فنتازيا اللاممكن

وعلى غير عادتي، علي أن أصغي لصوت العندليب الذي في الخارج، ولابد لي أن أُنشد الشعر هذه الليلة.

أُحلق وأغني، وقبل الكتابة بنوتة واحدة، علي أن أرتل ذاك اللحن الحنون، وأفكر بكيفية العزف على القيثارة الأندلسية، وأكتب بهذه اليد الميتة أنني أحيا، وأعيش في مثل هذا الحزن المروع الذي يمثلني، وينفخ في طيفي روحه.

بت أكره ذاكرتي، وأنا المسئولة عن كلاسيكية ذاتي، وعن دفع روحي للتمسك بكل الأشياء التي لا تناسبها، حتى لا تموت غما وكمدا، ولا بأس ببعض اللامبـالاة وكم أود لو أقطع أعناق الذكريات.

ولا بأس بتلويح عشوائي لحدة مزاج يتدهـور، بمدية مشحوذة بمنطق الرحيل، وأني المسئولة عن ترك تلك الأمور التي لا أستطيع مفارقتها، أجل لقد كنت السبب في كل تناقضاتها منذ البداية، وآآآه، كم أود لو أشيع جثمان أفكاري، إلى مثواها الأخير، عساها ترقد بسلام.

على بعد عقدين من حنين، كانت تلك الملامح تعانق أنفاس الجدران، بعيدا عن مشاعري المضطهدة، ليغمرني الارتباك بسهولة كلما زحف الاهتمام المدغم تفاصيلي.

فيكسو قلبي المثخن بجحافل الأسى، وكي لا أردم فوقه ما تيسر من تربة الجحود، وحده صوتي ساعتها، استحوذ على كل النبرات.

كان ذلك يفزعني، ويثير بداخلي الريبة، ويسبب لي عطبا مفعما بالشجن، وألف مليون احتمال.

لكن لفرط اندفاع شعوري، كنت دائما أصد ظني بيقين مثير للارتياب، وأعانق فيه أقواس السحاب، عساني ألتحف سجية السماء، وإن الأمر لمختلف هذه المرة ؟

رائحة الطين تخالط عطر ياقات الحروف، وهمس الريح يلتصق بزجاج نوافذي، ووحده وجهي كان كل الحضور.

وكلما دهست ذلك القلق الذي تسرب داخلي، ورششته بشيء لطيف، يطفئ تلابيب الغيوم التي كانت ترقص داخل عقلي، تشنق أفكاري، وتضّيق علي الأحلام رغم اتساعها، ورغم انتماءها إلى فنتازيا تلفظ اللاممكن، وتصنع منه ممكنا.

رغم مرارة الحياة، والقتال، وكل ما قدمته لها على طبق من الندم، أنا لم أعد أنا، ورغم ضنك الأيام، وعجالة الموت، فقد تجرعت ما يكفي من الشقاء، والبؤس والأسى.

ورغم ابتزاز الألم لانتظاري الطويل مرات ومرات، إلا أنه بقي هناك شيء ما دائما يدور في خلدي، ككتلة من الغباء تنتعل روحي، وتتوسد عورة المسافات.

هل حقا سترميني الأقدار، وإن شئت أسميها الصدف، يوما ما إلى شخص يتصّدر المشهد..؟

شخص يمنحني ملامحه العتيقة، وأهداب شعور تطبق على خصر النسيان.

شخص يصنع من ثقوب قلبي نايا..؟

شخص شجاع يغمره الشوق والحب في كل فصول مزاجي كي لا تطويني أقدام العابرين؟

شخص يجعلني أعانق “اليوفوريا” ولا يخون اللحظة ؟

شخص لطيف يجيد فلترة اللحظات، يهدئ من روعها ويدثر عنادها بحيلة يعبر معها من خلالها إلى شروق أجمل؟

شخص يكتب غيابي بلغة الحنين ويتجاوز معي الانتماء القديم..؟

فصول تتلوها فصول، وأغدو أنا امرأة حكاياتي، فيها الخريف سيد الفصول، إمرأة تبحث عن شخص كلاسيكي بتفكير محض مشبّع بالصدق والنزاهة..؟

عميق بشكل دافئ يجعلني أكتب بشكل عار دون أن أخشى خدش الحروف وسطوة الحب؟

شخص لبيب لا يكترث بالطفيليات والكائنات الفضائية التي تسعى لتخريب اللقاءات..؟

منصت جيد لا يمّل الاستماع إلى حماقاتي ولا يصفع روحي بأكف من القنوط ولا يؤرجحني فوق سنابل الشعر تارة وفوق خيوط الوهم تارة دون أن يخشى نقر الغربان.. ؟

رجل بنكهة الدهشة يجعلها تخترق الآه ولا يدحرجي ككرة نصف مفرغة من الهواء.. ؟

حاد لا يغادر اللغة مهما أصابه ألف سؤال ؟

إلى ذلك الغريب أكتب وأنا أبحث عن كسرة ضياء لأشياء تحاك في الخفاء ولا أدري عنها شيء ؟

إلى تلك الخطوة التي تفصلنا على الفراق وروحي تجوب الكون ؟

إلى الفجوة التي باعدت بيننا وألقت بنا في ترف الذكرى ؟

إلى ذلك العنيد الذي زاد وهج الخيال وجعلني ارتشف كأس الضلال من رؤيتي الضبابية ؟

إلى التحالف الأخير الذي أبى أن ينقذ خجلي وحوله إلى هلام وقال عنه أنه بلا هوية ولا عنوان، إلى عديم الضمير الذي جعلني أبدو كحلس بال أتخبط في غياهب تقدح الأسقام أتعثر في أكثر الدروب استقامة لتعيد لروحي تفاصيل الهوية

في أيلول، ذاك الشهر الذي أجهض لحظات كادت أن تكون ديباجة للفرح وولادة جديدة للطوفان.

احدودب قلبي من عنف الأفعوان حتى بلغ التطرف وحدود الابتذال ودفعني لأكتب بحبر أفيوني ولغة أعجمية لا يفقهها إلا صعلوك نازع السقوط في صندوق امرأة أخرى وتلاقط الحب المجفف مع قطيع من الغربان حتى لا يصادفني من أضاعوا السبيل، أجل إنها مجرد كلمات فقط عيناها جزر إغريقية وأهداب حروفها تجاعيد نهر تكتبني رغم أنف القلم والحرف والمطر، رغم عسر لون الخريف وقنوط القدر واحتفاء أيلول بالجفاء دون أن يربت الطمأنينة على معصم الأيام، لتنام قرير العين مليء الوفاض هنا داخلي، أقصد داخل قبر أحلامي أواري الفزع من حروبي الباردة التي احتقرتها بل وتجاوزتها حتى أعلم منذ البداية أن الطريق إلى سوارك صعب وغير مهذب مليء بالانتكاسات والمطبات يجره التعب والسهاد معلق من عرقوبه يركض نحوك بسرعة الضوء ولا يصل..

لا يهم إن توقفت بنا السبل لكن بطريقة ما كنت أنت من اخترتني كنت عابر فضول تقتنص الفرص وتتقاذف الاستثناء الذي يشغفك في مفترق الطرق بخطوات خجولة أربكت نبضا ظل لسنوات هادئ.

قبس نرجسي غزير، يغزوه عطرك هنا يرتعش كل الثقوب التي كنت أتنفس من خلالها، وأصابها وصب وأوصدت رجائها لأوطاد الساعات القادمة.

سأعبر هذا الشتاء البارد بلا معطف، سأتجمد من البرد لأني أطوف كل الأماكن بلا مظلة أكتب الأسماء كلها وألتقط الصور لشيء ظل عالقا خلال اللقاءات التي جمعتنا على هوامش تلك القاطرة التي مرت أمامنا مسرعة ولم تكترث لدقات قلبينا. هذا الشتاء أيضا سأسقط في فاه الذكرى وسأعلق بمتاهة تقودني إلى الكوابيس سيجعلني هشة ويجردني من العفة ويرسم خارطة لدماري يشوه بها اعتقادي بأن معجزة ما ستنقذني وتلتقط أنفاسي قبل أن يلفظها الشتاء البائس.

فيا أيتها الممرات الضيقة هل لك أن تفتحي شراعك لأعبر صخب أصوات هذه الأسئلة التي تأكلني كيف..؟ لماذا..؟

إلى أين وكلي يحتكر الأماكن..؟

أيعقل أن يحدث كل هذا..؟

حتى الفراغ تحين علي واجتر مني وقوده المشتعل لمدة أطول حقا لا يوجد شيء بالمجان أيها البؤس الذي لا ينتهي وشفاه تنفث على قارب صغير، ما زال إلى الآن يبحر في نهر الأمنيات.

وكل ما أنا عليه، فصول تلو فصول فيها تعيش ضفائر الخريف، ويسقط كل زهر الرمان وتعتق الشرفات مطر تشرين وعلى ساق حورة تتماهى حروف القصيدة، وأيدي تعبث بحوض البيلسان وشفاه تنفث على قارب صغير مازال إلى الآن يبحر في نهر الأمنيات، وأنا التي طويت منذ أكثر من عقد دفتر أشعاري.

وفي سوق الوجل شريت بثمن بخس يراعي، حزمت أمتعة الذكرى، وعلى جيد الخريف علقت عقد الذكريات..

للأمانة، ما إن يحل الصباح، حتى تبدأ طقوس القهوة، فتتمايل قصيدتي على رائحتها، كيمامة تعانق حبات النبق..

و من جديد، فصول تلو فصول ما فتئت تهرول، ووحده الخريف يتربع على عقد أصابعي، يصول مرة ومرات عدة يجول..

هند بومدين

Related posts

Top