الناقد عبد الله الغذامي: النخبة تسمح لنفسها أن تبلغ أقصى درجات البذاءة والسوء مع بعضها

استضاف البرنامج التلفزيوني “بيت ياسين” الذي يعده ويقدمه الإعلامي المغربي ياسين عدنان، وتبثه القناة الفضائية الإخبارية “الغد”، الناقد عبد الله الغذامي، في ما يلي أهم الأفكار التي وردت في حديثه.

شكلت علاقات مع الأموات
كانت القراءة في البداية بالنسبة إلي كأنها أعباء، أعمال شاقة في السجن، مع الزمن صارت ألفة، ارتبطت بالكتاب أكثر من ارتباطي بالمجتمع، أقراني الصغار كانوا يلعبون ويلهون ويشكلون علاقات، أنا شكلت علاقات مع الأموات، عبر الكتب، لكن بدأت تراثيا: العقد الفريد، ابن الفرزدق، المعلقات، هذه أجوائي، كانت عندي مكتبة ليست كبيرة جدا، على مقدار ما عندي من مال، كتب صغيرة ألتقطها إذا سافرت، للشعراء الذين كانوا في ذلك الوقت لا يزالون غضاضا من حيث الإسم: نزار قباني، سلمان العيسى.. كنت أشتري كتبهم بالدراهم القليلة التي عندي، حتى أن عمي كان يقول لي: يا ولدي لا تضيع فلوسك على الكتب، احتفظ بها، استفد منها، ولكنني في النهاية استفدت.

***
كان عندنا نفور من الشعر الشعبي
الأصل في ذاتي هو الشعر، عندي تصور أنني شاعر، شاعر بالفصحى، في ذلك الوقت، في الستينيات كان الشعر الشعبي النبطي موجودا في كل المجالس، لكن كان عندي مع جيلي مقاومة للشعر الشعبي والعامي، جيلنا في ذلك الإبان كان جيلا عروبيا وحدويا وكنا نرى أن العربية الفصحى هي التي توحد الأمة العربية، وأي لهجة في ظننا في ذلك الوقت هي مضادة لفكرة الوحدة العربية. بما أنها كذلك، كان عندنا نفور من الشعر الشعبي، وعندنا تطلع للشعر الفصيح، وكان الرواد عندنا قوميين يهتفون بالشعر في المنصات، كانت قصائدنا كلها عن الوحدة وكان التآزر العربي في مواجهة المستعمرين قويا جدا، أنا كنت أريد أن أصير مثل هؤلاء الشعراء الفصيحين، أكتب شعرا قوما عروبيا وأغني بالعروبة والثورة، مضى الزمن إلى غاية 1983 كنت في أمريكا في سنة تفرغ علمي، وأثناء انهماكي بالنقد وتجرع النظريات النقدية وتفاعلي معها إلى حد الاندماج، شعرت كأنني وجدت نفسي، كانت نفسي ضائعة وكنت أتوسل بالشعر للبحث عنها، لكنني كنت أظن أن الوسيلة غاية، ظننت الشعر هو غايتي، وما كنت أصل إلى القصيدة التي في رأسي، القصيدة التي أريد، لما وجدت النظريات تبين لي أنني توسلت بالشعر إلى هذا ووصلت، وبالتالي غادرت السلم الذي صعد بي إلى النقطة وجلست في الذروة وهناك تركت السلم، لذلك عفت نفسي تماما عن الشعر ككتابة، ربما الجدوى التي كانت تنتظم المعارف والعلوم كلها، الفلسفة تحكي عن نفسها كونها جدوى، وكذلك النظرية والشعر، عند التنقل من علم إلى علم نشعر بالجدوى المعرفية مثلما يشعر بها الشاعر، كانوا يقولون إن الشاعر هو الذي يشعر بما لا يشعر به غيره، الواقع أن كل مهموم بسؤال كبير جدا، يشعر بما لا يشعر به غيره، إلا أنه يحترق من أجل اللحظة التي يجري وراءها، فأظن أن المعرفة هي حالة احتراق، كنت مهموما وأنا أكتب في أمريكا كتابي “الخطيئة والتفكير”، إذ رأيت الكثير من النظريات في النقد العربي، بها تعالي كبير جدا عن الجمهور العريض، كأن المرء يكتب لنفسه، ويتصور أن العالم مثله هو، يفهمون ما يفهم ويحبون ما يحب ويكرهون ما يكره، وبالتالي صار المؤلف المنظر مثل الشاعر تماما، متى تبدأ لغة النقد بالعربية، بمعنى لغة الناس، لذلك تسلحت بطريقتين، إحداهما أن أبدأ بالنظرية وأتبعها بالتطبيق، الذي يقرأ لي حينئذ يستطيع أن يتحول ناقدا ضدي، لأنه تمثلت له النظرية وراء التطبيق، يقارن نجاعة النظرية على التطبيق، لذلك لم أكتب بعد “الخطيئة والتكفير” قط، إلا وثلثاه تطبيق إن لم يكن كله، هنا ظننت في حسباني أنني جعلت القارئ ناقدا، ما دام هو مستهدف، طه حسين جرب أن يجعل القارئ يعيش متعة، ولا نزال نعيش المتعة والدهشة مع طه حسين، لكنه لم يكن يزودنا بنظريات، في المغرب هناك الكاتب عبد الفتاح كيليطو الذي يجعلك تندهش إلى أقصى حد لكنه لا يزودك بنظريات، في حين أن محمد مفتاح يزودك بنظريات لكن التطبيق لديه ليس بهذا النوع، لو دمجنا مفتاح وكيليطو وصار واحدا، كونا نظرية وتطبيقا، أنا حاولت أن أكون هكذا، نظرية وتطبيق معا، فدهشة النقد حلت عندي محل الدهشة التي كنت أطلبها، فوجدتها بالنظرية.

***
من الممكن ترويض المعقد
في الجامعة اتخذت لنفسي قانونا هو أن أفضل التعليم أن تجعل المرء يعلم نفسه، وهذه النظرية جديدة في الثمانينيات المبكرة، كانت البنيوية والتشريحية والسميولوجية، لا تزال مبكرة تطبيقا وفهما، فكان لا بد لي أن أختصر المسافات بين الطالب الذي يتلقى هذه المعرفة في مفارقة مع كل ما يتعلمه عند غيره في القاعات، كانت المسألة صعبة في البداية لكن مع التدرب والسماح للطلبة أن يمارسوها كما فهمومها للتدرج معهم في التصعيد في الفهم حسب التطبيق، هنا بدأت أدرك أن هذا المعقد من الممكن ترويضه، كتبت مقالات في الصحافة عن ذلك ووضعت في بالي أن أكتب لغير المختصين، أي للجمهور العريض الذي لا أعرفه، وألين من الخطاب، حتى أن الذين قرأوا كتابي السابق واطلعوا على المقالات تكلموا عن تحول، بمعنى أن المقالات، جاءت مقالات صحافية وليست فصولا في كتاب، ومضيت في هذا الاتجاه.

***
كل زمن له لغته
من لا يعيش في عصره يظل في القديم، حتى القصيدة تحولت مع نازك والسياب إلى قصيدة العصر وإيقاع العصر، تحولت من البيت الكبير، من خيمة الشعر إلى بيت الشعر، حصل هناك تجانس، زالت الخيمة وجاء مصطلح جديد للمعاش، لا بد أن يكون هناك مصطلح جديد أيضا للذهن والفكر، فكل بيئة وزمن له لغته، الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو كان قد قال عن مواقع التواصل الاجتماعي، إنه غزوة البلهاء، الذي ينظر إليها بهذه السلبية سيجدها، سقراط كان يجلس مع تلاميذه مثلهم، يقول للتلميذ: “تكلم لكي أراك”، الجيل الأول الذي صنع الفلسفة عاش مع الناس وبقي معهم، ولذلك وصل، الأنبياء عاشوا مع الناس يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، القادة الكبار المؤثرون في التاريخ هم الذين عاشوا مع الناس، طبعا هناك البيت الأكاديمي وله حقوقه، من أراده يجلس هناك عليه أن لا يدعي حينئذ أنه يقود البشرية أو ينورها، لن يفعل ذلك إلا إذا جعل الناس يعلمون أنفسهم، لن يجعلهم يعلمون أنفسهم إلا إذا جعل جسده جسرا لعبور الآخرين، أنا قلت في تويتر أعامل نفسي كجسر بين ضفة وأخرى، والعابر يعبر من فوقه، الجسر لا يشتكي من العابرين، إذا اشتكى، انهار وما صار جسرا، نحن لا بد لنا أن ندخل ونتحمل أعباء هذا الدخول.
النخبة تسمح لنفسها أن تبلغ أقصى درجات البذاءة والسوء مع بعضها، مثل نقائض جرير والفرزدق، لو أن طفلا شتم الجرير أو الفرزدق لتعالى عليه، لأنه يريد أن يكون خصمه نخبويا، ندا له، أدخل إلى تويتر بحكمة واصنع حكمتك في تويتر وستفعل مفعولها في الناس، الناس يحترمون الحكمة إذا رأوها، لكن إذا لم يروها يحتقرون الرجل الذي عجز عن أن يكون حكيما في وقت كانت الحكمة تتطلب وتستوجب حضوره.
إذا لم ندخل إلى مواقع التواصل الاجتماعي بأخلاقنا نحن وليس بأخلاق غيرنا، فمعناه أننا تنازلنا عن أخلاقنا، وتبنينا أخلاق غيرنا، يجب أن ندخل بالشيء الذي نجعله درسا أخلاقيا، بالقدوة والمثال، أنا حاليا دخلت السنة الثامنة في تويتر، سمعت من الشتائم ما لا يحصى، طبعا هي مؤذية لا شك في ذلك، أنا لست ملائكيا، فهي تؤذيني مثلما تؤذي غيري، أغضب مثل غيري، لكن أسيطر على رد فعلي وليس على مشاعري الخاصة، مشاعري الخاصة هي من حقوقي، لكن رد الفعل، هذا حق معنوي وعقلاني، لذلك القانون يحاسب على رد الفعل، علينا أن نعقلن رد الفعل.

***
وراء الجماليات عيوب عميقة
النقد الثقافي يعتني بكشف الأنساق، قراءة الأنساق ليست هي قراءة النصوص، النقد الأدبي يهتم بقراءة النصوص ويبحث عن الجمالي باستمرار، أحيانا البحث عن الجمالي يعمي عيوبا يخفيها الجمال، وهذا ما جرى لشعراء في الثقافة العربية، بدءا من المتنبي وأبي تمام، إلى نزار وأدونيس، إذا استخدمنا أدوات النقد الثقافي وهي أصلا أدوات النقد الأدبي، لكنها حورت لتخدم غرض نقد الأنساق، واشتغلنا بها كنقد للأنساق سنجد أنساقا ثاوية تحت هذا الجمال. أنا أعتبر أدونيس ونزار قباني رجعيين لأنهما يسلمان بجماليات النصوص العليا عندهما، هذا ما يقول به النقد الأدبي، لكن وراء هذه الجماليات، عيوب عميقة، في ثقافة النص نفسه، هذه العيوب العميقة بما أنها أنساق مغمورة لا يكتشفها النقد الأدبي بأدواته، بل يكتشفها النقد الثقافي بالأدوات المطورة عما كانت عليه عند النقد الأدبي، بمعنى أنك تغوص إلى المضمر، وترى العلاقة المناقضة بين المضمر والمعلن، وتكتشف نفس الصيغ الفحولية لدى الشاعر القديم، الأنا المتسلطة، الأنا الوحيدة المطلقة، فأي طاغ سياسي يقول هذه الجمل بالذات لكن بصيغ مختلفة، إننا نصنع الطاغي الثقافي، هذه الأنا المتكبرة المتعالية النافية للآخر عند الشعراء، ونبرر لهم ما يجوز لهم وما لا يجوز لغيرهم، وأنهم أمراء الكلام.

***
سر احتفاء الجماهير بالشعر
أراهن على ذائقة الجماهير، إذا احتفت بالشيء يجب أن نحترم احتفاءها بذلك الشيء، ثم نبدأ في السؤال لماذا احتفت الجماهير بهذا الشكل؟ الجماهير تحتفي جدا بشعر أحمد مطر، وهو شعر بسيط جدا، كأنه ماء يجري، لأنه يعبر عن شيء في نفوسهم، لم يستطع الشاعر الفحل أن يفعله، بواسطة النقد الثقافي يمكن تلمس سر احتفاء الجماهير بذلك الشعر، في حين أن النقد الأدبي يتعالى على هذه النصوص، لأن المقياس لديه هو مقياس أدونيس والمتنبي ونزار إلى آخره، لكن الذي استطاع أن يجمع هذه العظمة الإبداعية والمعنى الجماهيري العميق هو محمود درويش وأمل دنقل والسياب.. أما نزار قباني فقد ارتكب خطيئة عظمى بموقفه من المرأة حيث حولها إلى جسد، وألغاها كعقل.

***
العمى الثقافي
القول بأن الجمهور لا يقرأ قولة غير صحيحة إطلاقا، نحن نوهم أنفسنا، لأننا نقول إن على الجماهير أن تقرأ لي، إذا لم تقرأ لي حكمت عليها بأنها لا تقرأ، إذا لم تفهمني قلت إنها لا تفهم، محمود درويش لما أقام أمسية في بيروت، بتزامن مع الأمسية التي أقامها أدونيس في نفس المدينة، حضر لهذا الأخير خمس عشرة شخصا، في حين أن محمود درويش اضطر إلى الانتقال إلى ملعب لكرة القدم بسبب الإقبال الجماهيري الكبير، شعره ليس استهلاكيا، إنه يتكلم عن فلسطين وعن الأمة وعن مستقبلها وعن الإنسانية، هذا ليس استهلاكيا، هذا هو المعنى، يجب أن نربط الصلة مع الجمهور الحقيقي، ما دمنا نقول إنه استهلاكي، فمعنى ذلك أننا ننفصل عنه وينفصل عنا، ونظل تحت هذا الوهم، هذا ما أسميه بالعمى الثقافي.

> أعده للنشر: عبد العالي بركات

Related posts

Top