رزانة مدريد وجنون المرادية

اعتبارا لمصلحة البلد والمواطنين، لم تتردد الجارة الإسبانية في مراجعة حساباتها، فيما يهم علاقتها مع المملكة المغربية، درءا لأزمة اقتصادية عصفت بالعديد من القطاعات وأضرت بكثير من مصالح مواطنيها التجارية، في وقت لازالت فيه الجارة الشرقية، تسخر فيه كل جهودها لتعميق الهوة مع بلد طالما كان في جنبها، دون التفكير في شعب قاوم لما يزيد عن قرن من الزمن لمحاربة الاستعمار، ليجد نفسه في الأخير أمام عقلية استعمارية داخلية لا تفكر إلا في مصالحها الخاصة ولا يهمها إلا إرضاء شغف نفسيتها العدائية تجاه بلد جار عبر في أكثر من مناسبة عن مد يده لها.

تفهم إسبانيا جيدا أن المغرب يظل شريكها الأول والأفضل بالقارة السمراء، باعتباره أقرب وأهم بوابة لها ولباقي دول العالم نحو أفريقيا، وبلغة الأرقام فإن قرابة 50 في المئة من صادراتها تجاه دول أفريقيا جنوب الصحراء تمر عبر المغرب، لا سيما الصادرات التي تتوجه إلى الغرب عبر معبر الكركرات، فضلا عن الدور الأساسي الذي تلعبه المملكة في الرواج الاقتصادي بالعديد من المدن الإسبانية، سواء حيث مداخيل التجارة أو السياحة.

وبالتالي فأي حركة معادية أو مواقف غير واضحة من الجارة الشمالية للمملكة المغربية تعني مغامرة غير محسوبة بمصالحها الاقتصادية والتجارية، والتي تقدر بملايير الدراهم، كما أكده عدد من الساسة والمسؤولين الإسبان خلال السنتين الماضيتين، حيث تسببت الأزمة بين البلدين في ركود اقتصادي غير مسبوق على مستوى العديد من المدن الإسبانية، خاصة المدينتين السليبتين سبتة ومليلية.

في جميع الأحوال، إن الخطوة التي اتخذتها إسبانيا بخصوص تطبيعها الكامل مع المغرب، الذي استقبل مئات عمالها في الأزمة المالية التي أضرت بها كثيرا سنة 2008، للعمل في مدينة طنجة والعديد من مدن الشمال، رغم كونها متأخرة إلا أنها تعبر عن رزانة وحكمة كبيرين، تفقدهما الجارة الشرقية التي بامتلاكها الغاز الطبيعي ظنت أن العالم أضحى بين “قبضتها الحديدية”.

إن التفكير البراغماتي الذي نهجته إسبانيا، بخصوص علاقتها مع الجار الشريك المهم في مكافحة ظاهرة تدفق المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء والمغاربة غير الشرعيين، ومكافحة الإرهاب، سيحمي اقتصادها الذي يرتبط بدرجة أولى بالمغرب في مجالات عديدة، منها إلى جانب ما عددناه سابقا الصيد البحري، حيث أن للجارة الشمالية حصة الأسد من اتفاقية الصيد البحري الموقعة بين المغرب والاتحاد الأوروبي، ويكفي أن اقتصادها تضرر بـ30 مليون يورو (36 مليون دولار) في ثلاثة أشهر فقط من تجميد الاتفاقية قبل إعادة تفعيلها.

لا بد أن الجارة الشمالية، في ظل التغييرات الجيوسياسية أضحت ملزمة بتغيير التفكير الاستراتيجي المصلحي تجاه المملكة المغربية، حيث أن هناك تغيير كبير سواء على مستوى المغرب أو إسبانيا، وتم التغلب على المفهوم الأصلي “للاستغلال”، وبالتالي لأجل توطيد الترابط المتزايد للعلاقة الثنائية، يجب العمل على تغيير المنهجية المتبعة، والسير في اتجاه البحث عن التكامل وليس المنافسة، وتقارب التفضيلات والامتيازات بدلا من الاختلافات.

كما أنه على المغرب اليوم استيعاب أهمية الاقتصاد، ومنه مضاعفة الجهود لتطويره وتعبئة مزيد من الرافعات لجذب الرساميل والتحول إلى منصة لوجستية للتبادل التجاري بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، إذ يملك عناصر قوة مهمة يجب تطويرها واستثمارها، من بينها الموقع الجغرافي، الموانئ، الطاقة، البنوك، التأمين، المطارات، الطرق ثم الموارد البشرية المؤهلة وغيرها…

أما الجارة الشرقية، خاصة في ظل التطورات الأخيرة، فقد بات عليها اليوم لزاما، التفكير في المصلحة الفضلى لأبنائها الذين ضحوا بالغالي والنفيس لأجل استقلالها، وبناء العلاقات للرقي بالوطن لما يستجيب لتطلعات شعب يستحق الأفضل، بدل محاولة تصريف أزماتها الداخلية المرتبطة بسوء التدبير، من خلال بناء أعداء وهميين على أسس وهمية.

وعلى الجزائر أن تعي جيدا أن الغاز الطبيعي، ورقة غير كافية للضغط على دول كبرى، حتى تحصل على ما تريد من مطالب غير مشروعة دوليا، وغير منطقية أساسا، ولا تعبر سوى عن تفكير قاصر وجنون الممارسة السياسية، خاصة في مواجهة دولة ضاربة في عمق التاريخ، متميزة بسياستها الحكيمة في تدبير الملفات الكبرى، وعملت على مدى قرون في بناء علاقات كبيرة وجادة مع مختلف دول العالم.

عبد الصمد ادنيدن

Related posts

Top