حول الكتابة

تنبهر بفكرة سيناريو ما عندما تستوقفك أول مرة، تفتخر بها، تفرح بها، تحتفل بقدومها، تنتظر أن يصفق لك العالم. مع اللحظات الأولى للكتابة تبدأ رحلة التيه والضياع وأنت تعرف بالتجربة أن ثلثي ما تكتبه سينتهي إلى سلة المهملات وليس إلا صدى بعيد، بعيد جدا لما سيكون عليه النص النهائي أو محاولة يائسة لنص لن يكتب له الوجود. النسخة الأولى من السيناريو والثانية والثالثة نسخ مؤقتة وتُعبر عن تردد وعدم ثقة في النفس تصل إلى حدود مرضية، تحس عندما تقرأها، أي تقرأ هذا الكم الهائل من رؤوس الأفكار والصور والرسومات، أنه من المستحيل الخروج من هذا الركام بشيء يصلح أن يقرأ.
في البداية تقاومك الكتابة رغم أنك تحاول أن تغويها بكل الوسائل وتقاوم في نفس الآن أن تتسرع  وأن تثبت الأشياء قبل الأوان ليبقى لك المجال مفتوحا على كل إمكانيات جديدة، ولكي لا تنخرط في خطاطة ما أو بناء ما له وجود سابق. لا توجد في البدايات الحكاية بعد والشخصيات ليست إلا هياكل لا حياة فيها ولا تنير طريقك إلا أحاسيس تبحث لها عن شكل لوجود ما.
أنت تعرف الخطاطات التي ضمنت النجاح للآخرين، أو التي تجعل المسافات أقصر إلى نسخة نهائية وحتى إلى النجاح، ويسهل عليك استعادتها، تحويرها، إعادة تشكيلها بطريقة تنسي المشاهد في الأصل، لكن قوة داخلية ترفض أن تأخذ هذا الطريق، ربما تبحث داخلك عن شيء لا يستطيع أحد آخر إنجازه غيرك رغم بساطته، عن شيء لا تعرفه وليست لك عنه أية فكرة، لكنك تحسه كائنا في مكان ما داخلك. رغم هذه القناعة تمزق ما كتبته وتضغط على زر الحذف على جهاز الكمبيوتر وتحاول أن تنسى كل ما كتبته، على أمل العودة بنفس جديد في فترة لاحقة. تكون الأشياء قد انطبعت في الذاكرة ويصعب حذفها ببساطة، بلمسة زر.
الكتابة تشبه الهلوسة حيث العلامة الوحيدة التي تنبئ بأن الطريق ممكن هي أنك تعرف أن هذا الركام له منطق ما خفي عليك إيجاده، قد يتطلب البحث عنه سنوات أو جزء من ثانية، يساعدك أنك تعرف ومتيقن من الأشياء التي لا ترغب فيها. تعود إلى بعض قواعد كتابة السيناريو للاستئناس بها ومحاولات ترتيب أفكارك وتعود إلى مواجهة هذا الركام ومحاولة تنظيمه، لكنك لا تتأخر في اكتشاف أنها محاولة فاشلة.
تهتف لصديق وتطلب منه أن يقرأ النسخة الحالية، وأن يبدي ما استطاع من ملاحظات وتترجاه أن يكون قاسيا ما أمكن. بعد مدة يمدك الصديق بكل ما توصل إليه وهو يتكلم، تكون أنت تفكر في أشياء أخرى وتبدأ بعض الحلول تظهر، ولكي لا يحس الصديق بأن المجهود الذي قام به لا معنى له، تفعل وكأنك تدافع عما كتبته ولا تخبره أنك عندما أرسلت إليه النسخة، وفي المدة التي استغرقها في القراءة، كنت أنت قد أنجزت نسخة أخرى أي أن ملاحظاته لا معنى لها.
تعيد ترتيب الأوراق، المشاهد، تدمج شخصيتين في شخصية واحدة، وتقرر أنه يجب الاكتفاء بالحد الأدنى من الحوار وتقرر في نفس الآن أن تعيد النظر في النهاية الشيء الذي سيؤثر حتما على المشاهد التي قبلها، وتقرر أن تحكي  كل السيناريو من وجهة نظر شخصية واحدة تكون حاضرة في كل المشاهد، الشيء الذي يجعلك لا تحتفظ إلا بالقليل مما كتبته إلى حد الآن، وتجد نفسك أمام صعوبة إدماج المعلومات التي تتضمنها المشاهد المحذوفة في الباقي أي في المشاهد التي احتفظت بها… تجمع كل هذه النقط وترتبها، لكنك لا تجد الرغبة في الكتابة، تجاهد نفسك بدون أمل، إلى أن يحين موعد آخر آجل لتقديم المشروع لأحد صناديق التمويل، آنذاك تكون قد استنفدت كل المبررات وأحرقت كل مراكب العودة ولا يبقى أمامك إلا المواجهة، إلا الكتابة لا غير.
بقلم: محمد الشريف الطريبق

الوسوم ,

Related posts

Top