المرأة والعنف في ظل كوفيد 19

لعلي وأنا أسترق النظر إلى هذه الصور المتشحة بالضباب السائرة على خط الغياب، أراها تقفز أمامي دون رغبة في الإمعان تحاول اختراق ذاكرتي والترسخ فيها من غير استئذان، أصيخ السمع لنشرة الأخبار التي تصلني من قناة أجنية في قاعة المحطة تلك التي ألفتها وتعودت عليَّ حتى أضحى موظفوها يتقاسمون معي الابتسامة والتحية، يستفسرون عن الأهل والأحباب وأحوال العمل وتعب الرحلة اللا متناهية. لقد وقعت في هذه المحطة عقد الوفاء، وإذا ما تخلفت أسبوعا أو بضع أسابيع تَستخبرُني عيونهم قبل الألسن مدعاة الغياب. هي المحبة التي تنسج خيوطها على درب الأيام. تُطارحني عاملة النظافة قولها “نُحبك لله وفي الله”. وفي لحيظة الوداع على أمل اللقاء وصلني صوت غريب، اعتقدت للوهلة الأولى أنه ربما خُيل إلي سماعه، أو أن حدسي كذاب، لكن سرعان ما تردد الصوت مرة أخرى، وتعاود بقوة أعلى، وعلى غير عادتي تَلَبَّسني نوع من الفضول المتطفل لم أستطع مقاومته واعترتني متعة الاكتشاف التي لم يكن في مقدوري مجابهتها أو مواجهتها، أدرت نصف رأسي أستطلع هذا الأمر الطارئ. غير أني ما لبثت أن تراجعت بمجرد توقف الصوت مرة أخرى لعلي توهمت ذلك، فتحت هاتفي رغبة مني في تزجية هذا الوقت الكريه الذي يمعن في التمدد، لا تفصلني إلا خمس دقائق فقط عن إقبال الحافلة، حملت أغراضي التي لازالت تتحمَّلني وتواصل معي المسير، هممت بالانطلاق لولا أن الصوت أعاد نفسه مرة أخرى، رفعت بصري من تحت النظارات السوداء تلك تسترني مما يعرني لعلي معها وبها لا أثير انتباه من كانوا في القاعة. كان الصوت القادم من ذلك الكرسي المتحرك يحمل في ثناياه أنين وجع خفي. وبمجرد أن أمعنت النظر وتشبثت بتلابيبه فقد أضحى يخونني من حين لآخر حتى تبيّنَت لي ملامح طفلة ذات وجه ملائكي تُشير بعينيها إلى قنينة الماء التي كانت بحوزتي. كان الكرسي المتحرك وهيأة الطفلة يفصحان عن لسان الحال هي من أسرة متوسطة وليس معدمة، ودون وعي مني ابتلعت المسافة واقتربت أكثر نعم بل أكثر وأكثر، ناولتها القنينة دون أن أفتحها، لم تتمنع الطفلة من أخذ القنينة مني. بل كانت ممنوعة من فعل لا تقوى عليه فأصابعها ملتصقة ببعضها البعض، وشبه مشلولة. توقفت مشدوهة مكلومة لا أعرف ماذا أفعل.. في تلك اللحظة رمقت بجانبي طفلا يهمس في أذني: “ما تقدرشي تفتحها، ماما مشات تشري الماء”. وأنا أهم بفتح القنينة والتي كادت تنفتح من تلقاء نفسها، سمعت صوتا يجري يلهث يطوي الثواني، “هاني ماما هاني تعطلت عليك ياك؟”، صوت المرأة يعرفني يخترقني دون مقدمات يقتعد له مكانا بين الأصوات التي جالستني أو جالستها حملتني في الحديث أو حملتها، ولما اقتربت مني أصبحت ملامح وجهها مألوفة لدي، نعم إنها سعاد.
((سعاد طالبة مجدة تتقن أربع لغات تزوجت بعد حصولها على الباكلوريا من ابن عمها المقيم بالديار الألمانية، اشترط عليها العيش في المغرب رفقة والديه، بعد ثلاث سنوات وضعها في اختيار صعب: إما تخليها عن استكمال الدراسة أو الطلاق.))
رمقتني ورمقتها، عرفتني وعرفتها احتضنتني واحتضنتها فاغرورقت عيناها بالدموع غير أن نظارتي تكفلت بالباقي، في تلك اللحظة وصلت الحافلة، دنوت منها، هاتفي لم يتغير.. الرقم عندك.. أنتظر اتصالك.
انطلقت الحافة ومعها رجعت ذاكرتي لذات صباح من صباحات الحجر الصحي في ظل وباء كوفيد 19:
عندما اتصلت سعاد لتخبرني بأنها قررت الانصياع لأوامر زوجها، والتخلي عن فكرة استكمال الدراسة، لأنها إذا “ركبت رأسها” فما من خيار لها سوى أن تحمل أطفالها، وتعود لبيت والديها، حاولت قدر المستطاع إقناعها لكنها تشبثت بقرارها، اليوم فهمت سبب تخلي سعاد عن أحلامها وسط الدموع، وهي تغلق الهاتف.
بعد ثلاث ساعات وجدتني أخط هذه السطور.
لم تكن عودتي في الآونة الأخيرة للكتابة خارج إطار الدراسات العلمية إلا رغبة مني في إخراج الصوت المخنوق في داخلي، وتحرر الروح من سلطة القيد الذي يُطبق على أفكارها، إذ أنه من السهل تحرير الجسد من مختلف أنواع الأغلال، لكن من الصعب تحرير العقول والأفكار وإطلاقها في سماء الحرية.. فالأفكار، شأنها شأن الإنسان، تتأثر بكل ما يحوم حولها من عوامل مناخية، فهي قد تكون متجمدة غير منتجة إذا ما ترعرعت في مناخ متحجر، وقد تكون نشيطة فاعلة متوالدة إذا ما كُتب لها العيش في وسط حركي ثقافي فاعل، فالكتابة الحرة هي الفسحة الوحيدة التي نلجُ إليها ونحن مطمئني البال، هي التجوال في العالم الفسيح الذي نرفل في جنباته، ونتسربل بين حدائقه، ونحلق في سمائه الرحبة، هو مشيٌ لا يتقنه إلا من تربى في حضن الصفاء والنقاء، هو الملجأ الحصين من السيوف المهندة التي تقطع كل مورق يانع لا يَروق للبعض لاعتبارات إيديولوجية أو سياسية أو اجتماعية أو طابوهات مغلقة لم يتجرأ البعض على طرق بابها، أو طرقها وزُج به في جحيم اللعنات.
لقد كانت الكتابة على الدوام فسحة لمحبرة الحرف المتعب الملون بألوان الأنين المصلوب على عمود الإقصاء.. اليوم، وبعد تفاقم الوضع في الواقع المعيش، وفي وسائل الإعلام من جراء الحجر الصحي في ظل جائحة كوفيد 19 التي غزت العالم دون سابق إنذار ووحدتنا في كفة واحدة، أجدني أرغب في رفع النقاب المسدل، في برجي البعيد الذي كان يحجبني وأخرج من عباءة الدراسات العلمية إلى رحاب الكتابة الحرة لأرفع صوتي عاليا مطالبة بتوقف العنف ضد النساء خاصة في هذه الفترة التي انشغل فيها العالم بوباء كوفيد 19، والذي حتم على الكل أن يقبع في بيته ووسط أسرته، بغض النظر عما يلف البيوت من معاناة أو مشاكل نامت تحت شراشف الحياة، والتي كان يتم تجاهلها بالخروج إلى العمل والانشغال بالبحث عن لقمة العيش، أو بالهروب إلى رحاب المقاهي والأصدقاء والأهل.
اليوم وفي ظل هذه الكارثة.. كانت العودة إلى البيت بمثابة العودة لذاك الأنين المغيب على السطح أو المتجاهل من طرف الكثيرين، فقد كانت تُغطيه مباهج الحياة المصطنعة، أو الرغبة في تيسير الأمور لتسهيل المسير في سفينة الحياة.
ظلت نظرتي للمرأة لا تخرج عن إطار ذلك المخلوق الجميل الذي حباه الله بكل مكامن الجمال الكبرى، وخصه بعناية فائقة تمثلت في جعلها الراعية الأولى للوجود الإنساني قبل استقباله على هذه البسيطة، هي منبع الكون وسر استمراره، هي صانعة البهجة أينما حلت وارتحلت، هكذا كنت أنظر للمرأة وأنا طفلة عاشت في بيت أنثوي بامتياز يتكون من تسع فتيات وأم وعمة، لقد كان أبي الفانوس المشع الذي يضيء كل القناديل في البيت، بالرغم من أنني لم أكن أراه إلا قليلا، باستثناء المساء عندما نتحلق حول مائدة العشاء، فقد كان أبي يخرج قبل صلاة الفجر ولا يعود إلا بعد صلاة العشاء، تحمل أعباء أسرة مكونة من أحد عشر امرأة دون كلل أو ملل، لم أسمع يوما أبي يتأفف أو يتضايق من هذا الكم الهائل من المسؤولية الذي يثقل كاهله، كانت شخصيته قوية وصوته جوهريا ووجهه مهابا يفرض عليك احترامه دون حديث، لم أتذكر يوما أن أبي نهرنا أو ضربنا أو امتعض من وجودنا، كانت كلماته مطلولة بالعبارات الندية، وتحركاته مشفوعة بالقبلات.
هكذا ترعرعت في طفولتي، كان أبي هو النموذج الوحيد الذي فتحت عيني عليه في قاموس الرجال.. فأنا أومن بأن علاقة المرأة بالرجل تبدأ من نظرتها لأول رجل في حياتها فتتأثر به ويصبح النموذج الذي تقتدي به طوال حياتها، فتعتقد في قرارة نفسها أنه اختصر مفهوم كل الرجال، فيصل ذلك الحب إلى درجة التقديس، لأن كل فتاة بأبيها معجبة، هو إعجاب لا يأتي من فراغ بل ناتج عن عشرة طويلة وممتدة.
هكذا انطبعت صورة الرجل في مخيلتي من صورة أبي، لكن هذه الصورة لم تكن الوحيدة التي رسمت ملامح الرجل في ذاكرتي فقد تعززت بصورة أخرى جعلتني أدرك أن هناك تباينا في الصور، مما سيترتب عنه وجود اختلاف في طباع الرجال، لقد كانت صورة جدي رحمه الله هي الأقرب إلى قلبي كطفلة، هو البلسم الروحي الذي يرهم كل الجروح، إنه الوجه الملائكي الذي كثيرا ما كنت أركن إليه في صغري، أتحسس فيه غياب أبي عن الحوار معنا، كان رحمه الله ملاذي الوحيد كلما أرهقني تعب الدراسة بالجامعة، هو نبع حنان ممتد لا يجف ولا يطاله النسيان. يحسن الحديث بلباقة كبرى، يحفظ من الشعر ما يستدل به على كل حكاياته، ومن الحديث النبوي ما يبرهن به على صدق الفتوى، ومن القرآن ما يريح النفس، ولا يحلو السمر معه إلا ببعض المستملحات التي تتذوق نكهتها بضحكة أو ابتسامة، هكذا ترسخت صورة الرجل في مخيلتي، وأصبحت صورة لا تخرج عن هذا الإطار أو المعيار الذي وضعته مسبقا. وبحكم أني عشت في بيئة مغلقة بقرار من أبي، فقد ظلت تلك الصورة تصاحبني إلى غاية دخولي المدرسة الابتدائية، والتي تواجدت بجانب البيت لكنها الوحيدة بالحي، هي مدرسة مختلطة بالطبع إلا أن الغريب في الأمر والمثير فعلا، أن كل مكونات الهيئة الإدارية والتربوية نساء باستثناء مدير المؤسسة، حتى الحارس الذي توفى قبل سنوات تم تعويضه بزوجته التي تقطن في المؤسسة رفقة أطفالها، هكذا أخبرتني صديقتي ابنة معلمة الرياضيات، تلقيت التعليم الابتدائي على يد معلمات رائعات متفانيات في العمل أنيقات في المظهر باذخات العطاء، كنت أحس داخل المؤسسة كما لو أنني في رحاب البيت، أتعلم فنون الخط ومسك الريشة لتدوين الخط الفرنسي مثلما تعلمت فن التطريز ومسك الخيط والإبرة لرسم الزهرة في الطرز الفاسي، هو فن التعليم على مهل ودون كلل، إذ لا سلطة لرَجل في مساري لحد الآن إلا لمدير المؤسسة الذي كنت أتحاشاه وأتحاشى معه دقات قلبي التي ترغب في النط خارج أسواري لتحملني وتجري بي خارج أسوار المؤسسة من شدة الخوف الذي يتملكني إذا ما قابلته صدفة في ممشاي.
تلك صورة تطفو إلى السطح من ضمن صور أخرى تتراقص أمامي الآن وأنا أحاول رتق الصور المترامية على أعتاب الذاكرة، يمتزج فيها الأبيض والأسود وقد تتمازج بعض الألوان، لست أدري كلما حاولت طرق بعض المواضيع التي أحياها اليوم كانت مرحلة الطفولة هي الأرض الخصبة والأكثر التماعا، تجدني ألجها دون رغبة مني ودون فكاك، إنها الأمكنة المرصوصة في الذاكرة بأساس متين في حين أطيافها تبزغ وتخبو.
الاحتكاك الأول بعالم الرجال كان في مرحلتي الإعدادية، حيت التجليات المتعددة والمختلفة لنماذج متعددة من الصور التي سترسخ في المخيلة انطلاقا من الانطباع الأولي الذي يتجلى في اختلاف المظهر الخارجي، بين من يرتدي البذلة ومن يهوى الجينز ومن يتخذ من الجلباب موئلا، ظلت الصور الخارجية مجردة غير محددة الملامح، تتحرك دون صوت إلى غاية أول حصة في مادة الرياضة.. عندما طلب مني أستاذ الرياضة القيام بحركة في ملعب المؤسسة عجزت عن القيام بها فصرخ في وجهي بصوت الآمر، لن تذهبي… إلا بعد القيام بها… وأمام خوفي منه وعدم استساغة الأمر أمام زملائي تعسر علي الأمر واختنقت الأنفاس في صدري فرفعت رأسي رافضة الإذعان لطلبه، وانطلقت مسرعة متوارية عن الأنظار، وتواريت نهائيا عن الملعب وعن الرياضة إلى حدود الأمس القريب.
لكن في الحقيقة تواريت عند أول صدام لي مع صورة جديدة لم يسبق أن رسمت في ذاكرتي، وقد مارست علي نوعا من العنف النفسي غير المقصود، ربما كان هدف الأستاذ هو نزع فتيل الخوف والخجل مني عن طريق الصدمة والمواجهة المباشرة، لكن النتيجة كانت عكسية نظرا للأسلوب الذي اتبعه والذي لم أستسغه، لقد كان مستوى إدراكي حينها بسيطا لا يستطيع استيعاب نموذج مختلف عن شخصيتي والدي وجدي، لذلك كان الهروب هو الوسيلة الأنجع رغبة مني في عدم تجذير صورة مختلفة عما ألفته من قبل، لكني أدركت حينها أننا نعيش في عالم يزخر بالصور المتباينة والتي هي الأخرى تحمل صورا مكرسة أو نمطية عني كامرأة.
لم يكن سردي لهذا الجزء البسيط الذي اقتطعته من سيرتي في الطفولة وعرضه حشوا في صلب الموضوع، ولم يكن التطرق إليه اعتباطا، لقد كان الهدف بسط فكرة مفادها أننا نأتي لهذه الحياة وذاكرتنا عبارة عن صفحة بيضاء وهنا لا نفرق بين المرأة والرجل ولكن مع الأيام ومع توسع الفكر تبدأ الصور عن الطرف الآخر تُرسم في مخيلتنا بمجمل تجلياتها الإيجابية والسلبية في معترك الحياة التي نعيشها والظروف التي نمر بها، والفضاء الاجتماعي والثقافي والديني الذي نترعرع فيه وننمو، فتنمو معنا صور التقطتها الذاكرة مما عايشناه في صغرنا وشبابنا… لتترسخ معها طرق التعامل مع الطرف الآخر، وتترسخ النظرة الكلية والمتبادلة فيما بيننا.
أجد نفسي أعيش في عالم جميل أتقاسم فيه الوجود مع أخي الرجل بكل احترام وتقدير متبادلين في العمل والمعاملات، نكمل بعضنا في كل المجالات وفق ما سنته الشرائع السماوية وما حققته القوانين الوضعية وما وفرته تمظهرات الحياة المعاصرة، فقد ناضلت العديد من منظمات حقوق الإنسان التي اتخذت على عاتقها مسؤولية محاربة كل أشكال التمييز، ونهجت مسارا يتأسس على التحرير والتحرر والديمقراطية وفك كل القيود التي تكبل الإنسان «العبودية» بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة، وعملت على الارتقاء بمكانتها وتفعيل الدور المنوط بها داخل المجتمع، حيث كان لها الدور الفعال في إحداث نهضة تنموية وثقافية واضحة المعالم، فولجت المرأة كل مؤسسات الدولة وشاركت في صراع الحداثة والعولمة، كما ساهمت بكل قوتها في التقعيد لفكرة أساسية وجوهرية هي أن المرأة مكون مهم من مكونات التنمية البشرية المستدامة، وأن الاستثمار في هذا المكون كفيل بأن يخلق مجتمعات قادرة على المواكبة وعلى الخلق والإبداع في مختلف مجالات الحياة، فالمرأة هي نصف المجتمع إن لم نقل كل المجتمع، ولذلك أصبح قياس رقي المجتمعات وتطورها يقاس بمدى مشاركة المرأة في الحياة السياسية والتمثيل البرلماني وتقلدها لمناصب القرار.
هكذا أضحت صورة المرأة في المجتمعات الحالية العربية منها والغربية، وباعتبار القرب الجغرافي للمغرب من أوروبا فقد تأثرت المرأة في شمال إفريقيا بالمرأة في أوروبا على جميع الأصعدة، غير أن البون شاسع بين ما تحظى به المرأة هناك من دعم معنوي ونفسي وما توفره لها الدولة من حقوق، وبين ما تعانيه المرأة في بلدان العالم العربي والإسلامي، لقد كان لجائحة كوفيد 19 والحجر الصحي آثار كبيرة على المرأة تجلت بشكل واضح في ارتفاع نسبة العنف المنزلي في ظل هذه الفترة، مثلما أبانت الدراسات التي قدمتها مجموعة من الخبيرات المهتمات بقضايا العنف ضد المرأة في ندوة الكترونية استعجالية شارك فيها مركز الحوار العالمي كايسيد في 29 يونيو 2020 نظرا لخطورة الوضع، والتي عرفت مشاركة كل من السيدة دوبرافكا سيمونوفيتش (Dubravka Šimonović) مقررة الأمم المتحدة الخاصة والمعنية بالعنف ضد المرأة؛ والسيدة شاهين أشرف، رئيسة المناصرة العالمية للإغاثة الإسلامية عبر العالم؛ وآنا الفازي ديل فراتي، رئيسة تحالف المنظمات غير الحكومية لمنع الجريمة والعدالة الجنائية؛ وأُجوجيا إيزيه، المؤسِّسة والرئيسة التنفيذية لمؤسَّسة المهندس أجا إيزيه Aja Eze Foundation؛ وفيسنا نيكوليتش ​ريستانوفيتش، مديرة جمعية الدراسات المتعلقة بالضحايا في صربيا؛ وفاطمة ايسمتوفا يوشيفا، باحثة في مكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات والجريمة؛ وسكينة يعقوبي، مديرة المعهد الأفغاني للتعلم.. حيث دُرس الموضوع باستفاضة كبيرة مع التأكيد، في إحاطة لهيئة الأمم المتحدة، أن أكثر من 243 مليون امرأة وفتاة في جميع أنحاء العالم تعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي على مدار الإثني عشر شهرًا الماضية. إذ من المتوقع أن يزداد هذا العدد مع امتداد الجائحة، وخاصة في ظل تصاعد حدة المخاوف الأمنية والصحية والمالية الناتجة عن التوترات المتفاقمة من إجراءات حظر التجول والعزل وعدم العمل.. وفي تعقيب لها على هذه الوضعية المزية والمؤلمة قالت السيدة سيمونوفيتش: “تُحتَجز النساء والأطفال في المنازل في ظل إجراءات الإغلاق الشامل. ومع أنه من الطبيعي أن يكون المنزل ملاذًا آمنًا لأغلبية الناس، فإنه من الممكن أن يصبح مصدرًا للخوف وإساءة المعاملة للأشخاص الذين يتعرضون للعنف المنزلي”.
وبالفعل، فقد سجّلت عدة بلدان حول العالم زيادة كبيرة في مكالمات الطوارئ المتعلقة بالعنف المنزلي منذ بدء إجراءات حظر التجول في شهر مارس من ستة 2020. ففي فرنسا، ازدادت بلاغات العنف المنزلي بنسبة 30٪ منذ حظر التجول في 17 مارس 2020. وفي الأرجنتين، بنسبة 25٪ منذ 20 مارس2020.
وأضافت السيدة دوبرافكا سيمونوفيتش (Dubravka Šimonović): “نحن بحاجة لإدراك مدى اتساع نطاق جائحة كوفيد – 19، ولكن علينا أن نعي أيضًا أن العنف ضد المرأة هو جائحة مستترة لا تقل خطورة واتساعًا عن سابقتها. وبالتالي إن تمكنا من كبح جائحة كوفيد – 19 مستقبلًا، فإن العنف ضد المرأة سيظل يشكل تحديًا”.
أما السيدة شاهين أشرف فقد أشارت إلى أن بعض المنظمات ذات الخلفية الإيمانية تشهد أبعادًا جنسانية جديدة يمكن وصفها بأنها “عديدة وشديدة” أثناء الجائحة. ولعل هذا يدل على أن هذا الفيروس غير المرئي قد كشف لنا بالفعل عن تصدعات واضحة في عالمنا المتمثلة في الظلم الاجتماعي، وصور عدم المساواة المستمرة بين الجنسين، والتحيز الجنسي، والعنصرية وكراهية الأجانب”.. إذ يشهد العالم في ظل هذه الجائحة زيادة رهيبة في معدلات العنف المنزلي نتيجة تقويض الخدمات الاجتماعية بسبب الوباء؛ مما اضطر بعض البلدان إلى تعليق خدماتها الاجتماعية المتمثلة في خدمات الصحة العقلية لضحايا الاغتصاب نظرا للضغط الذي تعرفه الأنظمة الصحية والقوات الأمنية المُثقلة كواهلها بالجهود الاستثنائية التي تبذلها للاستجابة لفيروس كورونا وآثاره الوخيمة.
وقد بينت السيدة شاهين أشرف مدى قدرة واستعداد المؤسسات والمجتمعات الدينية على سد العديد من هذه الفجوات، قائلة: “لقد أظهرت عدة أبحاث أجريناها حديثًا، بأن القيم الروحية والالتزام بدعم العدالة الاجتماعية والاستعداد لاتخاذ إجراء فردي لمكافحة صور الظلم قد أصبح أكثر انتشارًا من أي وقت مضى، وخاصة أثناء الجائحة”.
في حين ترى دوبرافكا سيمونوفيتش (Dubravka Šimonović): “سيكون من الأهمية بمكان ملاحظة دور المنظمات ذات الخلفية الإيمانية في إرسال تلك الرسائل التي تركز على العنف وحماية الضحايا”.
أما السيدة شاهين أشرف فترى أنه: “رغم أن الوباء الحالي قد فرض العديد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإنه أتاح أيضًا فرصة لتغيير أوجه عدم المساواة المنهجية؛ هذا يعني أن الفيروسات لا تميّز بين شخص وآخر على عكس المجتمعات والأنظمة. ومن هنا ترى بأنه يتعين علينا إحداث تحول منهجي لضمان جاهزية المؤسسات للتعامل مع أي أزمة على نحو أفضل، وتعزيز قدراتها على معالجة مشاكل التوزيع غير العادل وتحويل دفة الاقتصاد نحو تحقيق هدف مشترك”.
لقد كشفت لنا هذه الندوة، ودراسات مضبوطة من طرف هيئات مختصة، عن وضعية المرأة في ظل جائحة كوفيد 19 على المستوى العالمي، مما يؤكد أن ما يروج له من أن المرأة في المجتمعات الغربية تحظى بكامل الحقوق هو مجرد حبر على ورق وكلام في الهواء، فقد كشف هذا الوباء عن وجود شرخ كبير بين ما يتم الترويج له وبين الحقيقة المغيبة في بعض هذه المجتمعات التي تتشدق بكونها قطعت أشواطا في هذا الحقل، غير أنه ما ينبغي التنبيه إليه هو أنه إذا سلمنا بأن هذا حال المرأة في الغرب فكيف هو حالها في ظل جائحة كوفيد 19 في دول العالم الثالث؟ هذا العالم الذي تتكالب عليه مصائب الحرب والفقر والجهل والأمية وأخيرا الوباء..
إن المتتبع لما تكشف عنه وسائل الإعلام يوميا من ارتفاع نسب الانتحار في صفوف النساء، وارتفاع نسبة قتل الإناث في ظل العزلة الوقائية، ينذر بكارثة مساوية لوباء كوفيد 19، ونظرا لغياب التبليغ عن حالات العنف المنزلي من طرف النساء الأميات أو اللواتي تسكنن في البوادي، يبقى تسجيل هذه الحالات رهينا بما تقدمه المستشفيات التي قد تصلها بعض الحالات الحرجة أو الميتة، إلى جانب إحصائيات جمعيات المجتمع المدني والتي هي الأخرى كانت تقبع في الحجر الصحي. وأمام صعوبة تقديم نسب دقيقة وحقيقية يبقى الأمر مرتبطا بالتكهنات.
لكن ما يجب الـتأكيد عليه أن نسبة النساء المعنفات في العالم الثالث كبيرة جدا في الظروف العادية والتي كانت فيها المرأة تخرج للعمل لتعيل أسرتها، فما بالك اليوم في ظل الجائحة التي أوقفت حال العديد من الأسر الفقيرة والمعوزة، لقد أضحت المرأة في ظل هذه الظرفية أمام وباءين، كوفيد 19 والعنف الأسري الذي استشرى وتقوى، وقد تنبهت هيئة الأمم المتحدة لهذه الظاهرة المتفشية، وأطلق الأمين العالم أنطونيو غوتيريش (António Guterres) تنديدا واعتبرها ظاهرة تستلزم تشريع قوانين جديدة تحمي حقوق المرأة باعتبارها تتحمل مسؤولية تربية الأطفال وتلبية طلبات زوجها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه سواء في ظل هذه الجائحة أو خارجها، لماذا المرأة دائما هي محط اتهام من طرف الرجل وأنها أصل كل المشاكل؟ وأنها هي السبب في كل تعنيف تتلقاه؟ هل الأمر مرتبط بالثقافة السائدة أم بالجهل والأمية أم أن الأمر يتعلق بالتربية؟
من خلال ما تقدم نجد أن تعنيف المرأة هو سلوك غير مرتبط بالضرورة بالعلم أو الثقافة، إذ أن التعنيف لا يقتصر على النساء الأميات وإنما على شريحة عريضة من المتعلمات والمثقفات أيضا؛ كما أنه لا يرتبط بكل ما هو ديني فقد نجد بعض المعنفين من رجال الدين أو الذين يتقنعون بقناع الدين؛ وهي ظاهرة غير مرتبطة بالحضارة والتقدم العلمي فحالات التعنيف منتشرة في بقاع مختلفة من العالم المتحضر والمتخلف على حد سواء، وتتفشى يوما بعد يوم؛ كما أنها غير مرتبطة بسن معين، وإنما تبدأ مع سن الشباب وتستمر مع الكهول ولا تتوقف عند المسنين.. مما يعني أن الظاهرة أعمق من أن تكون مرتبطة بما هو اجتماعي أو ثقافي أو ديني أو نفسي. أعتقد أن هذا السلوك، وكما أشرت منذ البداية، مرتبط بكل العوامل السابقة، أو بعبارة أصح، هو مرتبط بالتربية الأولى وبالصورة التي يكونها الرجل عن المرأة في مرحلة الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة والشيخوخة.
من خلال ما سلف، أعتقد أننا بحاجة إلى تضافر مجموعة من العلوم الإنسانية في مختبرات للبحث لعلها تستطيع تفسير تلك العلاقة الغريبة غير المستقرة والمتوترة بين المرأة والرجل، والتي توارثتها الأجيال منذ خلق الله آدم وحواء.
لقد كانت المرأة وستظل سر عذاب الرجل الذي يترجمه إلى عنف يتخذ تجليات مختلفة، تتراوح ما بين العنف الجسدي والعنف المعنوي….
تساءلت بعد أن نزلت من الحافلة متعبة ومتهالكة: أليس من حق سعاد استكمال دراستها؟ كم من سعاد في المجتمع تقبر أحلامها بقرار متعنت أو فكر طائش؟ كم تحتاج المرأة من القوة لتثبت على قراراتها وتطالب بحقوقها المشروعة؟ أليس من حقنا – نحن معشر النساء – أن نحيى بسلام؟ ومن كثرة أليس… وكم… كدت أنسى أغراضي في الحافلة التي توقفت بفاس لتنطلق مباشرة إلى مدينة وجدة.

< بقلم: دة. كريمة نور عيساوي*

* أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات
كلية أصول الدين بجامعة عبد المالك السعدي- تطوان

Related posts

Top