ينفتح نص “حشرة القلاس” منذ البداية على مرحلة ما بعد الحرب، وبتعبير أدق بعد عودة الجنود إلى منازلهم، إلى الحياة، حيث يبدو أن كل شيء قد تركوه خلفهم. ولكن الحرب عبثية، لا تنتهي كما نتصور، مثلها مثل الوباء الذي يستحضره المؤلف أيضا ليس بشكل متواز وإنما متداخل، مما يجعل النص ينشغل في الاثنين معاً، أو يكاد يمزج أو يجمع بينهما لكي يجعل من الكلمات صورا وبالعكس، أو ربما لكي يعجن متنه النصي بمادة واقعية متخيلة من خلال صور سينمائية ومشاهد تتخذ من الكلمات مجازا، ومن الفنتازيا ملاذا لتصوير ما هو غير معقول أو عبثي يحيط بحياتنا من كل الجهات. وعلى الرغم من أننا لا نرى الحرب في النص، لأنها قد مرت، يظل ظلها يخيم على النص وعلى أحداثه بنوع من الكابوسية المخيفة والهزلية في آن واحد؛ إنها غائبة، وبعيدة، ولكنها منتشرة في كل مكان فيه مثل “الطاعون وانتقاله عن طريق العدوى، صحيح أن هذا الأخير يقتل دون أن يقضي على الأعضاء”، حسبما يقول آرتو، لكن الحرب بالإضافة إلى كونها تقتل، وتشرد البشر، تقضي على الحياة وليس الأعضاء فقط، إنها تترك بصمتها على الجسد مع ندوب عميقة، مرئية وغير مرئية. في هذا النص تنتهي الحرب قبل أن تبدأ بفترة طويلة، ولكنها مع ذلك تترك لنا خمسة أشخاص يتصارعون مع ما تبقى من كرامتهم وإنسانيتهم. كلهم يحاولون إعادة بناء ما تحطم في علاقتهم ببعضهم البعض ومع العالم، ولكن كل على طريقته الخاصة. فالعائلة التي يقترحها النص قد تحطمت وانهارت معها جميع القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية.
يروي لنا النص قصة أجيال تتعايش وتتداخل وتتقاطع داخل عائلة، تتألف من خمسة أشخاص: المساعد الاجتماعي المكلف بالرد على الأشخاص المقبلين على الانتحار بسبب الحرب طبعاً. الجد الجندي المتقاعد الذي فقد ذاكرته أثناء أسره في حرب قديمة، يقيم مع ابنه المساعد الاجتماعي، ومع زوجة هذا الأخير نجمة الإغراء، والممثلة السينمائية الصاعدة التي ستصاب بتشويهات في وجهها على إثر انفجار لغم منسي وإصابتها بشظية خلال تصويرها لمشاهد في إحدى مناطق النزاع القديمة، حيث ستعود محطمة لبيت العائلة. الابن الوحيد للمساعد الاجتماعي، مجند في حرب جديدة، يعود هو أيضا إلى بيت العائلة مكوما على كرسي متحرك بعد أن فقد إحدى رجليه. وهناك عالمة الحشرات الضخمة، التي تشكل وحدها عالماً خاصاً بذاته، فهي باحثة مختصة في “حشرة القلاس” وتدير مختبرا مجاورا لبيت صديقها المساعد الاجتماعي.
هذا المعرض من الشخصيات يضعنا مباشرة أمام طباع تبدو مضحكة، غريبة الأطوار، ومناخات غروتسكية، نسبة للغروتيسك، تشكل الحدث وتطبع حالاته برمتها بنوع من الفنتازيا الممتزجة برهبة مخيفة، من خلال ما تعكسه من مواقف تكمن ذروتها في تقريبها للهزل من المأساة، ومزجها المتباين للوعي بالخيال والمغالاة بالانحراف، وأسلوب تصوير الأحداث وكيفية كتابتها المقترحة، في مستوى اللعب ولغته الهازلة المُستفزة، التي تعري بشاعة الحرب وسخفها في آن واحد. وبقدر ما تبدو الشخصيات متناقضة، وقلقة، بقدر ما تبدو غير معقولة في تصرفاتها وعلاقاتها، من خلال ممارستها لنسيج من العادات، والأفعال المرتبطة ببيئة وبأدوار محددة، لا تتساءل من خلالها عما هي عليه أو عن ماهيتها، أو عما تفعله، بل تكتفي بتنفيذها بطريقة مربكة وطائشة أو براغماتية. في هذا السياق، يشكل العالم اليومي لهذه الشخصيات البيئة المألوفة التي يتكشف فيها وجودها، مثل امتداد ضروري لأفعالها، فهي تتصرف في هذا العالم الفنتازي الذي رسمه لهم المؤلف بطريقة تبدو ساذجة أو عفوية، دون السعي للتشكيك فيه، مما يجعل النص يبدو في حالة جدلية غرائبية مستمرة، ينتهي بمشهد يذكرنا نوعا ما بمسرحية “وحيد القرن” ليونسكو التي استلهمها هذا الأخير من تجربتين عاشهما، وهما صعود النازية والتجربة الستالينية، التي تشكل شكلاً سلطوياً من أشكال الشيوعية. فـ “الخراتيت” أو “وحيدة القرن” تقتحم المدينة تباعا، مثلما اقتحم وباء كورونا عالمنا مؤخرا، وزعزع استقرار معايرنا وعاداتنا اليومية، بعد أن أحدث شرخاً عميقاً فيها. وهذا ما سلط عليه الضوء كريم الفحل الشرقاوي في نهاية نصه عندما جعل من “حشرة القلاس” تقتحم بيت العائلة، كوحش كاسر تضخم، بعد أن كانت في مختبر الباحثة مجرد حشرة صغيرة تتغذى على ثاني أكسيد الكاربون، الذي نكتشف من خلال حوارها مع المساعد الاجتماعي، أن هذا المظهر ليس سوى قناع تختفي خلفه حقيقة “حشرة القلاس” الحاضنة لوباء جرثومي. إن المؤلف بقدر ما يحيلنا في نصه إلى حالة الوباء وتداعياته على العالم يحيلنا أيضا بشكل مجازي إلى الحرب وأعطابها وألاعيبها ليس من خلال مشهد تضخم “حشرة القلاس” فقط، وإنما أيضا من خلال مشهد الابن وعودته إلى البيت برجل اصطناعية والذي سيكشف لجده المجند المتقاعد وصاحب الذاكرة المعطوبة بأنه لم يكن بطلا كما يتوهم والده وإنما هو “مجرد جلاد حقير” وآلة تعذيب بشعة لأسرى الحرب الجديدة .
إن المبدع كريم الفحل الشرقاوي يكتب في نصه هذا عن حالة الحرب، وعن كورونا أيضاً التي انتشرت مؤخرا في عالمنا، بطريقة لم تعد فيها الحرب ولا الوباء يشكلان الواقع الفعلي للنزاع، وجوهر العمل بقدر ما تشكل الأبعاد السياسية والاجتماعية امتدادًا للحرب وللوباء في نسيج العلاقات الإنسانية؛ إنه لا يستعرض الحرب وإنما يعريها، ويصور تداعياتها كوباء منذ الغارة الأولى (يسمي لوحات النص الستة بالغارة وليس اللوحات). ولكي تتعدد رؤى النص وإشكاله، لجأ المؤلف منذ الوهلة الأولى للنص، إلى تقنية المنتجة الصورية السينمائية بغية تعميق طروحاته الفكرية والجمالية، التي حاكت في شكلها ومضمونها العالم الذي يريد تقديمه بنوازعه وتقلباته من خلال مواكبة أهم ما تمر به الشخصيات والأحداث من متغيرات بصياغة زاوجت بين لغة المسرح والسينما كما هو الحال في مطلع الغارة الأولى تظهر لنا على الشاشة المثبتة في خلفية الركح مشاهد بصرية للمساعد الاجتماعي “وهو عار وسط حمام تقليدي فارغ معتم. لا يرتدي سوى جوارب سوداء وقفازات سوداء وقبعة سوداء وسروال قصير أسود يستر عورته”. وبالتزامن مع ذلك واختفاء الشاشة يضاء الركح ليكشف لنا عن مكتب المساعد الاجتماع المليء بهواتف ترن باستمرار مثل صافرات إنذار حرب تنعق بالويلات، وهذه الحرب “لعنة تطارد هذه العائلة المنكوبة”، مثلما يقول المساعد الاجتماعي في آخر النص، وتنتصب إلى جانب المكتب خيمة عسكرية صغيرة تتسع لشخص واحد، يجلس أمامها رجل مسن يرتدي خوذة الحرب ويحتضن بندقية خشبية كطفل أبله، يستعملها من حين لآخر ليستحضر ما عاشه من رعب وهول جاعلا من ذاكرته تعيش وبشكل متقطع، ومتناثر عوالم معطوبة، ليس في جراراتها سوى الحرب وأوامرها العسكرية.
إن هذا التوظيف السينمائي المسرحي لم يقتصر على بداية ووسط الغارة الأولى فقط وإنما استمر على طول النص وتمفصلاته، بحيث شكل نسقاً متلازما مع الأحداث وتسلسلها المتطور، وجعل من العالم السينمائي القادم من بعيد حاضرا أمامنا كجزء لا يتجزأ من الواقع المسرحي المعاش والمتخيل، وهذا ما نلمسه في الغارة الثالثة التي نشاهد فيها ومن خلال الشاشة “امرأة شقراء رشيقة ذات قوام جميل ترتدي فستان السهرة الطويل الأسود. تخفي وجهها خلف قناع ذهبي لامع أشبه بأقنعة الفراعنة وهي تمشي الهوينى وسط منحوتات نساء من صبار التين الشوكي. تظللها ستائر شفافة تهتز تحت تأثير رياح خفية. في العمق يظهر عازف نحيف يرتدي ملابس متفحمة ويحتضن كونترباص متفحم أيضا من آثار حريق قديم. وفجأة تنزع المرأة الأنيقة قناعها الذهبي الباذخ فيظهر وجهها المشوه قبل أن تشرع في الرقص بين تماثيل الصبار الشوكي على إيقاع المعزوفة الشاعرية لعازف الكونترباص المتفحم”.
إن عملية الذهاب والإياب بين المسرح والسينما قد جعلت النص يستغني عن لغة السرد ويكرس نفسه للفعل وتكثيفه بالحدث بشكل متماسك، إذ لا يمكن فصل التقنية السينمائية هنا عن المسرح أو النص بسب فجوة جمالية لا يمكن تخطيها خاصة عندما يكون مؤلف النص على دراية بما يفعل، لا سيما أن المسرح يعزز المفاهيم في حين أن السينما تنطوي على تحديد الهوية. وعندما تكون الشخصية حاضرة على المسرح مباشرة وفي السينما غير مباشر، فهذا يعني إن الشاشة السينمائية تعيد عملية حضورها بطريقة الانعكاسات المختلفة التي تحصل في المرآة بعرضها للصورة على واجهة سطحها المصقول، أي إن ما نفقده كشاهد مباشر في المسرح، نحصل عليه في السينما بتأثير مختلف كل الاختلاف، بفضل التقارب الاصطناعي الذي يسمح به التكبير في الكاميرا (في اللقطات المقربة واللقطات البعيدة، وإلخ).
من خلال التصوير السينمائي المستعمل هنا كتقنية لها حضور أساسي ومركزي والفنتازيا، والغروتسك، إن صح التوصيف، يحاول المؤلف كريم الفحل تقديم كوميديا سوداء وصورة مَقلوبة عن الحياة اليومية والرسمية، لأجل إعادة أحياء الذاكرة الفردية والجماعية التي غالبا ما يتم سحقها تحت وطأة التاريخ الرسمي للأحداث والكوارث بعد طمر حقائقها. نكتشف في هذا النص أن الحرب أو الوباء في حد ذاتهما لا يظهران، بشكل مباشر ولكنهما سيرتبطان دائما بالحياة الاجتماعية والسياسية التي سيقوم بتحديدها، ومحاكاتها، بأسلوب لا يخلو من المراوغة، والمشاغبة والسخرية اللاذعة. ويبقى السؤال المركزي للنص: كيف سنعيش ونبني مغامرة أخرى عندما لم يعد كل شيء كما كان من قبل؟ هذا ما تحاول الفنتازيا والغروتسك الذي لجأ إليهما المؤلف كأسلوب لأجل أن يصنع ويجعل من صمت الماضي يتكلم، ويكشف من خلالهما عن الجانب الخفي لتداعيات الحروب والوباء اللذين اكتسبا أهمية كبيرة في النص بشكل ضمني. بهذه الطريقة يحاول المؤلف كريم الفحل الشرقاوي أن يعري الحقائق ويكشف عن أفكار ومعاناة الشخصيات التي اختبرتها، من خلال تقديمه للنص باعتباره تجوالا متجدداً في الماضي والحاضر، والذي يمكن فهمه على أنه علامة بحث مؤلم ومحزن عن الذات، والكينونة، اللتين باتتا مهددتين بسب غطرسة العالم الجديد؛ بحث ضروري ولكنه دائما بلا جدوى، لأن ما حدث قد حدث، مثلما يقول شكسبير مع تغير بسيط في عبارته.
تتأسس هذه الكتابة النصية، على عوالم غرائبية منحت الزمن في الكثير من الأحيان، إمكانية اختراق الماضي والحاضر والمستقبل بحرية؛ سمحت له لأن يلعب على ومع العلاقة المعقودة بشكل خفي ما بين الحقيقة المعاشة، والحقيقة المخزونة في الذاكرة والحقيقة المتخيلة. حيث يتعاقب الحاضر مع سردية الماضي لأجل أن يكمل بقايا الحلقات المفقودة، وذلك من خلال كل ما هو عاطفي، اجتماعي، سياسي وتاريخي. وفي خضم هذه الفوضى التصويرية التي تتداخل فيها الأحداث والشخصيات، وتشتبك، وتتناقض، تحاول الكتابة النصية البحث عن نظام وأسلوب جديد يكشف من خلاله عن خرابات الحروب والأوبئة التي لم تعد تفارق مخيلتنا.
< بقلم: د. محمد سيف / باريس
باحث وناقد ومبدع عراقي مقيم في باريس