ربما لم يمر على الشعب الفلسطيني عام أشد وطأة ودموية على الإطلاق أكثر من 2024 الذي شهد فصولا متوالية من حرب إبادة غير مسبوقة في غزة، قضت على كل مقومات الحياة، وشهدت الضفة الغربية اعتداءات استثنائية تخللها استخدام مفرط للقوة الغاشمة، ووقف المشروع الوطني الفلسطيني أمام مفترق حاسم، يبدو أنه لن يجد طريقه إلى المستقبل بسهولة بفعل ما يحدث في الداخل والجوار من تطورات ومفاجآت مدوية، مع الاعتراف بأن حجم الجرائم الإسرائيلية في غزة قد حركت العالم وأعادت القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام الدولي، بينما لم يجد «حل الدولتين» طريقه إلى الإنجاز وأصبح يترنح في وضع إقليمي ودولي شديد التقلب.
وفي الوقت الذي يستقبل فيه العالم العام الجديد 2025، ليس هناك تغيير في الحالة الفلسطينية التي اختزلتها المأساة المفتوحة في غزة والظروف الإنسانية القاسية التي ألمت بها. أما استشراف المستقبل فلا ينبئ بأي انفراج واضح، إلا إذا حدثت تطورات غير متوقعة، مثلما هي حال الأحداث في الشرق الأوسط خلال الفترة الماضية.
ما جرى في غزة طوال 2024 وقبل ذلك بثلاثة أشهر في العام الذي سبقه 2023، لا يمكن لأي إحصاءات أو كلمات أن تصفه أو تنقل بشكل كامل مدى الدمار الجسدي والعقلي والمجتمعي الذي حدث في ذلك القطاع الساحلي الصغير، حيث تشير التقارير إلى أن غزة فقدت نحو 10% من سكانها بين قتيل وجريح ومفقود.
أرقام مفزعة
الأرقام والإحصاءات حول نتائج العدوان على غزة مفزعة، وإلى حدود شهر دجنبر 2024 فقد خلف العدوان الإسرائيلي أكثر من 55 ألف قتيل ومفقود بين الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر 2023، وارتكب نحو 10000 مجزرة منها 7168 ضد عائلات فلسطينية. وحتى منتصف شهر ديسمبر 2024 وفق إحصائية للمكتب الحكومي في غزة، فقد مسحت حرب الإبادة الإسرائيلية أكثر من 1140 عائلة فلسطينية من السجل المدني، وذلك بعد قتل الأب والأم وجميع أفراد الأسرة. وهناك 3563 عائلة فلسطينية أبادها الجيش الإسرائيلي ولم يتبق منها سوى فرد واحد.
وتستمر فصول المأساة بتسجيل مقتل نحو 18 ألف طفل من ضمن إجمالي الضحايا بمعدل طفل قتيل كل ساعة بحسب «الأونروا». كما حرم الأطفال من سنة دراسية كاملة، وتعرضت المدارس التي تؤوي الأسر النازحة للقصف بشكل متكرر، وتعرض العاملون في مجال الرعاية الصحية والمستشفيات لهجمات متكررة. وبلغ عدد النساء اللواتي تم قتلهن 12136 امرأة، لتلغ نسبة الضحايا من النساء والأطفال نحو 70%، إضافة إلى آلاف الضحايا من الأطباء والممرضين ورجال الإغاثة والمسعفين والصحفيين والمصورين والعاملين في المنظمات الإنسانية، وهذه الإحصاءات تتغير كل يوم وأحيانا كل ساعة.
وشردت الحرب معظم سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وتسببت في أزمة إنسانية عاتية. وحسب الأمم المتحدة، فقد تم تهجير كامل سكان غزة تقريبا، وعدد كبير منهم نزحوا عدة مرات، ولم يجدوا مكانا آمنا يذهبون إليه.
أما الأوضاع الإنسانية، فقد بلغت مستوى حرجا وصل إلى درجة الإبادة الجماعية، مع تدهور الأمن الغذائي الحاد، الذي يعانيه نحو نصف السكان، وسط توقعات بأن يحتاج أكثر من 50000 طفل إلى علاج من سوء التغذية الحاد، فيما هناك 160000 امرأة حامل ومرضع بحاجة إلى تغذية ومكملات المغذيات الدقيقة. أما على الجانب الصحي، يواجه نحو مليون شخص تهديدات صحية بسبب انتشار القوارض، والآفات، والنفايات الصلبة والبشرية، ومياه الصرف الصحي، ويحصل نحو 1.4 مليون شخص على أقل من الكمية الموصى بها من الماء، والتي تقدر ب 6 لترات للشخص الواحد يوميا للشرب والطهي.
متفجرات تعادل ثلاث قنابل ذرية
طوال أكثر من 14 شهرا، ألقت إسرائيل 87 ألف طن متفجرات على قطاع غزة، ما يعادل أكثر من ثلاث قنابل ذرية قياسا بقنبلتي هيروشيما وناغازاكي، وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فإن العدوان الإسرائيلي دمر 160 ألفا و500 وحدة سكنية بشكل كلي، و83 ألف وحدة سكنية أصبحت غير صالحة للسكن، و193 ألف وحدة سكنية دمرت جزئيا. كما دمر الجيش الإسرائيلي 819 مسجدا بشكل كلي، و153 مسجدا بشكل بليغ بحاجة إلى إعادة ترميم، وثلاث كنائس تم تدميرها، و19 مقبرة دمرها الجيش بشكل كلي وجزئي من أصل 60 مقبرة، فيما صادر الجيش نحو 2300 جثمان من العديد من مقابر قطاع غزة، بينما تم إخراج 34 مستشفى و80 مركزا صحيا و162 مؤسسة صحية و135 سيارة إسعاف عن الخدمة.
جولات تفاوض عقيمة
وعلى مدار العام، لم تحرك المحادثات غير المباشرة بين إسرائيل و«حماس» ساكنا، وظلت الاتهامات المتبادلة سيدة الموقف، وسط جهود متواصلة من قبل الوسطاء، لكن من دون اختراق يذكر بسبب التعنت الإسرائيلي وغياب الردع مع ضعف القانون الدولي.
وبين القاهرة والدوحة، دارت عجلة الوساطة في جولات متعددة، لوضع نهاية للحرب، أو على الأقل التوصل لهدنة مؤقتة تفضي إلى تبادل الأسرى والرهائن، ومنح قطاع غزة فرصة لالتقاط الأنفاس.
وطوال أكثر من عام، خيمت على جولات المفاوضات تبادل الاتهامات بين إسرائيل و«حماس» بتعطيل اتفاقات محتملة لوقف إطلاق النار في اللحظات الأخيرة، فيما اشتكت أطراف الوساطة من عدم تعاون الطرفين، ووصل الأمر بقطر إلى تعليق وساطتها حتى تظهر الأطراف جديتها، قبل أن تعود لاحقا لاستئنافها. الإحباط تسلل حتى إلى الجولة الأخيرة بعد فترة من التفاؤل قبل أن تلقى مصير سابقاتها من الجولات التفاوضية.
ويأمل عدد من الخبراء أن يتم التغلب على كل العراقيل والذهاب لاتفاق قبل 20 يناير المقبل التزاما بمهلة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب قبل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة.
وإذا كانت بعض التوقعات تشير إلى أن قطاع غزة، قد يشهد في عام 2025، هدنة مؤقتة قد تؤدي إلى وقف إطلاق نار لفترة محدودة، فإن إسرائيل لا تسعى إلى تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، بل تعمل على تحقيق أهداف استراتيجية تتمثل في تدمير الفصائل الفلسطينية وتهجير أكبر عدد ممكن من سكان القطاع، سواء عبر التهجير القسري أو عبر فتح المعابر لإفساح المجال أمام التهجير الطوعي.
وهذا السيناريو معلن من الحكومة المتطرفة الحاكمة في تل أبيب، التي تخطط للسيطرة الكاملة على غزة، باعتبار ذلك جزءا من أهدافها الاستراتيجية لتحقيق «إسرائيل الكبرى». لكن كل هذه الأهداف والسيناريوات تواجه المجهول، في ظل ما يشهد الوضع الإقليمي والدولي من توتر متصاعد، ومن انتقال للصراعات من منطقة إلى أخرى، فما إن يتم إخماد نزاع في مكان حتى يشتعل في منطقة أخرى، وذلك على الرغم من تصريحات ترامب، الذي يروج لإمكانية تحقيق انفراجات في الملفات العالقة على مستوى العالم، وليس فقط في منطقة الشرق الأوسط.
مصير الدولة الفلسطينية
ومع اقتراب عام 2025، وبالتزامن مع حرب الإبادة المستمرة في قطاع غزة واستمرار الأطماع الاستيطانية بالضفة الغربية، تتصاعد المخاوف من استمرار غياب الأفق السياسي لحل القضية الفلسطينية في ظل تعقيدات محلية وإقليمية ودولية. وعلى الرغم من إصرار كل البيانات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والمطالبة بحل القضية الفلسطينية على أساس «حل الدولتين»، فإن هذا الحل لا يبدو ممكنا في ظل الأوضاع الراهنة، لأسباب عدة منها العدوان الإسرائيلي المستمر واستواؤه بالدعم الأمريكي غير المحدود، والذي سيتضاعف مع عودة ترامب.
أما الانقسام الداخلي الفلسطيني، فهو العقبة الكأداء والمانع الأساسي لتوحيد الموقف الوطني. ولهذه الأسباب وغيرها، قد لا يحمل العام الجديد أفضل مما كان في السابق، بل إن هناك مؤشرات كثيرة على تعميق المأساة الإنسانية والسياسية للشعب الفلسطيني، وهو ما يعني أن فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة تبدو أكثر بعدا، إلا إذا حدثت مفاجآت غير متوقعة، وهي لا تبدو ممكنة في المدى المنظور.