الحسن أمزيل.. مُبدع الألوان الطاهرة
حينما تلتقي خبرة الباحث بدُربة الإعلامي وروح المبدع العاشق للثقافة المغربية في بُعدها المتجذر، تمنح القارئ نصوصا جديدة في لغتها وموضوعها، وهو ما تجود به كتابات د/ عمر أمرير الذي راكم تجربة من البحث الأكاديمي والإعلامي والثقافي.
بعد كتابه “العصاميون السوسيون في الدار البيضاء”، والذي اختار التنقيب في سير عشرات الأسماء السوسية التي انتقلت إلى الدار البيضاء وأصبحت، بعد رحلة عصامية، من أقطاب الاقتصاد المغربي، حوّلها عمر أمرير إلى حكايات توثق الذاكرة التي لا يلتفت إليها المؤرخون، غير أنه في كتابه “قيمة الثقة عند المغاربة من خلال ذاكرة الحاج الحسن أمزيل” (مطبعة سومكرام – الدار البيضاء الطبعة الأولى 2021 – 348 صفحة من الحجم الكبير) يتقدّمُ خطوة أخرى في كتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي انطلاقا من ذاكرة في واحدة من القيم العليا التي انبنت عليها الإنسانية وهي الثقة وروافدها المتصلة بالصدق والأمل والطموح.
ومما يعطي هذا الكتاب أهميته، مضمونه الهام في التوثيق لتجربة من التجارب الاقتصادية والإنسانية الجديرة بالانتباه في بناء اقتصاد وطني وروح التضامن والوطنية الصادقة، وقد استطاع المؤلف اختيار أسلوب سلس في الكتابة لتشكيل نص انطلاقا من رؤيته ومن صيغة الحوار مع ذاكرة الحاج الحسن أمزيل ومن شكل عرض الكتاب عبر استهلال مشوق وفصول صغيرة ذات عناوين تسهل على القارئ تتبع الموضوع في أسلوب حكائي لحوار مباشر مع تعليقات وشروحات معززة بصور توثيقية ومحطات تاريخية.
سيرة طفل من أداي يعشق الألوان الطاهرة
وهو طفل دون التاسعة من عمره، كان لحسن بن علي أمزيل بنظراته الواثقة والمندهشة بأسرار مُبهمة ستتفتّحُ لاحقا، قد ربط مع الطبيعة الأطلسية بتافراوت علاقة سخية من الحب المقطّر والإعجاب والذي سيمتدُّ على مساحة ما يُقارب القرن.
يوميا، وفي هذه العزلة الطهرانية عن عوالم بعيدة، كان عالم ما وراء ذاك الجبل خلف قريتهم الصغيرة أداي يُثير فضوله وشوقه الطفولي، ففي كل صباح يُبصر الشمس الطالعة من “تنكاروف” التي سمع عن سحر حدائقها في عوالم سوس كلها، كما سيسمع لاحقا عن سحر تامدولت الأسطورية المندثرة، وقد تحولت إلى خيال أمازيغي شاسع. ولعله اعتقد أن الشمس تنام في أحضان حدائق تنكاروف، فالتمس من والده أخذه لزيارتها وكأنه، بحدوس طفولته وأسرارها الخفية ورغبته في أن يُصبح واحدا من الرُّماة، كان يتنبأ بأن يقول له والده وهما يخطوان فوق ترابها وذكرياتها المندرسة، أن هذه الأرض كانت مرتع أجداده الأولين قبل انتقالهم إلى أداي في رحلة لا أحد يعلم أسرارها.
في أداي كانت عيونه تَشخص بالإعجاب في تلك الصخور الصلبة والشامخة المشكلة لأداي وكأنها إبداع رباني، سيمتد في كل المنطقة السوسية بتافراوت التي تُعتبر صخورها من أجود الرخام والأحجار.
هكذا تشكلت مخيلة الحسن بن علي أمزيل وسط طبيعة تمنح الشموخ والصبر والصلابة، كما تمنح أسرار الاكتشاف خصوصا حينما كان والده يأخذه إلى الغاب والأودية لانتخاب النباتات في أوقات محددة ومنها يُبدع أجمل ألوان الصباغة ومادة البارود.
لم يكن الطفل مُخطئا حينما اعتقد أن الشمس تشرقُ من تنكاروف وأداي لتضيء سوس الواسعة، فهي فعلا أشرقت في نفسه بحب الحياة في عالم الوهاد والسفوح والجبال والصخور الضخمة والأشجار والنباتات والطيور.
ولد الحسن أمزيل في هذه العزلة الخالدة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بسنة واحدة، فتربى في أرض لم يستطع أن يصلها الاستعمار إلا بعد أزيد من عشرين سنة، أرض تُنبتُ الجبال والرجال وكذلك النساء في شموخ، وقد وعى يستمع إلى الناس تتحدث عن والده، الذي كان قد ولد في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كأنه حكاية عجيبة من روح المغامرة والمخاطرة.. تزوج من زوجته الأولى وخلف منها ذكرين وأنثى، وفي سنة 1901، ولأسباب غائبة، سيختفي فجأة وسيُشاع خبر مقتله في أحواز مراكش ثم يتأكد ذلك لاحقا. وبعد عشر سنوات، قبل سنة واحدة من توقيع الحماية، وخلال موسم الحج وأثناء طواف صديقه نايت عمر السوسي بالكعبة سيُبصر طيفه ثم يتحقق بعد ذلك منه فيعود معه إلى أداي وهو يروي لهم مغامراته في اليمن والحجاز وامتهانه حرفة الحدادة والفلاحة والنجارة وصنع الصباغة من النباتات ودق البارود، واشتغاله معالجا لعدد من الأمراض ومداواة الجروح الخطيرة، والتحاقه جنديا في صفوف الجيش العثماني وزيارته فلسطين ودول عربية أخرى.. إنه مغامر كبير من تافراوت خَبَر الحياة وتكلم لغاتها، وحينما عاد وجد زوجته الأولى قد ماتت وتزوج أبناؤه الثلاثة، فتزوج من فاضمة داود التي ستُنجب له الحسن وباقي إخوته وأخواته. لم يستطع البقاء في محل تجارته الصغير بأداي والاكتفاء بذهابه أسبوعيا إلى أربعاء تافراوت، فقرر الهجرة إلى الدار البيضاء وبها اشتغل ونبغ، ولكن كِبر سنه أرغمه على العودة إلى حضن أداي جوار أبنائه يعلمهم من أسرار مهنته “المقدسة” إلى أن توفي سنة 1928 وقد ترك ابنه الحسن ذا التسع سنوات مع باقي إخوته في حضن امرأة تمتلك من الشجاعة والحكمة والصبر ما جعلها تستكمل تربية أبنائها.
ثلاثة عناصر لافتة أسهمت في بناء شخصية الحسن وتربيته في مرحلة الطفولة: أولا: والده عليّ بن محمد الذي علمه حب المغامرة والطموح، وحب الطبيعة المانحة لكل شيء وعلّمه حب الألوان وصناعة الصباغة.
ثانيا: والدته فاضمة، التي كانت رفقة نساء أخريات، يتعلمن لدى العالمة تاباعيش (عائشة المباركة سليلة بيت العلم والأدب) في منتداها المسمى مجلس أكـراو، تعلم النساء القرآن الكريم وتدرسهم نصوصا من كتب نفيسة أسلوب التربية والمعاملة وحسن الأخلاق، ثم الإنشاد الجماعي من أشعار حمو الطالب، وقراءات من الفقه والمنظومات، وكان سكان القرى يستبشرون بزيارتها لهم “فهي فقيهة وطبيبة ومفتية، خبيرة باستخراج خلطات أدوية من الأعشاب لتطبيب المرضى في قراهم. تنفرد بها نساء يثقن فيها ثقة راسخة فيفرغن ما يؤرقهن من هموم وأحزان في خلوتهن معها، فيجدن في نصائحها ما يخفف عنهن البلوى، وتصلح ذات البين بين المتخاصمين والمتخاصمات أفرادا وجماعات”. (ص 82).
ثالثا: عالم أداي الذي اخترق خياله، فمنذ نعومة أظافره وهو يسمع برجال انتقلوا إلى الدار البيضاء وأصبحوا من الأثرياء عن طريق التجارة، كما فتح بصره على نظام موروث من القديم، يُنتخب فيه رجال للتسيير والتنظيم وِفقَ أعراف معلومة يرسخ الأمن والمساواة في ما يُسمى مجالس اينفلاس التي تضبط السوق والمعاملات التجارية والفلاحية بالإضافة إلى نظام التناوب (تيويزي وتاوالا) في إطعام الفقيه وضيافة الغرباء والسقي والحراسة، وهو ما ساعد في تنظيم المقاومة المحلية ضد الفرنسيين، في نهاية العشرينات والسنوات الأولى من الثلاثينات، قبل انهزامهم بشرف أمام تطور أسلحة الاستعمار ووحشيته.
وفي هذا العالم الصغير، دخل السوق وافتُتنَ به وتعلم وأدرك وارتوى وهو يستمع إلى الموسيقيين الروايس وإلى مروضي الأفاعي، كما ارتوى من احتفالات نزهة الطلبة وذكرى المولد النبوي ومهرجان فن الرماية.
بعد وفاة والده، ستنفتح أمامه شُرفة على الحياة التي ستُغير مجرى مسيرته وذلك بالانتقال إلى الدار البيضاء في سنة 1933 وهو ابن أربعة عشر عاما، لدى إخوته الذين سبقوه ليخوض تجربة التجارة. وقد طبعت هذه المرحلة حياته بشيء أساسي، ففي كل محنة صادفته كان يخرج منها أقوى مما كان، وذلك لعاملين في تكوين شخصيته، عامل الصبر المرتبط بالطموح، ثم الذكاء وموهبة البحث عن طرق أخرى خارج الأنفاق المسدودة.
تَدرّج الحسن أمزيل في مسيرة حياته، التي ستَجعله واحدا من صُنّاع الاقتصاد الوطني، من ثلاث مراحل كبرى:
المرحلة الأولى: من 1933- 1936، وصل الدار البيضاء واشتغل مساعدا لدى السيد محمد بلمعلم في محل للتجارة بحي أكثر ساكنته من الأوربيين لمدة ثلاث سنوات تذوق فيها حلاوة التجارة والعيش في الدار البيضاء.
وأثناء بحثه عن طريق جديد يسير فيه، كان مارّا من ساحة سيدي بليوط فتوقف متفرجا على “عروض الموسيقى الأمازيغية للروايس، وفي صدارتهم الرايس إبراهيم أمنتاك المشهور بأغاني الرحلات… ومشاهدة حلقة فنون ناطقة بالدارجة المغربية ومنها حلقة الثنائي مولاي بِّيه عازف الكنبري، وبوجمعة الفرُّوج إيقاعي البندير.. وحلقة العيساوي مروض الأفاعي” ص 180.
المرحلة الثانية: 1936-1945، استقل بنفسه بتنسيق مع إخوته، واكترى محلا تجاريا صغيرا بدرب كلوطي، جوار بوسبير درب السلطان، وكسب فيه سريعا تجربة ومالا، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية و”عام البون” الذي ساعده في التجارة، ثم تحوّل إلى وبال عليه وعلى التجارة بعد انتهاء الحرب إذ عمّ الكساد وتوقف الحسن أمزيل، فانتقل من هذه المحنة إلى المرحلة الثالثة التي شكل فيها شخصيته.
في هذه المرحلة، تعلم الاعتماد على النفس، وخاض تجارب كثيرة قد لا يسعها كتاب واحد، فيها من الكبوات والانتصارات والأسرار، وخاض تجربة العشرة (لعشرت) اشتراكا في الأكل وتعرّف إلى أصدقاء جدد من تجار مثله وإلى فنانين ورياضيين وعلماء وفقهاء، فتفتقت رغبته في تعلم اللغة العربية فواظب على قراءة جريدة السعادة وحضور دروس العلامة الفقيه محمد بلعربي العلوي بالمسجد المحمدي بدرب السلطان وفقهاء آخرين، كما انخرط في حزب الاستقلال لحظة تأسيسه وتحمل المسؤولية في الدائرة الحادية عشرة بدرب السلطان، في زمن صعب أيام حرب قاتلة.
المرحلة الثالثة: 1945- 2017: تفتقَ ذكاؤه بالعودة إلى سرّ “الحرفة المقدسة”، الصباغة، فاتفق وأخوته إبراهيم وأحمد وعبد الله وسعيد على العمل يدا واحدة، فاكترى محلا صغيرا بدرب الطلبة يبيع فيه صباغة الصوف التي يجهزها بنفسه، وعُرف بين الناس باسم ابن الحاج السوسي. وبعد سنتين وهو في عمر الثامنة والعشرين من عمره سافر إلى أداي وتزوج من أم العيد ثم عاد إلى الدار البيضاء، وشرع في تعلم اللغة الفرنسية. وفي هذا المسار الساخن عرف عدة محن كانت سببا في صنعه، رفقة إخوته، لآلة تدويرالصباغة بعد تعذر اقتنائها من فرنسا، كما استطاع صنع مادة البرنيز التي ارتفع ثمنها وصارت شبه مفقودة، فتوسعت الشركة التي تأسست أخيرا من خمسة أخوة تحت اسم “صباغة ابن الحاج إخوان”، ترأسها أخوه الأكبر إبراهيم، واختاروا لها اسم “أطلس” للصباغة، كما دخلوا في صناعة وتجارة أنواع مبيدات الحشرات والعقاقير والمطهرات والكريزين والماء القاطع، وبعد سنتين توفي إبراهيم وتولى الحسن المسؤولية، فواصل تطوير الشركة وتوسيعها والإبداع في تشكيل صورتها.
في خمسينيات القرن الماضي، تعرّف على بعض أبرز رجال المقاومة والحركة الوطنية، منهم سعيد بونعيلات وأحمد أولحاج وإبراهيم الروداني وعباس المساعدي وأحمد الصباغ. ولم يكن الحسن أمزيل يحب إفشاء مساهماته المادية والتنظيمية للوطنيين والمقاومين، أو مساهماته الخيرية بعد الاستقلال في كثير من المشاريع، كما سيشهد بذلك أحد رجال المقاومة محمد بنسعيد آيت ايدر.
بعد استقلال المغرب، سيسافر إلى فرنسا وهولندا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال من أجل تطوير الشركة وآليات المعمل الذي توسع كثيرا وقد أصبح علامة في الاقتصاد المغربي وأصبح الحسن أمزيل رئيسا عاما لمنتجي الصباغة بالمغرب يحظى باحترام عالم الاقتصاد، إلى أن اطمأنَّ على هذا الصرح الذي بناه على مدى عقود، وسلّم المشعل لابنه عبد الرحيم أمزيل، في مطلع الألفية الثالثة.
عاش الرجل شامخا ونظيفا ومطمئنا إلى أن توفي في السابع من دسمبر2017.
الآن وهو هناك، سيفكر في الأقدار التي جاءت به ليرسم مصيره في هذه الحياة وشما باقيا، ولعله فكّر ماذا لو كانت هجرة علي أمزيل بلا عودة، وماذا لو اختار البقاء في قريته الصغيرة؟ سيتذكر أداي وتنكاروف وذلك الطفل الذي كانه قبل أن يركب حافلة أيت مزال ويرى لأول مرة السيارات والمنعرجات والبحر، ثم يركب الدراجة ويحبها كما يحب السينما والفن والشعر والحكايات الأسطورية… وهو لا يعلم آنذاك أن حياته تلك ستُصبح حكاية أخرى ذات قيمة تنضاف إلى حكايات تصنع الحياة.
< بقلم: شعيب حليفي