العدالة المناخية بين الالتزامات القانونية والواقع

هل يدفع الضعفاء ثمن أزمة لم يصنعوها

تصاعد أزمة المناخ يومًا بعد يوم، ومعها تتزايد الحاجة إلى تحقيق العدالة المناخية، التي تُعدّ مبدأً يهدف إلى توزيع أعباء التغير المناخي بشكل منصف بين الدول والشعوب. لكن رغم الجهود الدولية، لا تزال الفجوة بين الالتزامات القانونية والتطبيق الفعلي لهذه المبادئ واضحة. فبينما تتحمل الدول الصناعية مسؤولية تاريخية عن الانبعاثات التي تسببت في تفاقم الظواهر المناخية المتطرفة، تبقى الدول النامية الأكثر تضررًا والأقل قدرة على التكيف، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول فعالية القوانين الدولية في تحقيق

العدالة البيئية

إن التغيرات المناخية اليوم أصبحت تهدد بشكل مباشر حياة البشر على كوكب الأرض، إذ أن الأنشطة البشرية مثل الانبعاثات الكربونية والتلوث البيئي تساهم بشكل كبير في تسريع هذه التغيرات. مما يعكس ضرورة الانتباه إلى مفهوم “العدالة البيئية”، وهو مفهوم ناشئ يربط بين العدالة الاجتماعية وحماية البيئة. العدالة البيئية تسعى إلى ضمان حقوق الأفراد في بيئة نظيفة وصحية، والتي هي حق أساسي لكل إنسان. هذا المفهوم يتضمن على وجه الخصوص المساواة في توزيع الأضرار البيئية والموارد الطبيعية، مع إيلاء اهتمام خاص بالمجتمعات الفقيرة والمعرضة بشكل أكبر لتداعيات التغيرات المناخية.
في ظل التحديات المناخية المتزايدة، أصبح من الضروري أن تتخذ الحكومات والمجتمعات العالمية خطوات فعالة لمعالجة هذه المشكلة. القوانين البيئية الحديثة، مثل اتفاقية باريس للمناخ، تركز على الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة التي تساهم في الاحترار العالمي، وكذلك على تشجيع استخدام الطاقات المتجددة والحد من استهلاك الموارد الطبيعية. الدول مطالبة بتحديد أهداف خفض الانبعاثات وتطوير سياسات بيئية تشجع على الابتكار التكنولوجي الأخضر والاستدامة البيئية. ومع ذلك، فهل هذه القوانين كافية لمواجهة تحديات التغيرات المناخية؟
إن العديد من الخبراء يشيرون إلى أن التشريعات البيئية، رغم أنها ضرورية، لكنها تفتقر إلى القدرة على تنفيذ القرارات بشكل فعال، في ظل ضغوط اقتصادية وقوى سياسية واقتصادية تعارض هذه السياسات. علاوة على ذلك، فإن قدرة الدول النامية على تطبيق هذه التشريعات محدودة بسبب ضعف الموارد المالية والتقنية. لذا، يجب على المجتمع الدولي تعزيز التعاون بين الدول المتقدمة والنامية، بما يضمن توفير التمويل والمساعدة التقنية اللازمة لتطبيق هذه السياسات بشكل أكثر فعالية.

الإطار القانوني للعدالة المناخية

لطالما كان القانون الدولي أداة رئيسية في التعامل مع القضايا البيئية، وقد حاول منذ أوائل التسعينيات وضع أسس قانونية لمواجهة التغير المناخي. جاءت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) عام 1992 لتشكل نقطة البداية في الاعتراف بالتغير المناخي كقضية عالمية تتطلب تعاونًا دوليًا. ومن بعدها، جاء بروتوكول كيوتو (1997) ليُلزم الدول الصناعية بتقليل انبعاثاتها، لكنه واجه انتقادات لعدم فرضه التزامات مماثلة على الدول النامية. أما اتفاق باريس للمناخ (2015) فقد كان خطوة أكثر شمولًا، حيث ألزم جميع الدول بالعمل على الحد من ارتفاع درجات الحرارة، لكنه لم يضع آليات قانونية صارمة لإلزام الدول الكبرى بتنفيذ التزاماتها.
فبرغم هذه الاتفاقيات والمعاهدات، فإن العدالة المناخية لا تزال بعيدة عن التطبيق الفعلي. فالدول المتقدمة، التي راكمت ثرواتها من خلال عقود من التصنيع والانبعاثات الكثيفة، تضع شروطًا معقدة لتقديم المساعدات المالية والتكنولوجية للدول الفقيرة، مما يعيق جهود التكيف مع آثار التغير المناخي.
– عدم التوازن في توزيع الأعباء المناخية
من أكثر الإشكاليات التي تعيق تحقيق العدالة المناخية هو التفاوت الكبير في تحمل الأعباء. فعلى سبيل المثال، القارة الأفريقية تُنتج أقل من 4% من إجمالي الانبعاثات العالمية، ومع ذلك، فإنها من أكثر المناطق تعرضًا للجفاف والتصحر والفيضانات بسبب تغير المناخ. الدول الجزرية الصغيرة تواجه خطر الغرق بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، ورغم مساهمتها الضئيلة في التلوث، إلا أنها الأكثر تأثرًا به. في المقابل، تستمر الدول الصناعية الكبرى في استهلاك الموارد الطبيعية بمعدلات مرتفعة، بينما لا تلتزم بتقديم تعويضات كافية للبلدان التي تعاني من آثار هذا التلوث.

التحديات القانونية والسياسية

العدالة المناخية تواجه عقبات قانونية وسياسية تجعل من الصعب تنفيذ التزامات الدول الكبرى. فلا توجد حتى الآن آليات قانونية تُلزم الدول المتسببة في التلوث بدفع تعويضات للدول المتضررة. كما أن النزاعات السياسية بين الدول الكبرى، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، تعيق أي اتفاقات حقيقية بشأن تخفيض الانبعاثات أو تقديم المساعدات المالية للدول النامية.
أضف إلى ذلك، فإن بعض الشركات متعددة الجنسيات، التي تعدّ من أكبر المساهمين في الانبعاثات الكربونية، تمتلك نفوذًا قويًا داخل الحكومات، مما يجعل من الصعب فرض قوانين بيئية صارمة تحدّ من أنشطتها الملوِّثة. على سبيل المثال، لوبيات صناعة النفط والفحم في بعض الدول تعمل على تعطيل تنفيذ السياسات البيئية التي قد تؤثر على أرباحها، حتى لو كان ذلك على حساب البيئة والعدالة المناخية.

البعد الحقوقي للعدالة المناخية

التغير المناخي ليس مجرد قضية بيئية، بل هو أزمة تمسّ حقوق الإنسان الأساسية. ارتفاع درجات الحرارة والجفاف يؤدي إلى نقص الغذاء والماء، مما يهدد الحق في الحياة والصحة. المجتمعات الزراعية، التي تعتمد على المحاصيل الموسمية، تعاني من تراجع الإنتاج، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر والنزوح. كما أن بعض المناطق، مثل أجزاء من جنوب آسيا وأفريقيا، تواجه تهديدات مباشرة نتيجة موجات الحر القاتلة والفيضانات المتكررة، ما يدفع مئات الآلاف من السكان إلى الهجرة القسرية بحثًا عن أماكن أكثر استقرارًا.
ورغم ذلك، فإن القوانين الدولية لحقوق الإنسان لا تزال عاجزة عن تقديم حلول عملية لهذه الأزمات. فالدول الصناعية الكبرى لم تُلزم نفسها حتى الآن باستقبال “لاجئي المناخ” أو تقديم تعويضات مباشرة للمتضررين من الكوارث البيئية. وهذا يفتح الباب أمام تساؤلات حول مدى جدية العالم في التعامل مع التغير المناخي باعتباره أزمة إنسانية وليس فقط بيئية.

 بقلم: مراد علوي

باحث في الدراسات السياسية و المؤسساتية – جامعة محمد الخامس بالرباط.

Top