدلوا أو يصطفوا في خندق آخر غير هذا، ولهذا، وبقدر ما أنهم لن يقبلوا دروسا من أحد في التضامن الصادق مع نضال الشعب الفلسطيني، فهم أيضا لن ينتظروا إذنا أو ترخيصا من أحد ليدافعوا عن وطنهم ووحدته الترابية.
نعم، لقد حقق المغرب نصرا ديبلوماسيا كبيرا وتاريخيا لفائدة قضيته الوطنية، ومن حق المغاربة الفرح بذلك، كما 
أنه فسر وشرح موقفه المبدئي من فلسطين بأكثر من صيغة، ولم يعد في ذلك أي مجال للشك أو الخلط، ومن يروج اليوم لتفسيرات أخرى، ينسى أن يلتفت إلى الواقع كما هو، وليس كما يتمناه أن يكون، وألا يقفز على حقائق السياقات جميعها، والبدائل النادرة التي يمكن توفيرها من داخل تعقيدات الواقع الإستراتيجي العالمي الراهن.
من المؤكد أن الظرفيات كلها صعبة وقاسية اليوم عبر العالم، ولذلك تحتاج القيادات السياسية إلى العقل، وإلى النظر البعيد، لتفتح أفقًا من داخل المسارات المغلقة والجامدة، ولتسعى إلى صياغة أجوبة بشأن المعاناة والأزمات، وذلك بلا تكلس أو جمود أو لعب بالجمل المسكوكة خارج معناها.
فلسطين وقضية الشعب الفلسطيني ومساندة النضال الوطني الفلسطيني، كلها تحتاج إلى مغرب موحد، ووطن يعاني من تمزيق وحدته وسيادته لن يستطيع كسب معركة الدفاع عن قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية، ولهذا اعتبر المغرب أن الانتصار الديبلوماسي الذي تحقق لوحدته الترابية مفيد أيضا لخدمة القضية الفلسطينية.
المغرب ليس من وضع التقابل بين الصحراء وفلسطين، وإنما هو جسد بشكل عملي إرادته القوية بوضع القضيتين في ذات المرتبة على سلم الانشغال الوطني والقناعات المبدئية الثابتة، أي أنه يريد تازة وغزة معا، وذلك  استحضارا لتقابلات التعبير الذي راج منذ مدة حوالينا.

< محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top