أصدرت مجلة “Philosophoire “الفرنسية في عدد 46 لخريف 2016 ، ملفا خاصا عن النخبوية، L’Elitismeتضمن عدة مقالات أساسية من بينها: ” من نخبوية الاستحقاق إلى نخبوية الرداءة ” لسيلفي بيات ، “النخبوية والتربية : قراءة نقدية لأطروحات بورديو على ضوء فكر هابرماس”. ومما جاء في تقديم هذا العدد تحت عنوان: ” النخبوية: فضيلة وانحراف، حلقة إيجابية ومفرغة” ، للباحث “فانسون سيطوط” العضو المؤسس للمجلة، ما نصه: يمكن القول، في التقدير الأولي، أن النخبوية تشير بالأساس إلى شيئين، الأول: إنها آلية ( اجتماعية، مؤسساتية، اقتصادية ) لإنتاج النخب والاعتراف بها؛ الثاني: إنها نوع من الالتزام الفكري ( الأخلاقي، السياسي، الفلسفي) الذي يُقوّم ويبرر هذا النوع من الآلية. في الحالة الأولى، تتعلق بواقعة اجتماعية ( مجتمع ما ينتج نوعا من النخب في عصر ما )، وفي الحالة الثانية، تتعلق بفعل معياري (النخبوي يجعل من وجود النخب مسألة مشروعة). يمكن للفلسفة أن تتساءل عما إن كانت العمليات الاجتماعية لاختيار النخب، تتوافق والفكرة التي كوناها عن انتقاء الصفوة. هل النخب “الموضوعية” التي ينتجها المجتمع، هي نخب صادقة وأصيلة من وجهة نظر نسق القيم التي نسعى إلى نشرها؟ بيد أن هذا السؤال يفترض سؤالا آخر: هل ينبغي أن نتبنى نسقا من القيم يمكنه أن يتلاءم وانتقاء الصفوة، وتراتبية الأفراد، وحتى هيمنة البعض على البعض؟ ينبغي الاختيار بين مذهب المساواة ( تشجيع المساواة في قيمتها المطلقة)، وبين النخبوية (تثمين عمليات الفروقات الاجتماعية). لكن، كن حذرا حتى يكون اختيارك منسجما. الكثير من الناس يفكرون في المساواة، بيد أنهم يتخلون عنها لصالح انتقاء بارد للصفوة، بمجرد ما يتعلق الأمر بركوب طائرة، والإلحاح على أن يكون الربان قد اختير اختيارا صحيحا لخصائصه المتميزة.
مَن يريد من مدرسة لتكوين الربابنة أن توزع على كل الطلبة، متوفقين وغير متوفقين، شواهد القيادة، باسم المساواة “الحقيقية”؟ ينبغي أن يُفهم هنا “تكافؤ الفرص” في المباراة، بمعنى مخالف لمعنى المساواة في نتائج تلك المباراة؛ وعليه ينبغي أن تتكيف وعملية تكوين النخبة. نريد من مدرسة تكوين الطيارين أن تشتغل على مبدأ أرستوقراطي (مبدأ الأفضل باليونانية) بدلا من مبدأ الأحقية ( لا يهم أن يكون للربابنة أحقية، أو كانوا فضلاء، أو شجعان أو “جد عاملين” إن كانوا في النهاية دون المستوى المطلوب ). أو على مبدأ ديمقراطي (الذي يجعل من قيمة المساواة أرفع من قيمة الاستحقاق أو الموهبة). يتساوى في هذا الاستدلال مع مدرسة الطيارين، معاهد الطب والعلوم والمهندسين .. مَن يريد أن يُعالَج من طرف طبيب غير كفء؟ مَن يريد أن يمول مركزا للبحث لا ينتج علماء متفوقين، ولكنه ينتج علماء يستجيبون لمعايير مغايرة، استجابة لمبدأ المساواة ( عنصر من أقلية إثنية، أو عنصر نسوي أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو فقير أو شاب إلخ )؟ من يريد أن يشتري هاتفا أو حاسوبا من النوع الرديء، لمجرد أن رب المصنع يحترم مبدأ المساواة في تأدية الأجور لعماله؟ من يريد أن يضع أطفاله في مدرسة تم توظيف المعلمين فيها، ليس على أساس الموهبة والكفاءة، وإنما في إطار إعادة الإدماج الاجتماعي لطائفة “غير محظوظة”؟ المثال الأخير: من يهتم بالمنافسات الرياضية إن كان لاعبوها ليسوا من النخبة، وتنتهي نتائج مبارياتها دوما بالتعادل؟ تسري هذه الملاحظة الأخيرة على كل أنواع الفرجة: فالمشاهد يُعجب بمن يعتبرهم أفذاذا، أو عناصر من النخبة. وهكذا، فغالبا ما يستهدف النقد الموجه للنخب، وللتراتبيات، ولعمليات الانتقاء شيئا آخر غير آليات الاصطفاء التي تدخل السرور إلى قلوب الناس، والمرضى والزبائن والمشاهدين، وباختصار إلى كل أفراد المجتمع. وأكثر من هذا: إنهم يشكلون جزءا من ثقافة البلاد وعظمتها. يتساءل سان سيمون: تصوروا لحظة “أن فرنسا قد فقدت فجأة الخمسين الأوائل من الفيزيائيين، ومثلهم عددا من الكيميائيين، ومن الفيسيولوجيين، ومن علماء الرياضيات، ومن الشعراء، ومن الرسامين التشكيليين، ومن النحاتين، ومن الموسيقيين، ومن الأدباء، ومن التقنيين، ومن المهندسين ..”، فسيكون الأمر مصيبة عظمى، ” إذ أنهم في الواقع زهرة المجتمع الفرنسي، إنهم من بين كل الفرنسيين الأكثر نفعا لبلادهم، هم من يجلبون لها المجد، ويلمّعون صورة حضارتها ورخاءها؛ ففي اللحظة التي تفقدهم الأمة، تصير جسدا بلا روح “. بينما لو أضاعت فرنسا رجال السلطة ونخبها السياسية والإدارية، ” فمن المؤكد أن هذا الحادث قد يحزن الفرنسيين لأنهم طيبون.. لكن لا ينتج عنه أي ضرر سياسي للدولة “، إذ سيكون من السهولة تعويضهم . إن النقد المتداول للنخب ينصب على نخب جد خاصة: أولئك الذين خضعوا لعمليات انتقاء ضبابية أو اعتباطية – من بينهم النخب السياسية، والإعلامية، والمالية-فالأغلبية من الناس ترى أن السلطات الكبرى الثلاث ( السياسة والإعلام والاقتصاد ) هي في يد أناس تنقصهم المواهب أو الاستحقاق. عندما تكون طبقة سياسية ( يُنظر إليها على أنها عاجزة، غير مؤهلة بل وفاسدة ) وتساندها فئة إعلامية (ينظر إليها على أنها مجامِلة وسطحية) فإنهما متواطئان مع نخبة اقتصادية ( يُنظر إليها على أنها ممن ورثوا ثرواتهم، أو محظوظة بل استغلالية). نلاحظ أن المواطنين -الذين ليسوا الفاعلين الاجتماعيين المشار إليهم أعلاه- يشعرون بالرفض لما يطلق عليه غالبا “سيستام ” (المنظومة). من هنا يكون الحماس الشعبي الذي يثيره أولئك الذين يهاجمون النخب ومنظوماتهم، كما تتصف هذه النخب “بالشعبوية”.
إن هذه الظاهرة تمس كل الدول النامية تقريبا انطلاقا من هذه الملاحظة المتعلقة بانعدام الثقة المتزايدة اتجاه بعض أنواع النخب، يُطرح سؤالان: هل تستحق هذه النخب مثل هذا الحكم؟ إذا كان الجواب بنعم، فكيف يتم انتقاء نخب أخرى، أو كيف يمكن احتمال فسخ منظومة الانتقاء؟ يحيل السؤال الأول على التساؤل إن كانت النخب الموضوعية تشكل نخبا مشروعة، أي تتطابق ومنظومة من القيم التي يمكن أن نبررها فلسفيا. أما فيما يتعلق بالطبقة السياسية الفرنسية، هل نبالغ إن جازفنا بالقول إنها في المتوسط طبقة متحجرة، ديماغوجية، لا مبالية أو عاجزة ( مادام أننا نوجد اليوم في وضعية اقتصادية واجتماعية تدعي أنها تحاربها منذ سنوات عديدة)؟ لكن، وبالقياس إلى أننا نعيش في نظام ديمقراطي ( على الأقل في عملية الاقتراع ) أليس بكل بساطة أن الخطأ مشترك بين جميع المواطنين؟ وفي جزء كبير من ذلك، فإننا نستحق هذه النخب السياسية. إنهم على صورتنا، والمجتمع المدني يتأمل نفسه في طبقته السياسية. وهكذا فإن السخط على النخب السياسية ( وكذلك الإعلامية والصحافية أو الفنية ) هو نقد للمواطنين، على اعتبار أنهم هم من يشجعون هذه النخب، ( بالاقتراع عليهم، وبانتظاراتهم، وممارساتهم الاجتماعية).
من هنا تأتي الفكرة التي تقول: ينبغي تربية “الشعب” لكي “يصوت تصويتا صحيحا” و”يستهلك استهلاكا سليما”. من هنا بزغ الأمل الكبير الذي أنعشته المدرسة العمومية كوسيلة للتحذير من بعض الانحرافات في الحياة الديمقراطية. غير أن المشكل لم يحل، وإنما انتقل إلى موقع آخر، مادام أن النخب التي تسير المدرسة العمومية، وتضع المقررات الدراسية ، هي – حسب الموقف الجديد للنخبة المشرفة والتي ينبغي أن تتحمل مسئوليتها- نخب غير مؤهلة ولا تتوقع المستقبل. ما السبيل إلى جعل النخب المشروعة تربي شعبا تربية ملائمة، حتى يتمكن، في النهاية، من ممارسة سلطته الديمقراطية بطريقة مشروعة ( بانتخاب نخب صادقة أو بالتخلي عن النخب)؟ ذاك هو السؤال. نحن ندور في حلقة: إما حلقة مفرغة عندما تكون كل من النخب المشروعة والشعب غير مؤهلين ( لا يمكنهم أن ينظموا سوى نسق من الرداءة)؛ أو حلقة إيجابية، عندما يكون أحدهما مؤهلا، ويقرر الفعل والممارسة ( إذ يقتضي الأمر الشجاعة والإرادة بالإضافة إلى الوضوح والشفافية).
كيف الانتقال من الحلقة المفرغة إلى الإيجابية؟ إذا استثنينا وقوع انقلاب لفرض نظام سلطوي باسم المصلحة العامة ونخبوية مشروعة ( بالرغم من عدم شرعيتها من طرف الأغلبية)، فلا يمكن أن يبقى لنا سوى اللجوء إلى مجهود كل فرد لسدادة التفكير، وجودة العمل ، ونشر قيم العقلانية والحرية والنزاهة الفكرية؛ بعد ذلك نأمل في أن تحدث هذه المجهودات الخاصة أثرا على المستوى الماكروسكوبي (العام). وبعبارة أخرى، على كل واحد أن ينظم أفكاره بنفسه بطريقة انتقائية، ويشتغل على تحسين الهيئة النخبوية بصورة جيدة، أي أن يشتغل على ملكة الحكم.