شهد المشهد السياسي في المملكة المتحدة تغييرا كبيرا سنة 2024 مع عودة حزب العمال إلى السلطة بعد 14 عاما من المعارضة، وذلك عقب الانتخابات التشريعية التي جرت في يوليوز الماضي.
وقد حقق حزب العمال فوزا ساحقا في الانتخابات، بينما برزت أحزاب أخرى، من قبيل الليبراليين الديمقراطيين وحزب الإصلاح، وتمكنت من جذب انتباه الناخبين وفوز بمقاعد في برلمان وستمنستر.
وجاء هذا التحول على حساب حزب المحافظين، الذي بدا منهكا بعد 14 عاما من الحكم. ورغم حملة انتخابية مضنية للحفاظ على أغلبيته البرلمانية، لم ينجح المحافظون في إقناع البريطانيين الراغبين في التغيير، خصوصا في انتخابات الرابع من يوليوز.
ورغم محاولات رئيس الوزراء السابق، ريشي سوناك، الذي اتهمته المعارضة بفقدان التواصل مع احتياجات الشعب، الدفاع عن سجله الاقتصادي مع تحقيق نمو اقتصادي في بداية العام وخفض التضخم إلى 2 بالمائة في ماي بعد فترة من الركود وأزمة حادة في القوة الشرائية إلا أن ذلك لم يكن كافيا لاستعادة ثقة الناخبين.
وعانى حزب المحافظين من صراعات داخلية وخلافات أضرت بسمعته. ولم تفلح وعوده بخفض الضرائب، بما في ذلك تخفيض المساهمات الاجتماعية، من تجاوز الفضائح والأخطاء التي عززت صورة قيادة ضعيفة وحزب يعاني من الانقسامات الداخلية.
وفي المقابل، استفاد حزب العمال بقيادة كير ستارمر من رغبة الناخبين في التجديد. فقد اعتمد ستارمر على خطاب معتدل ووعود “واقعية”، إذ ركز حملته على الاستقرار والنزاهة والإصلاحات التدريجية. ومن بين أولوياته إعادة بناء نظام الصحة العامة، والاستثمار في الطاقات النظيفة من خلال إنشاء مؤسسة “GB Energy”، واتخاذ تدابير بيئية طموحة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تعهد حزب العمال بعدم زيادة الضرائب على العاملين، لكنه اقترح فرض ضرائب إضافية على بعض القطاعات مثل المدارس الخاصة والهيدروكربونات، لتمويل الخدمات العامة والبنية التحتية اللازمة “لإعادة بناء” البلاد.
كما أعلن ستارمر عن مواقف متمايزة بشأن القضايا المثيرة للجدل، لاسيما إنهاء برنامج ترحيل المهاجرين إلى رواندا. وقد ساعدته استراتيجيته الحذرة والمنهجية على تجنب الأخطاء وتعزيز تقدمه الواضح في استطلاعات الرأي.
وفي يوم الانتخابات، أكدت النتائج رغبة الناخبين البريطانيين في التغيير. فقد فاز حزب العمال بأغلبية ساحقة بلغت 174 مقعدا، بينما تراجع حزب المحافظين إلى 121 مقعدا فقط، وهو أدنى رقم تاريخي لهم. كما حقق العمال مكاسب كبيرة في اسكتلندا، فيما سجل الليبراليون الديمقراطيون تقدما ملحوظا ليصبحوا القوة السياسية الثالثة في البلاد.
علاوة على ذلك، نجح حزب الإصلاح (أقصى اليمين) في الفوز بخمسة مقاعد في مجلس العموم، من بينها مقعد لزعيمه المثير للجدل نايجل فاراج، الذي تمكن أخيرا من دخول البرلمان بعد محاولات عديدة.
وفي أول خطاب له بعد الفوز، وعد ستارمر بعهد جديد من “النهضة الوطنية”. وأكد بصفته محاميا ومدعيا عاما سابقا التزامه بخدمة البلاد ببراغماتية وجدية.
بيد أنه، بعد أقل من شهر على انتصاره الساحق وتشكيل حكومته، واجه ستارمر أول تحد له، عندما اندلعت أعمال شغب عنيفة في عدة مدن قادتها مجموعات يمينية متطرفة تردد شعارات معادية للمهاجرين والإسلام، وهاجمت مساجد وفنادق تستخدم لإيواء اللاجئين.
وبدأت الاضطرابات بعد مقتل ثلاث فتيات صغيرات في مدينة ساوثبورت الساحلية يوم 29 يوليوز، وانتشار أخبار كاذبة تحمل مسؤولية الجريمة إلى أحد طالبي اللجوء. وقد تعهد ستارمر ووزيرة الداخلية الجديدة، إيفيت كوبر، بمحاسبة المتورطين قائلين إنهم “سيواجهون قوة القانون”، مما أدى إلى استجابة سريعة من الشرطة واعتقال أكثر من 1200 شخص.
ومع عودة الهدوء، تحولت الأنظار إلى راتشيل ريفز، التي كسرت الحواجز بتوليها منصب وزيرة المالية، لتصبح أول امرأة تتقلد هذا المنصب في تاريخ المملكة المتحدة. وأثناء إعدادها أول ميزانية لها، حذرت ريفز من “إجراءات صعبة” لسد عجز بقيمة 22 مليار جنيه إسترليني ورثته عن الحكومة السابقة.
وسرعان ما تحول التفاؤل الذي صاحب فوز العماليين إلى حالة من عدم اليقين، عقب تضمين الميزانية زيادات كبيرة في الضرائب، التي اعتبرتها ريفز “ضرورية” لتحقيق الاستقرار في المالية العامة والاستثمار في الخدمات العامة. لكن هذه السياسات أثارت استياء أرباب العمل والقطاع الخاص.
واعتبرت الشركات، التي أضعفها بالفعل المناخ الاقتصادي غير المستقر، أن هذا الأمر سيؤدي إلى تقليص هوامش أرباحها وقدرتها على الاستثمار،مشيرة بشكل خاص إلى الزيادات في الاشتراكات الاجتماعية التي يتحملها أرباب العمل، مما يدفعها إلى “تقليص عدد العاملين وتأجيل زيادات الأجور”.
ومن المرجح أن يكون لهذا الوضع تداعيات سلبية على النمو الاقتصادي والتشغيل، حيث تتآكل ثقة الشركات، التي تعد محركا أساسيا للاستثمار، بشكل ملحوظ وفقا لمؤشرات غرف التجارة في البلاد.
وستكون الأشهر القليلة المقبلة حاسمة في تقييم تأثير هذه السياسات على الاقتصاد البريطاني. وسيتعين على الحكومة تحقيق توازن دقيق بين الحاجة إلى إصلاح المالية العامة ودعم النشاط الاقتصادي. وعلى الرغم من أن حزب العمال مدعوم بتفويض قوي، إلا أنه سيتعين عليه التغلب على الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية، لاسيما وأن سقف انتظارات الناخبين أصبح عاليا، وسيكون الوفاء بالوعود الانتخابية أمرا حاسما للحفاظ على ثقة الناخبين، فضلا عن إدارة التوترات المستمرة المحيطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع تحقيق الاستقرار في الاقتصاد الذي لا يزال هشا.
وفي الواقع، منذ وصول حزبه إلى السلطة، أطلق ستارمر حملة من أجل “إعادة ضبط” العلاقات البريطانية الأوروبية. وفي أعقاب ذلك، قام بزيارات إلى العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وأيرلندا وإيطاليا وبلجيكا.
وتمثل هذه المرحلة بداية حقبة سياسية جديدة في المملكة المتحدة، حيث يتعين على حزب العمال إثبات قدرته على استعادة “جدية” البلاد والاستجابة لتطلعات المواطنين نحو التغيير.
المملكة المتحدة في 2024.. سنة عودة حزب العمال إلى السلطة
الوسوم