أولا: في ذكرى نكسة حزيران 67
استمرار الوهن التاريخي للنخبة العربية؟
1 – في العمق: الإخفاق الشاذ
منذ أن جرت نكسة 5 يونيو عام 1967 وبالشكل الذي أتت به، وأتت مضاعفاتها فيما بعد بشكل مكثّف ومتسارع، بدت للأغلب الأعم من المراقبين السياسيين، إخفاقات “شادة” مفزعة، لم تفتأ التحاليل الفكرية/ السياسية العربية (كما الحال اليوم بعد العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة وغيرها؟) على الدور السلبي لما اصطلح على تسميته في القاموس السياسي “الماركسي” العربي بالبورجوازية الصغرى (ذات الاتجاه القومجي في غالبيتها؟) واعتباره أحد عوامل أزمة العمل السياسي العربي، بالنظر(حسب الفهم السابق؟) إلى طبيعة هذه الشريحة الاجتماعية “الوسطية التوفيقية” من جهة، وإلى وحدانية مجال ارتقائها السياسي / الاجتماعي إلى السلطة أي العسكر (وهذا في التجربة العربية على الخصوص: تجربتا البعث بسوريا والعراق، ثم التجربة الناصرية واستنساخها البئيس في ليبيا القذافي). هذا فضلا عما يستتبعه هذا وذاك (وهذا هو الأهم) من شكل في الممارسة السياسية / الاجتماعية لدى هذا الأخير تفتقد للديمقراطية كمسلك. ويكون جوهرها في الممارسة والتدبير مصطبغا بالعنف الموروث في مضمار ممارسة الصراع الاجتماعي من جهة ثانية.
على أنه للحقيقة والتاريخ يمكن القول: هذا الأخير (=العنف) تَبنْينَ كإيديولوجيا ذهبت بعيدا في التبلور (إلى حدود قيام الربيع العربي 2011 وافتضاح أمرها ولو نسبيا) كمخرج سياسي، إلى حدود السبعينات داخل المجتمعات العربية.
وإذا كان واضحا أن غياب التخطيط السياسي المنظم والدراسة المتأنية للمواقف التي تفترضها الظروف إن مرحليا أو استراتيجيا، على قاعدة اقتران الفهم النظري لها (كما يفترض أحد منتقدي المرحلة، ونعني ياسين الحافظ في مؤلفه: الإيديولوجيا والإيديولوجيا المهزومة) بالتطبيق في مجال تناول قضايا ومشكلات العالم العربي على عهد تلك المرحلة، وهو ليس من اختصاص البورجوازية الصغرى المذكورة وحدها، بل من لدن النخبة السياسية العربية، على تعدّد مراجعها الاجتماعية والسياسية، مُستبعدة أو متربعة على كرسي السلطة. كان أهم أسباب الإخفاق (اللامتناهي) السياسي الذي أتت هزيمة 67 كتتويج له، فإن ما كان مستعصيا على الفهم هو كون الوقفات التنظيرية / التقويمية التي تغيأت تحديد أسباب ومسببات الإخفاق المذكور، اعتمدت نبذ وإلغاء هذه الشريحة إلغاء تاما، ليس فقط من تنظيراتها تلك، وكذا برامجها (إن وُجدت فعلا؟) بل أيضا من خارطة التّشكل السياسي/ الاجتماعي العربي، فكان كنتيجة، أن قاست نظرها وقولها – الذي لم يتجاوز اللفظ قط – وكذا رهاناتها على هذا الأساس (في غياب فاضح لأي حاضنة اجتماعية؟)، وهو ما أصبحت معه النخبة المعتمدة إياها، غاية في البؤس تفكيرا، وغاية في الفقر تحليلا، بالنظر إلى ما كان عليه هذا التحليل ذاته، من حال تميز بالرفضوية ومبالغة التضخيم (=حال اليسار الطفولي؟)، وأقل ما يمكن أن يقال عنه أنه كان أكثر بعدا عن فهم قضايا ومشكلات العالم العربي التي هي قضايا مشكلات التخلف اختصارا. ولقد كان هذا بدون ريب حال الفكر (مجازا) الذي نهض في أعقاب النكسة وسمي بالفكر “اليساري” على وجه التخصيص.
2 – في التّغييب المقصود للصعيد السياسي في الفهم
إذا كان ليس في نيتنا أن نعرض لـ “شريحة البورجوازية الصغرى” بدراسة أو تقييم خاص يُجسّم جوابا أو ردا في هذا الباب، فإنه ليس في نيتنا كذلك، وبالمقابل، الدفاع المستميت عنها أو استكناه دور محتمل لها، حيث يبقى هذا من اختصاص التاريخ وحده… غير أن قصدنا هنا (ونحن نحيي هذه الذكرى المؤلمة وبالضبط في هذا الوقت بالذات) يكمن فقط وأساسا في محاولة بيان علاقة التحاليل المذكورة والتنظيرات التي أسست لها، بالفشل الذي طال هذه الأخيرة أو على الأصح الفئات البيروقراطية منها: أي تلك العلاقة التي كان جوهرها استثمار هذا الفشل في “بناء” و”بلورة” تخريجات سياسية / اقتصادية اعْتُبرت تنظيرا، افتقدت أو غيّبت الصعيد السياسي، في رؤيتها لقضايا المجتمع العربي، وللعناصر الأساسية التي حكمت أطوار تطوره المتميز تاريخيا والمتصل بطبيعة هذا المجتمع ذاته.
وعليه، فإنه إذا كانت هناك من نتيجة لتغييب الصعيد السياسي المذكور في تفكير وتحاليل النخبة السياسية العربية (المنكفئة على ذاتها اليوم وَهَناً)، فستكون لا محالة، تلك القوة الضاغطة التي تتسلح بها هذه الأخيرة في إنتاج ذلك الحشد الهائل من الغموض الذي سيكتنف أية محاولة تتغيأ فهم صيرورة المجتمع العربي (كمحصلة لتناقضاته الداخلية أولا بالأساس) واستيعاب آلية اصطفافه الطبقي، وتعيين صُعد تجلي هذا الأخير، الواضح منها والمستتر، بما يسمح ببلورة التصور الأمثل وباتخاذ الموقف القويم وبصياغة القول الأصح.
أليس ما يجري اليوم بفلسطين، نكسة ثانية أفظع؟؟. لربما الجواب عند المتفائلين المتعقلين على قلتهم.
ثانيا: في الانتصار الفلسطيني؟
في ضرورة اكتشاف مواطن النسيان في الذاكرة
1 – عن “الصعلوك” في زمن الرّدة؟
هو لا يرتبط بالمؤسسة الهجينة إلا لكي يُقيم الرباط بينه وبين الوطن (الفلسطيني بالطبع)، هو مرآة مستقيمة تعكس (ولازالت إلى يومنا هذا) قلق اللاجئ وشكه. هي (أفكاره) بون ريب تعكس “أفكار” الفلسطيني العادي الذي يدخل في جلد حنظلة، وينظر إلى حاضره وماضيه ومستقبله؟.
الآن بعد الذي جرى بغزة، وبالضفة وأراضي 48 من عدوان سافر على شعب يبحث عن حريته بإمكاناته المتواضعة في الكفاح، سيقف “حنظلة” مرة أخرى في غزة على وجه التحديد، صعلوكا حافي القدمين، لا يستثير المخاوف، وسيعتقد أصحاب الشأن (مهما اختلفت تلاوينهم السياسية) أن هذا الصعلوك لا شأن له بما يجري من تسويات قامت على حسابه منذ زمن باسم الصبر والنصر الإلهي الآتي.
لا تلبث هذه الاتجاهات التسووية على حساب الشعب الفلسطيني أن ترسل ضمير الشعب “حنظلة” إلى قفص الاتهام، لأنها في جهلها (وعلى رأسها سلطة اتفاق أوسلو المغوار) تثير مخاوف أصحاب الشأن؟ وتدفعهم إلى تأمل هذا الصعلوك، الذي هو في معرفته وسذاجته مكره ومكروه، وأن بساطته هي براءة مقنعة، أي أنه لا يجهله إلا جهل العارف، لا يسكت إلا لينطق، ولا يدير ظهره إلا ليرفع قبضته في وجه كل مرتدّ. وفي هذه العلاقة يمارس “حنظلة” لعبته، معتمدا على حسّه الخاص. حيث في تجربته الخاصة، الذاتية، وفي الحس والتجربة يمارس قانون: الوجه والقناع أو “الصمت الناطق”؟.
2 – القيادة الصحيحة التي تقود إلى الوطن الصحيح
لا نبحث في ما أثرناه سلفا، عن مشجب نعلق عليه أحزاننا، بل فقط لكي تحافظ مرآة وعينا على بعد منطقي حتى لا يصيبها الدوار، فلسنا ناطقين باسم الجماهير الفلسطينية، وإنما تضامننا المطلق مع الشعب الفلسطيني في محنته، يستوجب عدم تكرار أخطاء الماضي الدفين، التي عرّفتنا بعذابات جماهير المخيمات، التي لا تطمح إلى الاستمرار فيه، لأن طموحها الوحيد هو القيادة الصحيحة التي تقود إلى الوطن الصحيح. لأن من يدافع عن الشعب الذي أتى وجاء منه وينادي بالممارسة السياسية الصحيحة يجب أن يسمح بتحقيقها (وأولها المصالحة الوطنية ذات الأفق الواضح الغير سياسوي) بما يعكس إرادة الشعب الفلسطيني ويُنقذ ممارسة من يخرج عليها، ويحرّض الشعب على هذه الممارسة أو تصحيحها.
لن نسخر بعد الذي جرى من مأساة في غزة وباقي الأراضي المحتلة على سلسلة الرؤوس الكبيرة في رام الله، وهي سلسلة من البطون المترهلة، وهي تنظر وتستنجد الكهنوت العربي المطبّع، وهي تشهد يوميا شظابا القنابل، وأطلال المنازل، وأشلاء الموتى، ونزيف الجرحى.
لن ندعو إلى تحنيط الرؤوس المتآمرة، وشق البطون التي تسمن على الخيانات، بل فقط سنهمس بدون مواربة فى آذان من ينتظرون بلينكن بشغف، للمساعدة في ترميم ما تهدم، ومساعدة من نكب، وتجميد من جرح.
إن زيارة هذا الأخير(بلينكن المظفر عند أنظمة التطبيع) تجمع للأسف، بل وتعبّر عن كل الأحزان والمهازل (منذ قيام هذا الكيان الصهيوني العنصري). هو أتى يلقيها في وجوهنا، كي ندرك ويدرك الشعب الفلسطيني أن طريقه طويل، وأن بعض النهايات تلغي بعض البدايات، وأن تصحيح النهاية يستلزم تصحيح البداية. وهي، بدون تلوين أو استهبال، قيام قيادة موحدة تفي على الأقل بتوحيد الصف.
< بقلم: عبد الله راكز