تاريخ الحروب.. الحلقة 4

تدفع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تدور رحاها بأوروبا الشرقية، والتي أججت التوتر بين الغرب وموسكو وتنذر باتساع رقعتها نحو، ما وصفه مراقبون، “حرب عالمية ثالثة” لها تكاليف باهظة ليس على المنشئات والبنية التحتية فقط وإنما على مستوى الأرواح وعلى ملايين الناس الذين تنقلب حياتهم رأسا على عقب، إلى تقليب صفحات الماضي، لاستحضار ما دون من تفاصيل حروب طاحنة جرت خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
في هويات متداخلة، كما في روسيا وأوكرانيا، لم يبق أحد خارج الحرب. انتهت الحروب وحفرت جراحا لا تندمل وعنفا لا ينسى. وفي هذه السلسلة، تعيد “بيان اليوم” النبش في حروب القرن الـ 20 والقرن الـ 21 الحالي، حيث نقدم، في كل حلقة، أبرز هذه المعارك وخسائرها وآثارها، وما آلت إليه مصائر الملايين إن لم نقل الملايير من الناس عبر العالم..

العدوان الثلاثي على مصر.. هزيمة عسكرية وانتصار دبلوماسي

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ستعمد القوات الفرنسية والبريطانية إلى مواصلة التضييق على الدول التي تستعمرها بشمال افريقيا وبالمنطقة العربية خصوصا لبنان سوريا وفلسطين.
وستعلن بريطانيا التي كانت تحتل فلسطين عن انتهاء انتدابها، لكنها أعلنت في 1947 عن تقسيم فلسطين لدولتين عربية ودولة لليهود تحمل اسم “إسرائيل”، وهو الأمر الذي رفضته الدول العربية، وخاضت ضدها حرب كبيرة ضد الملشيات الصهيونية، وهي الحرب التي عرفت بـ حرب 1948، أو “النكبة”.
نشبت الحرب في فلسطين بين كل من المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة المصرية ومملكة العراق وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية ضد المليشيات الصهيونية المسلحة في فلسطين والتي تشكّلت من البلماخ والإرجون والهاجاناه والشتيرن والمتطوعين اليهود من خارج حدود الاحتلال/الانتداب البريطاني على فلسطين.

اندلاع حرب 1948

كانت المملكة المتحدة قد أعلنت إنهاء انتدابها على فلسطين وغادرت تبعا لذلك القوات البريطانية من منطقة الانتداب، وأصدرت الأمم المتحدة، التي لم يمض على تأسيسها حينها سوى عام واحد، قرارا بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية الأمر الذي عارضته الدول العربية وشنت هجوما عسكريا لطرد المليشيات اليهودية من فلسطين في ماي 1948 والذي سيستمر حتى مارس 1949.
خلال الحرب، خططت بريطانيا سرا لغزو أردني كامل للضفة الغربية على أمل القضاء على إمكانية إنشاء دولة فلسطينية بقيادة أمين الحسيني، والتي كانت ناجحة وأمنت النفوذ البريطاني داخل شرق الأردن على الرغم من أن دورهم قد خلق نتيجة غير مرغوب فيها في مستقبل الشرق الأوسط.
انتهى القتال في 7 يناير 1949 بعد استيلاء جيش الاحتلال الإسرائيلي على معظم منطقة النقب وتطويق القوات المصرية التي كانت مرابطة حول الفالوجة في النقب الشمالي. وبعد نهاية القتال بدأت مفاوضات في جزيرة رودس اليونانية بواسطة الأمم المتحدة بين الاحتلال الإسرائيلي من جانب وكل من مصر والأردن وسوريا ولبنان من جانب آخر، حيث تم التوقيع على اتفاقيات الهدنة الأربع بين 24 فبراير و20 يوليوز 1949، وفيها تم تحديد الخط الأخضر، بينما لم يوقع العراق على الهدنة.
استمرت الأوضاع بعد ذلك على نفس الحال، مع مناوشات مصرية – إسرائيلية خصوصا بمنطقة سيناء، إلى حدود 1956 حيث ستشن ثلاث قوات الحرب هجوما على مصر فيما يعرف بالعدوان الثلاثي أو أزمة السويس.

جذور أزمة السويس وأسباب “العدوان الثلاثي”

وتعود جذور أزمة السويس عام 1956 إلى تصاعد القومية في مصر بعد الحرب، ووصول جمال عبد الناصر للحكم الذي طمح لاستعادة أمجاد مصر والمنطقة العربية، خصوصا بعد الهزيمة التي تلقتها القوات العربية في حرب 1948.
قبل ذلك، وفي عام 1951، كان مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد المنتخب حينها، قد ألغى المعاهدة الأنجلو-مصرية لعام 1936، حيث استمرت المقاومة في استهداف حامية الاحتلال البريطاني، الذي سيلجأ في عام 1952 إلى عملية لنزع سلاح قوات الشرطة شبه العسكرية المصرية في الاسماعيلية، والتي كانت تدبر أعمال المقاومة، حيث وقع فيها مئات الشهداء من المقاومة المصرية.
وأدت هذه العملية البريطانية إلى مزيد من العمليات المضادة من قبل المقاومة وأفراد من الشعب، إذ بلغت ذروة هجمات المقاومة باستهداف مزيد من الممتلكات البريطانية والأجنبية، وكان يوم السبت 26 يناير يوما مشهودا في تاريخ مصر بهذا الهجوم، والذي يسمى باسم السبت الأسود أو حريق القاهرة.
وأمام الوضع ورفض استمرار تواجد بريطانيا بالتراب المصري، سيلجأ مجموعة من الضباط بقيادة اللواء محمد نجيب إلى الإطاحة بالملك فاروق عام 1952، ثم أطاح عبد الناصر بمحمد نجيب في 1954، وأعلن عن ثلاثة أهداف: جعل مصر مستقلة بإنهاء الاحتلال البريطاني، وبناء القوات المصرية لشن هجوم ناجح على إسرائيل، وتحسين وضع الاقتصاد المصري من خلال إنشاء السد العالي في أسوان لري وادي النيل.

اتفاقية الجلاء

في نفس العام تم التوقيع على معاهدة من قبل عبد الناصر وأنتوني نوتينغ وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية، والتي تعرف بـ “اتفاقية الجلاء”، حيث اتفق الطرفان على سحب القوات البريطانية من مصر بحلول يونيو 1956، وأن تتم إدارة القواعد البريطانية بشكل مشترك من قبل فنيين مدنيين بريطانيين ومصريين، فيما التزمت مصر من جهتها باحترام حرية الملاحة عبر القناة، وتم الاتفاق على السماح للقوات البريطانية بالعودة إذا تعرضت قناة السويس للتهديد من قبل قوة خارجية.
ولتحديث الجيش والترسانة العسكرية، سيطلب عبد الناصر من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عقد صفقات عسكرية تحصل بموجبها مصر على السلاح، لكنهما تماطلتا في الرد، قبل أن ترفضا بحجة وضع حد لسباق التسليح في الشرق الأوسط، ليتوجه عبد الناصر إلى طلب السلاح من الاتحاد السوفيتي وهو ما قابله الأخير بالترحيب لتدعيم موقفه بالمنطقة.
قررت كل من بريطانيا والولايات المتحدة الرد على الخطوة المصرية، والرد على رفض عبد الناصر الدخول في سياسة الأحلاف، ورفضه الصلح مع إسرائيل طبقا لشروط الغرب كما أقرتها الخطة “ألفا” وذلك بوضع خطة جديدة أُطلق عليها “أوميجا” هدفت إلى تحجيم نظام عبد الناصر عبر فرض عقوبات على مصر بحظر المساعدات العسكرية وتقليص تمويل السد ثم إلغاؤه بالكامل في وقت لاحق.
ومن أجل تحقيق حلمه، رأى عبد الناصر في تأميم قناة السويس فرصته الوحيدة للحصول على التمويل اللازم لبناء السد العالي، وبالفعل أعلن في 26 يوليو 1956 قرار التأميم، ومع فشل الضغط الدبلوماسي على مصر للعدول عن قرارها قررت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وضع خطة لاستخدام القوة العسكرية ضد مصر أُطلق عليها بروتوكول “سيفرز”.

بروتوكول “سيفرز”

طبقا لبروتوكول “سيفرز”، وفي 29 أكتوبر 1956 هبطت قوات إسرائيلية في عمق سيناء، واتجهت إلى القناة لإقناع العالم بأن قناة السويس مهددة، وفي 30 أكتوبر أصدرت كل من بريطانيا وفرنسا إنذارا يطالب بوقف القتال بين مصر وإسرائيل، ويطلب من الطرفين الانسحاب عشرة كيلومترات عن قناة السويس، وقبول احتلال مدن القناة بواسطة قوات بريطانية فرنسية بغرض حماية الملاحة في القناة.
أعلنت مصر رفضها لتدخل أي قوى أجنبية في مصر، ورفضت احتلال إقليم القناة، لتهاجم في 31 أكتوبر بريطانيا وفرنسا مصر وتشن معا غاراتهما الجوية على القاهرة ومنطقة القناة والإسكندرية، فيما كانت القوات المصرية تقاوم على جبهة سيناء قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ونظرا لتشتت القوات المصرية بين جبهة سيناء وجبهة القناة وحتى لا تقوم القوات المعتدية بحصارها وإبادتها، أصدر عبد الناصر أوامره بسحب القوات المصرية من سيناء إلى غرب القناة، وبدأ الغزو الأنجلو-فرنسي على مصر من بورسعيد التي ضربت بالطائرات والقوات البحرية تمهيدا لعمليات الإنزال الجوي بالمظلات.

هزيمة عسكرية وانتصار دبلوماسي

سرعان ما انعكست نتائج العدوان الثلاثي التي كانت نتائجها عسكريا لصالح كل من بريطانيتا وفرنسا إلى إدانة لهما من قبل المنتظم الدولي، حيث حمل الرأي العام العالمي، وخاصة الرأي العام في الولايات المتحدة، كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل مسؤولية التآمر والعدوان على مصر التي وإن خسرت المعركة عسكريا ربحتها دبلوماسيا، لاسيما بعدما أجبرت الأطراف المشاركة في العدوان على سحب قواتها من مصر بشكل كلي، بسبب الضغط العربي والدولي، وخصوصا بعد تهديد الاتحاد السوفياتي بالتدخل بشكل رسمي في الحرب لدعم القوات المصرية.
توقف العدوان مع مطلع 1957، وتم إرسال قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة للإشراف على وقف إطلاق النار واستعادة النظام، كما تم تطهير قناة السويس وإعادة فتحها، فيما تراجع نجم بريطانيا كقوة عالمية، ووجدت أن علاقتها مع الولايات المتحدة ضعفت وتضاءل نفوذها شرق السويس بسبب تلك المغامرة. وبدأت الاتهامات بالتواطؤ بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956 تطفو على السطح، بالرغم من نفي الرئيس البريطاني، الذي سيجد نفسه مجبرا على الاستقالة، تبعا لذلك، في نفس السنة.

> إعداد: توفيق أمزيان

Related posts

Top