تأملات سينمائية -الحلقة 9-

فيلم PARASITE للمخرج الكوري الجنوبي بونج جون-هو

تعتبر السينما من بين أشكال التعبير الفني الأكثر انشغالا بقضايا الإنسان. هذا الإنسان الذي ظل قلقا بشأن كينونته، إنه لا يكف عن تجريب كل الوسائط لترويض الطبيعة ثقافيا، بحثا عن الانتماء الآمن للمشترك الجمعي.
ووسط الصخب البصري والحوارات “الشفافة” التي أصبحت تغمر وسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري، تتزايد الحاجة إلى السينما بوصفها فنا يحكي بـ”ذكاء” و”عمق” وبشكل “بسيط” هموم الكائن البشري، بانتقاء سلسلة من المشاهد البصرية المكثفة رمزيا، والحوارات المشبعة بالمعاني والدلالات.
وفي هذا الصدد، اخترنا في جريدة بيان اليوم الوقوف في هذه الزاوية طيلة شهر رمضان عند بعض الأعمال السينمائية، التي اهتدى مخرجوها إلى معالجة مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية، برؤى فنية وتصورات فكرية مختلفة تعكس اهتمامهم بمشاكل الإنسان.
قد يبدو في الظاهر، أن بعض الأفلام تصور تجارب أشخاص أو جماعات تنتمي لبيئات في مناطق جغرافية أخرى بعيدة بآلاف الأميال، إلا أنها رغم ذلك، تنقل ضمنيا انشغال الذات الإنسانية بوجودها كفرد أو بانتمائها إلى الجماعة.
أن تشاهد فيلما سينمائيا، معناه أن تحجز تذكرة لرحلة سفر جميل واستثنائي، يمثل فرصة للتأمل والتفكير، ولإعادة النظر في الكثير من الأشياء التي قد تبدو مع مرور الزمن من البديهيات، لاسيما في عصر يتسم بالإسهال في “الإنتاج”، إنتاج “اللاشيء” في الكثير من الأحيان.
إننا لا ندعي في هذه الزاوية، تقديم قراءات نقدية عميقة أو أكاديمية، بقدر ما نتوخى الوقوف عند بعض الأعمال الفنية التي حظيت بإعجاب النقاد والمتتبعين.

سردية الطبقية عبر الفضاء والرائحة والماء

اختار المخرج بونج جون-هو (Bong Joon-ho)، أن يعالج في فيلمه PARASITE (طفيلي)، ثنائية الفقر والغنى، أو “الطبقية”، كما يشير إلى ذلك التحليل الاشتراكي.
ويرتبط الفقر في مخيلة وذهن المتلقي، بالعالم الدنيوي، أو الأسفل، إنه الهامش حيث الحرمان، والضعف، والمعاناة، والظلم، واللاعدالة. بينما الغنى هو رمز للراحة، والرفاهية، والحرية، والاستقلالية، والقوة، والنفوذ، ناهيك عن الوحدة، والعزلة، والانفصال عن العالم الموازي لهذا “الأعلى”.
ولا سبيل لخروج الفقراء من فقرهم، إلا بالكفاح ومواجهة الصعوبات الاجتماعية، والاقتصادية، بل إن تحقيق التغيير يستدعي أحيانا الدخول في صراع طبقي لتقليص حجم الفجوات التي تتخذ عدة أشكال تمييزية مع مرور الزمن.
وحاول المخرج الكوري الجنوبي، أن يصور يوميات عيش ساكنة “الفوق” و”التحت”، باختيار الفضاءات، والديكور، والملابس، والأثاث الذي يختلف جذريا بين العالمين، فإذا كانت أسرة كيم كي-تايك (سونغ كانغ-هو) تعيش في طابق تحت أرضي لا يتوفر على أبسط الحاجيات الضرورية، فإن عائلة بارك دونغ-إيك (لي سون-كيون)، تنعم بفيلا فسيحة تتوفر على كل المقومات الأساسية، ما يعني أنه لا مقارنة مع وجود الفارق.
وبقدر التباعد الاجتماعي والاقتصادي الحاصل بين الأسرتين إلا أن سكنهما معا في مدينة سيول سيقودهما إلى اللقاء تدريجيا، بداية بالتحاق كيم كي-وو (تشوي وو-شيك) بمنزل بارك دونغ-إيك، لتدريس بارك دا-هاي (جونغ يي-سو) اللغة الإنجليزية بتوصية من صديق له، الشيء الذي سمح له باقتراح اسم أخته كيم كي-جونغ (بارك سو-دام) كمعلمة رسم على تشوي يون-كيو (تشو يو-جونغ) المهووسة بالثقافة الغربية والتي تبحث عن مؤطر لابنها بارك دا-سونغ (جونغ هي-جين).
وسمح ولوج كيم كي-وو وكيم كي-جونغ لمنزل بارك دونغ-إيك، بتقديم اسم والدهما لشغل مهمة سائق السيارة الخاصة بالأسرة الثرية، وعلى نفس المنوال ستلتحق، فيما بعد، كذلك، والدتهما تشونغ-سوك (جانغ هاي-جين)، وهكذا ستصبح الفيلا تحت سيطرة العائلة الفقيرة.
وحدث هذا الوصول من الحي الفقير إلى الغني، عقب تزوير الشهادات العلمية، وتدبير خطة أوقعت بسائق السيارة القديم يون (بارك كيونغ-هي)، والخادمة مون-غوانغ (لي جونغ-أون) لاسيما أن بارك دونغ-إيك وزوجته كانا يتفاعلان بسذاجة ولطف مع الأفكار المقترحة من الوافدين الجدد الذين يطمحون لتحسين أوضاعهم الاجتماعية، بإيجاد فرص شغل في بلد تنعدم فيه فرص العمل، كما أشياء أخرى.
بيد أن حبل الكذب كان قصيرا، وذلك بعد اكتشاف الخادمة السابقة حقيقة العائلة الفقيرة، التي كانت توهم الأسرة الثرية بسردية مزيفة، تشير بعدم وجود علاقة قرابة فيما بينهم، واكتشفت ذلك وحاولت فضحه، عقب استقبال تشونغ-سوك لمون-غوانغ التي أتت للاطمئنان على حال زوجها بالفضاء تحت أرضي للفيلا الذي أصبح مسكنه الرئيسي منذ أربع سنوات بعد إفلاسه المالي.


فإذا كان بارك دونغ-إيك قد صمم هذا الفضاء للاختباء رفقة أسرته الصغيرة تحسبا لهجوم مفترض من كوريا الشمالية على جارتها الجنوبية، فإن مون-غوانغ استغلته بشكل سري لإيواء زوجها الذي كان مهددا بالشارع، فالفقراء معذبون في الأرض، ويتحينون لاستغلال أنصاف الفرص التي قد يصادفوها لتفادي الأسوأ.
لكن هل الأغنياء يرتاحون لوجود الفقراء بينهم رغم الاختلاف الطبقي الصارخ بينهما في كل شيء؟ الجواب هو: لاااا، في تصور مبدع PARASITE (سنة 2019) الذي وظف “الرائحة” كقناع ثقافي، واجتماعي، واقتصادي تعبر عن “الطبقية”، فمالك الفيلا بارك دونغ-إيك كان يشتكي من الرائحة الكريهة التي تصدر عن سائقه الجديد كيم كي-تايك الذي يستعمل الصابون الرخيص كباقي أفراد عائلته.
وأثارت الرائحة المشتركة للأسرة الفقيرة انتباه الطفل الصغير بارك دا-سونغ، أيضا، حيث ناقش الموضوع مع والدته تشوي يون-كيو، متأففا هو الآخر منها، وهو ما دفع بأسرة كيم كي-تايك إلى التداول في هذا المستجد الذي قد يعصف بهم جميعا، وهكذا سيتجه البعض إلى اقتراح تغيير المنزل باعتباره المصدر الرئيسي للرائحة الكريهة التي تصاحبهم في تحركاتهم، علما أن هذا الأمر مفروغ منه، بحكم الوضع المزري الذي يعيشون فيه، فلا جدران تفصل بين المطبخ والمرحاض وصالات الجلوس وبيوت النوم، إلى جانب أن نوافذ البيت تحت أرضي تطل على الشارع الذي يتبول على جنباته السكارى.
وهذه الرائحة ليست بمعطى جديد على العائلة الفقيرة، التي تشرع نوافذ المنزل أثناء عملية رش مبيدات الحشرات في الشارع، للاستفادة مجانا من خدمة القضاء على الحشرات التي تعيش داخل البيت، ذلك أنها تستغل، كذلك، خدمات الأنترنيت مجانا، بتقاسم جارة لهم في الأعلى القن السري “للواي فاي” (WIFI).
وهذا يعني، أن ساكنة الأعلى تبقى الأكثر قربا من التقنية مقارنة بساكنة الأسفل، المحكوم عليها بالانفصال عن الواقع، والابتعاد عنه، ومن ثم تضييع الفرص، والتطور، والنجاح، فصبيب الانترنيت كان قبل انقطاعه وسيلة لبحث الأسرة عن عروض العمل، وهو ما لم يعد قائما بعد..
وحضر الماء بكثافة في فيلم “طفيلي” (132 دقيقة)، لقد كانت الشتاء مصدرا للسعادة بالنسبة لأفراد أسرة بارك دونغ-إيك، وتحديدا الطفل بارك دا-سونغ الذي كان ينصب خيمته في حديقة الفيلا ويقضي بعض الليالي داخلها للاستمتاع بالأمطار. وتضم هذه الفيلا، أيضا، حمامات باذخة بتجهيزات متطورة، معززة بقنينات مياه زجاجية تعبر عن الفخامة، استمتعت بها عائلة كيم كي-تايك خلال غياب العائلة الغنية في رحلة استرخاء واستجمام بفضاء طبيعي.
ومن جهة أخرى، مثل الماء تلك القوة المدمرة لكل شيء، وهو ما حدث بالفعل، حيث غمرت مياه الأمطار منزل كيم كي-تايك، وتحول الحي السكني الفقير إلى بركة مائية احتاج سكانها إلى قوارب تقل أغراضهم لليابسة، الشيء الذي دفع بأسرة كيم كي-تايك إلى قضاء إحدى الليالي في قاعة مغطاة خصصت لعموم المتضررين من الفيضانات.
وبما أن الماء هو رمز للتغيير، فإن فيلم “طفيلي” استعار هذه الدلالة للإحالة أولا على الحالة النفسية للشخصيات التي تعيش الصراع الداخلي، ثم للانتقال بالحبكة السردية إلى مستوى آخر، لأن المخرج لا يسمح للمتلقي بالجلوس في منطقة الراحة، وهذا الانتقال التدريجي حدث من الكوميديا الاجتماعية السوداء إلى الدراما، وسيستتبعه، لاحقا، الرعب، بعده ذروة الحكاية الفيلمية، عقب دخول الأسر الثلاث في مواجهات دموية، والتي خلفت أربعة قتلى خلال حفل ميلاد بارك دا-سونغ، ويتعلق الأمر بمون-غوانغ، وبارك دونغ-إيك، وجيون-سي (بارك ميونغ-هون)، وكيم كي-جونغ، هذا الأخير الذي انتقم منه كيم كي-تايك بفعل تصرفاته المتعجرفة بشأن رائحة الفقراء “العطنة”.
وهكذا، سيضع المخرج المشاهد في حيص بيص. فهل سيتعاطف مع الأسرة الفقيرة التي تطفلت على ساكنة الفيلا بدون أي احترام للقيم والمبادئ استنادا إلى مجموعة من التصرفات اللاأخلاقية؟ أم مع الأسرة الغنية التي تعرضت للاستغلال رغم تعاملها الدوني والحاط من كرامة الفقراء؟
إن المخرج حاول أن ينقل ذلك العالم المظلم، والمعتم، والضيق الذي يعيش فيه الفقراء، كما اهتدى إلى اقتفاء أسلوب عيش الأغنياء الذين يتصفون باللطف، والسذاجة، ولكنهم يؤمنون بالعنف، والمكر لنبذ المختلفين عنهم طبقيا.
وعلى هذا النحو، سيكون اسم “طفيلي” الذي يحيل على كائنات تقتات على عناصر أحياء طبيعية أخرى، رمزا إلى الطبقية، والفساد، والخراب، والدمار، وهو ما جعل هذا الفيلم السينمائي، يحظى بانتشار واسع بحكم معالجته لثيمة مشتركة بين ساكنة الأرض، فاللغة لم تكن عائقا في التعبير والتواصل مع الجمهور، إن اللغة الفنية للسينما عالمية، وهو المعطى الذي جعل PARASITE يحصل على أربع جوائز أوسكار سنة 2020، ويتعلق الأمر بذرع جائزة أفضل فيلم، ومخرج، وسيناريو أصلي، وفيلم دولي، مع الإشارة إلى أنه أول فيلم غير ناطق باللغة الإنجليزية يفوز بجائزة أحسن فيلم رئيسي. إلى جانب فوزه بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان سنة 2019. وجائزة غولدن غلوب في 2020، وغيرها من التتويجات الدولية المستحقة.

***

بونج جون-هو

 

بونج جون-هو (Bong Joon-ho)، مخرج وكاتب سيناريو ومنتج كوري جنوبي. ولد في 14 شتنبر 1969. من أبرز أعماله: “ذكريات القتل” إنتاج سنة 2003، و”المضيف” خلال 2006، و”أمي” في 2009، و”محطم الثلج” بتاريخ 2013، و”أوكجا” الصادر في 2017، إلى جانب فيلم “طفيلي” خلال 2019، وهو أول فيلم غير ناطق بالإنجليزية يفوز بجائزة أوسكار أفضل فيلم، إلى جانب فوزه بالسعفة الذهبية في مهرجان كان وجوائز أخرى عديدة


الإخراج: بونج جون-هو.
السنة: 2019.
مدة العرض: 132 دقيقة.
الإنتاج: يونغ-هون جو، سينغ-هون جو، وجان-يونغ لي.
السيناريو: بونج جون-هو، هان جين-وون.
التصوير السينمائي: هونغ كيونغ-بيو.
المونتاج: يانغ جين-مو.
الموسيقى: جونغ جاي إيل.
الصوت: تشوي تي-يون.
التشخص: سونغ كانغ-هو، جانغ هاي-جين، تشوي وو-شيك، بارك سو-دام، لي سون-كيون، تشو يو-جونغ، جونغ يي-سو، جونغ هي-جين، لي جونغ-أون، بارك ميونغ-هون، بارك كيونغ-هي.

> إعداد: يوسف الخيدر

Top