المرأة والهُوِيَّة.. من الإقصاء اللغوي إلى استعادة الذات

لطالما كانت اللغة عبر التاريخ أداة فعالة لترسيخ السلطة وإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، حيث لعبت دورًا محوريًا في تحديد الأدوار بين الجنسين، ورسم القوالب التي تنظم سلوك الأفراد وتُقيد حرياتهم. لم تكن اللغة مجرد وسيلة للتواصل والتفاهم، بل تجاوزت ذلك لتصبح أداة تُستخدم لتثبيت موازين القوى داخل المجتمع. إذ استخدم الرجال اللغة لترسيخ مكانتهم كأصحاب سلطة وتأثير، بينما تم تهميش المرأة وحصرها في قوالب لغوية تُبرز ضعفها وخضوعها. هذه القوالب لم تكن انعكاسًا عشوائيًا أو عابرًا لهيمنة الذكور، بل كانت جزءًا من منظومة ثقافية عميقة استخدمت اللغة كوسيلة لتعزيز التفاوتات بين الجنسين، وترسيخ التمييز في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية.

اللغة، بقدرتها على تصوير بنية المجتمع وثقافته، تعكس في ذاتها موازين القوى والتفاوتات الاجتماعية. في المجتمعات الذكورية، لعبت اللغة دورًا مزدوجًا: فهي من ناحية أداة للتواصل، ومن ناحية أخرى أداة لتعزيز الفوارق الاجتماعية وترسيخ الهيمنة. يظهر هذا جليًا في المعاجم العربية القديمة، حيث وُصفت المرأة بأنها “لين” للدلالة على ضعفها وهشاشتها، بينما ارتبط الرجل بمعاني القوة والصلابة. هذه التصنيفات اللغوية لم تكن مجرد تعبيرات سطحية عن أدوار اجتماعية، بل كانت وسيلة لإعادة إنتاج نظام ثقافي يُقصي المرأة من مجالات التأثير، ويُقيّد دورها في الحياة العامة. جاء هذا التصنيف ليُحدد مكانة المرأة ضمن أدوار تقليدية تخدم النظام الأبوي، مما أدى إلى تهميش صوتها ومنعها من المشاركة الفاعلة في المجتمع.

ورغم هذه القيود التي فرضها المجتمع الذكوري عبر اللغة، فإن المرأة لم تستسلم لهذا التهميش. على العكس، حاولت مقاومة هذه الصور النمطية باستخدام اللغة ذاتها. فاللغة، على الرغم من أنها كانت أداة للإقصاء، إلا أنها تحمل في جوهرها إمكانيات التحرر والتغيير. هذه الإمكانيات تجلت بوضوح في القصص والحكايات التي تناقلتها النساء عبر الأجيال. الحكايات الشعبية مثل ألف ليلة وليلة تُظهر كيف استطاعت المرأة استخدام الحكي كوسيلة للمقاومة. كانت شخصية شهرزاد نموذجًا بارزًا للمرأة التي استطاعت أن تُواجه السلطة الذكورية المتمثلة في شهريار بالكلمة بدلاً من القوة الجسدية. عبر سردها للحكايات، لم تُبقِ شهرزاد على حياتها فقط، بل نجحت في إعادة تشكيل العلاقة بينها وبين شهريار. الحكي هنا لم يكن مجرد وسيلة ترفيه، بل كان أداة ذكية لتفكيك النظام الذكوري واستعادة صوت المرأة. قصص شهرزاد كانت إعلانًا واضحًا عن قدرة المرأة على استخدام أدواتها البسيطة لتحقيق تأثير عميق في إعادة التوازن الاجتماعي.

مع تطور الوعي النسوي، شهدت استراتيجيات المرأة لمواجهة الإقصاء تحولًا جذريًا، حيث انتقلت من استخدام الحكي إلى الكتابة. هذه النقلة كانت تعبيرًا عن إدراك أعمق لقوة اللغة كوسيلة للتغيير. أصبحت الكتابة أداة أساسية للتعبير عن الذات، ووسيلة لإعادة صياغة الهوية بعيدًا عن القوالب النمطية التي فرضها المجتمع الذكوري. الكتابة أتاحت للمرأة أن تُسجل تجربتها الذاتية وتُعيد صياغة السرديات الثقافية من منظورها الخاص. تشير سيمون دي بوفوار إلى أن كل ما كُتب عن المرأة من قبل الرجال يجب أن يُنظر إليه بعين الشك، لأنه يعكس رؤية مُشوهة تسعى لتكريس الهيمنة الذكورية. الكتابة النسوية تجاوزت هذه الرؤية المُشوهة لتمنح المرأة صوتًا مستقلًا، حيث أصبحت الكاتبة صانعة للخطاب الثقافي، بدلًا من أن تكون مجرد متلقية له. من خلال الكتابة، لم تكتفِ المرأة بتوثيق تجربتها، بل استخدمتها كوسيلة للتحرر وإعادة بناء هويتها الفردية والجماعية.

لكن التحديات التي واجهتها المرأة لم تقتصر على اللغة المكتوبة فقط، بل امتدت إلى ما يُعرف بالعنف الرمزي، وهو أحد أكثر أشكال القمع خطورة لأنه يعمل في الخفاء دون إدراك واضح له من قِبل الضحايا أنفسهم. يشير بيير بورديو إلى أن العنف الرمزي يتغلغل في القوالب الثقافية والاجتماعية ليُعيد إنتاج الهيمنة الذكورية بشكل مستمر. يظهر هذا العنف في اللغة نفسها، حيث تُصوّر المرأة دائمًا كطرف أضعف، ويُعاد إنتاج القوالب النمطية التي تُحاصرها داخل أدوار محددة تُقيّد حريتها وتمنعها من تحقيق ذاتها. مواجهة هذا العنف تبدأ من داخل المرأة نفسها. عليها أن تُدرك قوتها، وأن تستغل اللغة كأداة للتعبير عن ذاتها وتغيير تلك الصور النمطية. اللغة هنا ليست فقط وسيلة للتواصل، بل هي ساحة نضال يمكن للمرأة من خلالها أن تُعيد تعريف نفسها وتفكيك القوالب التي فرضها المجتمع عليها.

لوحة للفنان التشكيلي عبد الإله الشاهدي

التاريخ يُظهر أن المرأة، رغم القيود والتحديات، استطاعت أن تثبت قدرتها على كسر الحواجز والمشاركة بفعالية في المجتمع. في الحضارة المصرية القديمة، شغلت المرأة مواقع قيادية بارزة كما في حالات الملكة حتشبسوت والملكة نفرتيتي، اللتين أظهرتا حكمة وقوة في القيادة. هذه الأمثلة التاريخية ليست مجرد استثناءات، بل تعكس حقبة كانت المرأة فيها شريكة فاعلة في اتخاذ القرار وقيادة الأمة. وفي العصر الحديث، لعبت المرأة دورًا حاسمًا في الحركات الوطنية، كما حدث في ثورة 1919 في مصر. خلال تلك الثورة، استطاعت المرأة أن تتجاوز القيود التي فرضها المجتمع التقليدي، وشاركت بفعالية في صياغة الهوية الوطنية. لم تكن المرأة في تلك اللحظات مجرد عنصر داعم، بل كانت فاعلًا رئيسيًا ساهم في تشكيل ملامح الأمة ومستقبلها.

رغم الإنجازات التي حققتها المرأة عبر التاريخ، إلا أنها لا تزال تواجه تحديات كبرى في سعيها لتحقيق المساواة. إرث طويل من التمييز لا يزال يلقي بظلاله على الأدوار الاجتماعية والثقافية والسياسية للمرأة. هذه التحديات تتطلب وعيًا ذاتيًا جديدًا يُعيد تعريف دور المرأة في المجتمع، ويمكّنها من صياغة مستقبلها بعيدًا عن هيمنة القوالب الثقافية. التعليم والكتابة هما الأداتان الأساسيتان لتحقيق هذا الهدف. التعليم يمنح المرأة الأدوات اللازمة لفهم الواقع وإعادة تشكيله، بينما تمنحها الكتابة وسيلة للتعبير عن ذاتها وصياغة هوية مستقلة بعيدًا عن قيود الماضي.

استعادة المرأة لهويتها ليست مجرد خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، بل هي ضرورة لبناء مجتمع أكثر توازنًا يُقدّر قيمة كل فرد فيه. إن اللغة، التي كانت يومًا أداة للإقصاء، يمكن أن تصبح أداة للتحرر إذا استطاعت المرأة توظيفها للتعبير عن ذاتها وتفكيك الصور النمطية التي تُقيّدها. الطريق نحو استعادة الهوية يبدأ من إدراك المرأة لقيمتها الحقيقية، ووعيها بقوة اللغة كوسيلة للتغيير، وقدرتها على بناء مستقبل يعكس تطلعاتها ويُعيد لها مكانتها المستحقة في هذا العالم.

بقلم: إكرام البدوي

باحثة مصرية مختصة في دراسات المرأة

Top