شكلت مجريات وإشارات ومقررات قمة: «روسيا – إفريقيا» الثانية، التي انعقدت بمدينة سانت بيترسبورغ الروسية في الأسبوع الماضي، مناسبة لحديث وسائل الإعلام والمحللين عن علاقات موسكو ببلادنا، وأساسا عن النتائج الديبلوماسية الإيجابية التي حققتها المملكة إثر مشاركتها في القمة، ومن خلال خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
تصر الديبلوماسية المغربية دائما على تنويع شراكاتها الخارجية والتمسك بالتوازنات المطلوبة ضمن عالم معقد ومضطرب، كما أنها تدرك، برغم كل التبدلات الجارية، أن روسيا تبقى طرفا أساسيًا في معادلة المصالح الدولية الحالية.
الإشارة الأولى التي سجلها المراقبون أن روسيا أصرت على دعوة الدول الإفريقية الأعضاء في الأمم المتحدة فقط للمشاركة في القمة، ومن ثم غابت العصابة الانفصالية عن سانت بيترسبورغ، وأيضا أجبر حاضنوها ورعاتها (النظام الجزائري وجنوب إفريقيا) على الرضوخ لذلك، وعلى الصمت، وعلى عدم إثارة الموضوع أصلا.
روسيا بوتين، بهذه الإشارة، لم ترضخ، من جهتها، لمنطق علاقاتها القديمة مع النظام الجزائري، ولم تساير ما كانت تروج له أبواق خصوم المملكة بهذا الخصوص، وجاءت الوقائع مخيبة للجينرالات وصادمة لهم.
الإشارة الأخرى تضمنها خطاب الرئيس الروسي في القمة وتصريحات العديد من مسؤولي بلاده حول العلاقات بين موسكو والرباط، حيث أعرب بوتين، صراحة، عن رغبته في تعزيز العلاقات الروسية المغربية، ومواصلة الزخم الذي تم إطلاقه خلال زيارة جلالة الملك محمد السادس إلى روسيا سنة 2016.
وبحسب كتابات نشرتها وسائل إعلام روسية أيام قمة سانت بيترسبورغ، فإن موسكو تدرك أن المغرب يمثل حجر الزاوية في سياسة روسيا تجاه إفريقيا ومنطقة المتوسط، ومن ثم، هي لا تريد التضحية بهذه المكانة الإستراتيجية والمحورية، خصوصا أن الأمر يتعلق بالشريك التجاري الثالث لروسيا في العالم العربي وإفريقيا، وهي تتطلع للزيادة في حجم صادراتها منه، وتطوير الشراكة التجارية والاقتصادية معه، وأساسا في قطاعات: الزراعة، الصيد البحري، الطاقة، الصناعة والبنيات التحتية، السياحة، الثقافة وتكوين الأطر…
أما الإشارة الثالثة فهي ضمنية وتحكم خلفية الخطوات الروسية الإيجابية وتمنحها المبررات وممكنات النجاح، ذلك أن العلاقات الثنائية بين روسيا والمغرب بدأت منذ عهد السلطان محمد الثالث سنة 1777، وأول قنصلية روسية كانت افتتحت بطنجة عام 1897، وأول بعثة روسية وصلت إلى البلاد كانت في سنة 1899، ومنذ تلك الأزمنة تشكلت لجنة مشتركة للتعاون في المجال الاقتصادي وفي مجال التعليم والتقنيات بين البلدين.
ومنذ السنوات الأولى لاستقلال المملكة، وربما حتى قبل ذلك، تخرج آلاف المغربيات والمغاربة من جامعات ومعاهد الاتحاد السوفييتي السابق وروسيا الحالية، وتوجد اليوم أطر مغربية عديدة في تخصصات علمية وتقنية وغيرها ناطقة باللغة الروسية، وتعمل في قطاعات ومؤسسات وطنية متنوعة وكثيرة، علاوة على جالية طلابية مغربية وأخرى تعمل وتقيم في روسيا إلى اليوم، وهذه الموارد والطاقات البشرية جميعها تجسد دعامة وجسرا لتمتين العلاقات الثقافية والتواصلية والاجتماعية بين البلدين والشعبين.
أما الإشارة الرابعة فهي تقوم على تحليل وقراءة الأوضاع العالمية الصعبة اليوم، واستحضار تبدلات العلاقات الدولية وسعي كل الدول للدفاع عن مصالحها أولا، ومن ثم روسيا تعي اليوم الأهمية الإستراتيجية والتاريخية للمغرب ضمن تطلعات مخططاتها لدخول أسواق إفريقيا والمنطقة المتوسطية، كما أن المملكة تدرك، بدورها، أهمية تقوية علاقاتها الثنائية مع روسيا وإحداث التوازنات المطلوبة في علاقاتها الدولية وشراكاتها الخارجية؛ ولكل هذا يبقى التعاون التجاري والاقتصادي والثقافي بين البلدين مرشحا للنمو والتطور في الفترة القادمة، خصوصا أن الديبلوماسية المغربية، بقيادة جلالة الملك، لحد الآن تتحكم في خطوات ومفردات تدبير العلاقات المعقدة والحساسة بين طرفي الحرب الدائرة في أوكرانيا، كما أن موسكو، العضو الدائم بمجلس الأمن الدولي، تحرص على التقيد ببعض التوازن والحياد الإيجابي العام في ملف وحدتنا الترابية، وهو ما يحفز على مواصلة العمل السياسي والديبلوماسي والميداني لتطوير المكتسبات، ومن أجل تقوية التفاهم بين البلدين على هذا الصعيد، وأيضا تمتين الشراكة الثنائية بمنطق (رابح – رابح).
<محتات الرقاص