تأملات سينمائية -الحلقة 15-

تعتبر السينما من بين أشكال التعبير الفني الأكثر انشغالا بقضايا الإنسان. هذا الإنسان الذي ظل قلقا بشأن كينونته، إنه لا يكف عن تجريب كل الوسائط لترويض الطبيعة ثقافيا، بحثا عن الانتماء الآمن للمشترك الجمعي.
ووسط الصخب البصري والحوارات “الشفافة” التي أصبحت تغمر وسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري، تتزايد الحاجة إلى السينما بوصفها فنا يحكي بـ”ذكاء” و”عمق” وبشكل “بسيط” هموم الكائن البشري، بانتقاء سلسلة من المشاهد البصرية المكثفة رمزيا، والحوارات المشبعة بالمعاني والدلالات.
وفي هذا الصدد، اخترنا في جريدة بيان اليوم الوقوف في هذه الزاوية طيلة شهر رمضان عند بعض الأعمال السينمائية، التي اهتدى مخرجوها إلى معالجة مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية، برؤى فنية وتصورات فكرية مختلفة تعكس اهتمامهم بمشاكل الإنسان.
قد يبدو في الظاهر، أن بعض الأفلام تصور تجارب أشخاص أو جماعات تنتمي لبيئات في مناطق جغرافية أخرى بعيدة بآلاف الأميال، إلا أنها رغم ذلك، تنقل ضمنيا انشغال الذات الإنسانية بوجودها كفرد أو بانتمائها إلى الجماعة.
أن تشاهد فيلما سينمائيا، معناه أن تحجز تذكرة لرحلة سفر جميل واستثنائي، يمثل فرصة للتأمل والتفكير، ولإعادة النظر في الكثير من الأشياء التي قد تبدو مع مرور الزمن من البديهيات، لاسيما في عصر يتسم بالإسهال في “الإنتاج”، إنتاج “اللاشيء” في الكثير من الأحيان.
إننا لا ندعي في هذه الزاوية، تقديم قراءات نقدية عميقة أو أكاديمية، بقدر ما نتوخى الوقوف عند بعض الأعمال الفنية التي حظيت بإعجاب النقاد والمتتبعين.

فيلم Nightcrawler للمخرج الأمريكي دان غيلروي

الـتـفـاهـة.. الـوجـه الـقـبـيـح لـلإعـلام

لم يأت اختيار آلان دونو، لعبارة: “نظام التفاهة” (La médiocratie)، عنوانا لمؤلفه الشهير من فراغ، وإنما بني على قصد في المبنى والمعنى، ذلك أن كلمة “نظام” تحيل على الترتيب، والتنسيق، والتنظيم، والسلطة، لهذا لا يمكن النظر إلى التفاهة، استنادا إلى هذا التوصيف، إلا ضمن مشروع، ومخطط، وبرنامج “مؤسساتي” حتى.
وإذا كانت الثقافة، والنقد، والفكر، قد ارتبطت بالفكر الاشتراكي والقومي، فإن الرأسمالية هي عراب “التفاهة”، علما أن هذه الرأسمالية تستمد شرعيتها من التفاهة التي تشجع على التسطيح، والاستهلاك، والابتذال، والإسفاف، والفراغ، والانحدار، والانحطاط، واللاأخلاق، وما شئتم من الأوصاف القدحية.
ولا يستقيم الحديث عن التفاهة، بدون استحضار الأدوار القبيحة للإعلام، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها الحاضن لكل أشكال الفضائح التي يتم استغلالها من أجل خلق الإثارة والنقاشات الهامشية.
ورغم سياسة “إغراق” الرأي العام في كم ضخم من المعلومات المزيفة، والأخبار الكاذبة، والقصص الوهمية، إلا أنه ما زال في العالم القليل من العقلاء ينتقدون مضامين الكثير من المواد الإعلامية التي تنشر وتبث معطيات بعيدة عن الحقيقة.
وفيلم Nightcrawler (المتسلل ليلا ) للمخرج دان غيلروي (Dan Gilroy)، من بين الأعمال السينمائية (2014)، التي وجهت نقدا لاذعا للقنوات التلفزية الأمريكية، باعتبارها تقتات على صور عنف العصابات، ودماء ضحايا حوادث السير..
ولعب الممثل جيك جيلنهال دور لو بلوم “الصحافي” الطارئ على الميدان، والذي دخل عالم إنتاج الفيديوهات المصورة، بعدما فشل في الحصول على عمل يقيه التشرد، ويخلصه من انحراف السرقة، أي أن المهنة الوحيدة التي وجد أبوابها مفتوحة في وجهه هي: الصحافة.
واستطاع لو بلوم أن ينجح في عالم الإعلام، مباشرة بعد أول خطوة، حيث لم يكلفه الأمر الشيء الكثير، لأنه لا يحتاج إلى تكوين عال، أو معدات مكلفة وباهظة الثمن، بصيغة أخرى، تسلح بكاميرا متوسطة الحجم لأخذ الصور الدموية، وسيارة مجهزة براديو يلتقط إشارات التواصل بين أجهزة الأمن، وهو ما سمح له باقتفاء آثار الجرائم والحوادث الأليمة طيلة اليوم.
وتوفق روبرت إلسويت مدير تصوير Nightcrawler (117 دقيقة) في اختيار الألوان والإضاءة وزوايا التصوير التي تتماشى وطبيعة الموضوع، مع الإشارة إلى أن الكثير من الأحداث صورت ليلا، بحكم اهتمام لو بلوم بعالم الإجرام، لهذا ستثير الإضاءة الصفراء للسيارات وكاميرات التسجيل أنظار المشاهد، الذي سيلاحظ اهتمام الصحافة (الصفراء) بأشياء غير ذات أهمية مقارنة بقضايا أخرى.
ويرجع نجاح لو بلوم إلى البنية والنظام القائم للتفاهة في وسائل الإعلام، التي تركز في الأول والأخير على الأحداث المثيرة، لأنها أكثر استهلاكا من قبل الجمهور، حيث ستعجب المخرجة نينا رومينا (رينيه روسو) التي تشرف على النشرات الإخبارية الليلية، بمستوى المواد الإخبارية التي يحملها هذا الصحافي للقناة التلفزيونية.
وسرعان ما تأقلم لو بلوم مع أجواء الصحافة التي تركز على تصوير المواجهات في الميدان، حيث استطاع مراكمة أرباح مادية مهمة، حفزته على اقتناء سيارة سريعة وآلات تصوير متطورة، بل اهتدى إلى الاستعانة بخدمات الشاب ريك (أحمد ريز)، الذي كان في أمس الحاجة إلى العمل.
وسترتفع أسهم القصص الصحافية للو بلوم لأنه يحقق السبق في الوصول إلى أماكن ارتكاب الجرائم، وهو ما يسمح له، أحيانا، بإدخال بعض التغييرات على مسارح الأحداث لجعلها أكثر إغراء بالمتابعة.


ومكنت التجربة لو بلوم من الدخول إلى عالم صناعة الأحداث الصحافية والبوليسية، بناء على المعطيات الخاصة التي يحصل عليها اثر تواجده اليومي في الفضاءات العامة، وهكذا سيختلق بدهائه قصص نشوب مواجهات مسلحة بين رجال الشرطة وأفراد العصابات، ليتمكن من تصوير مشاهد ليست لبعض الصحافيين الآخرين القدرة على متابعتها.
وصور دان غيلروي كيف أن شخصية لو بلوم البسيطة اكتسبت ثقتها بشكل تدريجي مع توالي الأحداث والزمن، وبالمناسبة فقد أبدع جيك جيلنهال في تقديم دور محترف الصحافة الصفراء التي من صفات صانعها: اللامبالاة، وغياب الضمير، والبرود العاطفي، والخداع، والكذب، والاستغلال، والإبداع، والأنانية، والعدوانية..
ولأن النجاح رفيق “الغرور” و”التعالي”،  فإن لو بلوم، لن يتردد في دفع ريك إلى الموت، الذي في نظره لم يحترم التعليمات، وأصبح يشكل تهديدا له، وقلل الاحترام عليه بعدما دخل معه في مفاوضات بشأن التعويض الجزافي عن المهمات. ولم يكتف لو بلوم بتدبير خطة لقتل رفيقه، وإنما تجاوز كل أساليب اللباقة عندما حمل آلة التصوير وشرع في توثيق لحظات احتضاره بعد إصابته برصاص أحد أفراد العصابات، ليؤكد أن شعور الإنسانية لا يعني له شيئا.
ولم تستطع الشرطة أن توقف مناورات لو بلوم الذي ظل يختلق الأحداث ويتصل بعناصر الأمن للتفاعل معها على وجه السرعة، متعقبا تحركاتها التي تمنحه مشاهد الإثارة، فاستمرار التفاهة رهين بضمان الإنتاج “الجيد” للأشرطة الخاوية من أي شيء، وهو ما شجعه على مواصلة تسجيلها باقتناء سيارات كبيرة مجهزة بمعدات تقنية، ناهيك عن توظيف طاقم متخصص في تتبع آثار المجرمين والضحايا الذين تذيع صورهم على نطاق واسع مباشرة بعد أي حادث.
لكن، ألم يبالغ دان غيلروي في نقل كواليس صناعة الإعلام للتفاهة بشكل صادم وشفاف؟
قطعااا، لا. لأن الصحافة الصفراء ساهمت في التأثير بشكل سلبي على سلوك الناس وطريقة تفكيرهم، لهذا ستنتفض شرطية في وجه لو بلوم “الكاذب”، و”المراوغ”، و”المريض”، و”المدمن” على تصوير مآسي الآخرين، لأنه يساهم في إفساد ذوق الجمهور، وإلهائه بأشرطة فيديو، لا أثر إيجابي لها على حياة المجتمع، بقدر مساهمتها في تقليص حرية التعبير وقضائها على التعددية المطلوبة لخلق التوازن بين “التفاهة” و”اللاتفاهة”!
من هنا، أصبح الحديث عن الوظائف الأربعة للإعلام، أي الإخبار والتوعية والتثقيف والترفيه، من الماضي، في عالم يحكمه التافهون باستثماراتهم المجنونة في “تدمير عقل الإنسان”.

***

دان غيلروي

 

دان غيلروي (Dan Gilroy)، كاتب سيناريو ومخرج أمريكي ازداد سنة 1959. ينتمي إلى عائلة سينمائية بارزة، فوالده هو الكاتب فرانك غيلروي، بينما شقيقه توني غيلروي اشتهر بإخراج وكتابة أفلام مثل Michael Clayton وسلسلة Bourne، أما شقيقه الآخر جون غيلروي فهو مونتير سينمائي.
برز غيلروي في عالم السينما من خلال فيلمه الأول Nightcrawler خلال 2014. وفي عام 2017، أخرج غيلروي فيلم Roman J. Israel, Esq. أما في سنة 2019، فقد قدم فيلم Velvet Buzzsaw.
يتميز أسلوب غيلروي السينمائي باستكشاف الجوانب المظلمة في المجتمع الأمريكي، مع تركيز خاص على الإعلام، القانون، والفن، مما يجعله من أكثر المخرجين اهتماما بالنقد الاجتماعي في السينما المعاصرة.

الإخراج والسيناريو: دان غيلروي.
الإنتاج: جينيفر فوكس، توني غيلروي، مايكل ليتفاك، ديفيد لانكستر.
التصوير السينمائي: روبرت إلسويت.
المونتاج: جون غيلروي.
زمن العرض: 117 دقيقة.
سنة الإصدار: 2014.
التشخيص: جيك جيلنهال، رينيه روسو، ريز أحمد، بيل باكستون.

> إعداد: يوسف الخيدر

Top