انتفاضة ماء بوفكران أو معركة “الماء لحلو” في ذكراها 80

يخلد الشعب المغربي ومعه أسرة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير في هذه السنة، الذكرى الثمانين لانتفاضة ماء بوفكران التي تجسد محطة تاريخية وضاءة ورصيدا زاخرا بنضالات رائعة وملاحم بطولية، وسمت مسيرة الكفاح الوطني في سبيل الحرية والاستقلال وتحقيق الوحدة الوطنية والترابية، بميسم انتصار إرادة العرش والشعب في التصدي للوجود الاستعماري والدفاع عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية والهوية المغربية الأثيلة.
وتخليدا لهذه المناسبة المجيدة، واستحضارا لدلالاتها العميقة وحمولتها التاريخية، تنظم المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير يوم الجمعة 8 شتنبر 2017 ابتداء من الساعة الخامسة عصرا، مهرجانا خطابيا بقاعة الاسماعيلية التابعة لجماعة مكناس بالهديم، تتخلله كلمات وشهادات تستحضر الأبعاد الوطنية والمقاصد النضالية والقيمية لأمجاد وروائع هذه الانتفاضة المباركة.
وسيتضمن برنامج تخليد هذه الذكرى الغراء مراسم تسليم أوسمة ملكية شريفة لصفوة من أعضاء أسرة المقاومة وجيش التحرير، وكذا تكريم ثلة منهم، عربون وفاء وبرور وعرفان بمناقبهم الحميدة وخدماتهم الجلى وتضحياتهم الجسام وأدوارهم البطولية دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية والمقومات التاريخية والحضارية.
كما ستجري بنفس المناسبة، مراسم تسليم ذوي حقوق المقاوم المرحوم عبد العزيز أقوضاض، شهادة الشكر والعرفان التي منحها إياه الاتحاد العربي للمحاربين القدماء وضحايا الحرب في أعقاب دورته السنوية الأخيرة في 17-21 أبريل 2016، والتي التأمت بعاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، عمان، وكذا توزيع إعانات مالية ومساعدات اجتماعية وإسعافات على عدد من المنتمين لأسرة المقاومة وجيش التحرير وأرامل المتوفين منهم من ذوي الاحتياجات المستحقين للدعم المادي والاجتماعي.
كما سيشرف الوفد الرسمي على مراسم إزاحة الستار عن اللوحة التذكارية التي توثق وتؤرخ لفصول وأطوار انتفاضة ماء بوفكران بساحة الهديم بمدينة مكناس.
والمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وهي تخلد هذه الذكرى الغراء ومثيلاتها من المناسبات الوطنية، لتحرص على مواصلة جهودها الهادفة إلى صيانة الذاكرة التاريخية الوطنية وتقريبها من الطفولة والناشئة وأجيال اليوم والغد حتى تظل لصيقة بماضيها المجيد، تنهل من ينابيعه ما تطفح به من دلالات عميقة وأبعاد رمزية تشهد على غنى موروثنا التاريخي والحضاري والرأسمال اللامادي لوطننا.

لمحة تاريخية عن انتفاضة ماء بوفكران

اندلعت انتفاضة ماء بوفكران في مستهل شهر شتنبر من سنة 1937 عندما اصطدمت ساكنة مكناسة الزيتون بغلاة المستوطنين والمعمرين المتطاولين على الموارد المائية للسكان والفلاحين. فكانت تلك المعركة الحاسمة التي خاضتها الجماهير الشعبية الغاضبة بالعاصمة الإسماعيلية لتنذر الاحتلال الأجنبي باستمرار روح النضال وصمود المغاربة في الدفاع عن وطنهم ومقدراته وخيراته وسيادته، وبأن الإجهاز على المقاومة بجبال الأطلس والجنوب المغربي في أواخر سنة 1934 لم يكن يعني استسلام المغاربة للأمر الواقع. فلقد أصر المناضلون على سلوك خيار جديد بنقل المعركة من الجبال والأرياف إلى المدن والقرى، والانتقال من أسلوب المواجهة المسلحة المتفرقة إلى مرحلة المقارعة السياسية الواعية، وتعبئة الجماهير الشعبية منذ منتصف الثلاثينات بالعديد من الحواضر المغربية إلى حين إنهاء عهد الحماية ووضع حد للتسلط الاستعماري.
لقد تضافرت عدة عوامل موضوعية لاندلاع المواجهة فيما عرف بـ “معركة الماء لحلو”، كان من أبرزها إقدام السلطات الاستعمارية على تحويل جزء من مياه وادي بوفكران وحصره على المعمرين لتستفيد منه ضيعاتهم، وكذا المرافق المدنية والعسكرية الفرنسية بالمدينة الجديدة في وقت كانت فيه حاجة السكان إلى هذه المياه ملحة ومتزايدة.
حدث هذا في بداية تبلور الوعي الوطني عند ثلة من الوطنيين المكناسيين الذين كانوا على اتصال دائم بقيادة الحركة الوطنية بأهم المدن المغربية وخاصة بفاس، فاستشعر هؤلاء الوطنيون تذمر السكان من جراء النقص الحاصل في المياه التي تتزود بها المدينة وأحياؤها الشعبية العتيقة، خاصة أن الأمر يتعلق بمادة حيوية. وكان هذا الوضع الاجتماعي سانحا لشحذ همم وعزائم المواطنين وإلهاب حماسهم لخوض غمار المواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال الأجنبي في بداية شهر شتنبر 1937 بعــد إصــدار السلطـــات الاستعماريــــــة لقرار وزاري فـي 12 نونبر 1936، ونشره بالجريدة الرسمية عدد 1268 بتاريخ 12 أبريل 1937 لتوزيع ماء وادي بوفكران بين المستوطنين والمعمرين وسكان المدينة، وإحداث لجنة لتنفيذ هذا القرار في 12 فبراير 1937. وقد نجم عن هذا الوضع الجديد والطارئ انعكاس سلبي وتأثير قوي في تفاقم أحوال ساكنة مكناس، لاسيما وأن المجتمع المكناسي كان يعيش ظرفية صعبة تمثلت في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي مست أوسع الفئات والشرائح الاجتماعية مع تسلط الإدارة الاستعمارية في فرض ضرائب مجحفة، وحرمان السكان والتنكيل بهم وتهجيرهم من المدينة القديمة إلى المدينة الجديدة بغية الاستحواذ على أجود الأراضي الفلاحية الخصبة بنواحي المدينة.
وقد أدت هذه الأحوال المتأزمة إلى تفجير ثورة المكناسيين بعد أن استنفذوا كل أشكال النضال السلمي والاحتجاجات الهادئة وتقديم العرائض وتكوين لجنة الدفاع عن ماء بوفكران، حيث تمادت السلطات الاستعمارية في تعنتها وتماديها في تطبيق قرارها الجائر وفي تقليص وإضعاف صبيب ومنسوب مياه واد بوفكران وتحويله لصالح أهدافها التوسعية، فكانت انطلاقة انتفاضة ماء بوفكران في فاتح وثاني شتنبر 1937 حدثا تاريخيا وازنا ومتميزا، جسد فيه المكناسيون أروع صور ومواقف النضال الوطني، مسترخصين التضحيات الجسام في مواجهة القوات الاستعمارية التي أدهشها رد فعل أبناء المدينة، ولم تكن تتوقع أبدا أنهم وصلوا بعد إلى مستوى النضج والتنظيم السياسي القادر على مواجهة القوات الاستعمارية كثيرة العدد والمجهزة بأحدث الآليات والمعدات العسكرية، فكانت معركة ضارية ورهيبة لم يتوان الوطنيون والمناضلون وساكنة مكناس بكل فئاتهم وشرائحهم في خوض غمارها بشجاعة وإقدام، تحديا للوجود الأجنبي، وتصديا لمؤامراته، وصونا للعزة والكرامة، ودفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية.
لقد أبانت حاضرة مكناس عن أدوار بطولية مجيدة أربكت مخططات القوات الاستعمارية، فكانت تتويجا للمقاومة والممانعة التي خاضها الوطنيون وعموم المواطنين بالمدينة ونواحيها منذ احتلالها سنة 1911 من قبل الجنرال “مواني” والتي سجلت خلالها القبائل المجاورة صفحات بطولية خالدة من المقاومة، قبائل بني مطير وكروان وعرب سايس ضد القوات الغازية المحتلة. ولم تهدأ ثائرة المكناسيين في تجسيد مواقفهم النضالية التي تجلت مرة أخرى بقوة في معركة ماء بوفكران سنة 1937، فضلا عن الدور الوطني الكبير لرجالاتها في ملاحم النضال السياسي ونشر الوعي الوطني وإذكاء التعبئة وخوض غمار المواجهة المباشرة والمستميتة للوجود الأجنبي والتسلط الاستعماري، حيث كان لأبنائها حضور وازن في مناهضة ما سمي بالظهير البربري، وفي المواقف النضالية للحركة الوطنية، وفي تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ثم في تعزيز انطلاقة المقاومة الفدائية إلى أن تحققت إرادة العرش والشعب بعودة الشرعية والمشروعية التاريخية وإشراقة شمس الحرية والاستقلال، لتتواصل نضالات أبناء هذه الربوع في ملاحم الجهـاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي لبناء المغرب الجديد وإعلاء صروحه.

Related posts

Top