قبل أن يتولى الرئيس الفلسطيني محمود عباس سلطته الفعلية في العام 2004 فور وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات، كان هناك في إسرائيل يسار ويسار وسط، ومجتمع مدني، يمتلك ثقلا في الحياة السياسية في إسرائيل ومستعدا للبحث عن حل سلمي للصراع، بل ومستعدا أيضا لإعادة النظر في الرواية الصهيونية. وكانت هناك أطراف من هذه الكتلة تدافع عن القضية الفلسطينية وعن الحق الفلسطيني ليس بأقل مما يفعل الفلسطينيون أنفسهم.
بعد نحو عقدين من الزمن اختفت هذه الكتلة ليحل محلها اليمين المتطرف والصهيونية الفاشية، كما جسدتها، بأفضل الصور حكومة بنيامين نتانياهو السادسة.
هذا الواقع يذهب إلى أسباب عدة منها التمزّقات داخل المجتمع الإسرائيلي، ومنها انحدار الحزبية السياسية الإسرائيلية إلى ولاءات شخصية (تجسدها ترتيبات القوائم الانتخابية أيضا)، ومنها الصراع التقليدي الديني – العلماني، ومنها تفاوت القناعة بالرواية الإسرائيلية وتناقضاتها مع الواقع، ولكن منها أيضا أن الجانب الفلسطيني لم يتقدم برؤية سياسية ناضجة، ولا بحلول واقعية، وخاض في أوهام نجمت عن سوء قراءة العوامل الداخلية الإسرائيلية، وغير ذلك مما يصعب إيجازه بحقيقة أن السلطة الفلسطينية، ونخبة السياسة الفلسطينية بوجه عام، افتقرت إلى “إستراتيجية” مناسبة، كما افتقرت إلى حشد الإمكانيات لتنفيذها.
وحتى لو قيل إن سلطة الرئيس عباس اختارت السلام كمنهج على أساس مقررات الشرعية الدولية، وعلى أساس “حل الدولتين”، فإنها لم تدفع في هذا الاتجاه بوسائل تكفل الضغط لتحقيقه. أو بعبارة أخرى، فإنها تركت طرف الحبل الإسرائيلي سائبا، بمقدار ما تركت الحبل الفلسطيني نفسه سائبا، لتنشغل بنفسها كسلطة يحرسها وهمُ أنها “سلطة”.
تراجع اهتمام سلطة الرئيس عباس بالبحث عن بدائل، وفشلها في الاستفادة من العوامل الداخلية الإسرائيلية، وعجزها عن قيادة حركة النضال الوطني الفلسطيني وتحولها إلى سلطة بلدية، وتغاضيها عن مسار كامل من التراجعات الإسرائيلية، وهي ترى كيف ظل الاستيطان يتوسع ليدمّر “حل الدولتين” الذي راهنت عليه، يجعل هذه السلطة أحد أهم أسباب صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف.
كما أن مسار التدهور داخل إسرائيل هو مسار سياسي. سواء أكان مقصودا أم غير مقصود، يعبر عن قناعات اكتسبت قوة التنفيذ وفرضت نفسها. وبرغم كل ما ثبت من فشل الطرف الفلسطيني في التقاط الحقائق في هذا المسار والتصرف لمعالجة مخاطرها، فقد بقيت سلطة الرئيس عباس تتصرف ككيان مصاب بالشلل. وحتى بات شلله يبرّر الدفع به إلى الهاوية، لاسيما وأنه تمسك بموقفه الجامد تجاه التحديات التي فرضتها سلطة نتانياهو بين العامين 1996 و1999، ودمر قدرة الاعتراض عليها، كما دمر قدرة منظمة التحرير الفلسطينية نفسها على التصدي لما وعدت به سلطة نتانياهو عندما عاد إلى المنصب في العام 2009 وإلى غاية العام 2021، قبل أن يعود إليها مجددا وهو مدجج بحلفاء من أقصى اليمين المتطرف.
طوال هذه المدة، كان الرئيس عباس قد حوّل سلطته إلى سلطة مكاتب ومغانم تتقاسمها طبقة “الأمناء العامين”، وتنشغل بإصدار بيانات التنديد، وإعلان التمسك بخيارات السلام (المسالمة حصرا)، بينما كانت الأرض من تحته تنهار.
يمكن قراءة حركة التاريخ، كما يمكن توجيهها. وعندما تفشل في القراءة وفي التوجيه، فأنت تصنع فشلا تاريخيا باهظ الكلفة، وهذا ما حصل.
في لحظة من اللحظات، اكتسب حزب العمل الإسرائيلي -الذي كان حزب إسحاق رابين الذي اغتيل في نوفمبر 1995 وكانت تدعم توجهه نحو إيجاد حل سلمي للصراع تيارات أخرى يسارية ومن يسار الوسط، زخما من واقع الانقسامات الإسرائيلية نفسها.
بدأ المنعطف تحديدا منذ تلك اللحظة التي تولى فيها الليكود السلطة بقيادة نتانياهو، بعد وقت قصير من خلافة شمعون بيريز للسلطة خلفا لرابين (1995-1996).
لا يجب نسيان أن نتانياهو كان هو الذي وقّع، إلى جانب ياسر عرفات، على اتفاقية أوسلو الثانية التي رعاها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في أكتوبر 1998، وصادق عليها الكنيست في الشهر التالي بأغلبية 75 صوتا مقابل 19. وكان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ في الثاني من نوفمبر من ذلك العام، بعد عشرة أيام فقط من توقيع الاتفاقية.
وبموجب “اتفاقية واي ريفر” (التنفيذية) التي رعتها وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت بين نتانياهو وعرفات في ولاية مريلاند، فقد كان من المفترض أن تنسحب إسرائيل، في إطار المرحلة الأولى للاتفاق، من 13 في المئة من أراضي المنطقة (ج)، إلا أنها انسحبت من 2 في المئة فقط. وظل الاتفاق معلقا منذ ذلك الوقت، إلى اليوم.
اليمين الإسرائيلي المتطرف، داخل الليكود وخارجه، هو الذي بدأ يتحرك ضد تنفيذ الاتفاقية، مستعيدا كل دعاوي السردية الإسرائيلية الزائفة حول أرض الميعاد، بما يشمل القدس الشرقية والمسجد الأقصى، أو “جبل الهيكل”، الذي لم يكن من باب العبث أن أصبح هو الأساس في تبرير الانسحاب التدريجي من اتفاقات أوسلو.
النضال الفلسطيني، كان بحاجة إلى رؤية، تفهم طبيعة المشروع الصهيوني، فلا تمضي في الطرق التي يختارها. كان يجب فرض طرق أخرى عليه
ولم يبدأ الفلسطينيون مسار الهزيمة بمفردهم في ذلك الوقت. اليسار ويسار الوسط، والتيارات العلمانية وحركات السلام وحقوق الإنسان الإسرائيلية هُزمت معهم أيضا.
ومنحت انتخابات الكنيست في العام 1996 حزب العمل الإسرائيلي 34 مقعدا. ومنحت حزب الليكود 32 مقعدا، وحزب شاس 10 مقاعد، وحزب المفدال 9 مقاعد، وميرتس (يسار) 9 مقاعد، وحصل الحزبان العربيان (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحزب الديمقراطي العربي) على 9 مقاعد.
ولكن ماذا يوجد اليوم في كنيست الانتخابات الأخيرة؟
لقد اختفى حزب ميرتس اليساري من الوجود. وتراجعت حصة حزب العمل إلى 4 مقاعد فقط. أما فلسطينيو الداخل المنقسمون بين “القائمة الموحدة” و”الجبهة العربية للتغيير” فقد حصلوا على 10 مقاعد.
“وسط اليمين” الذي صار يمثله “ييش عتيد” بقيادة يائير لبيد كسب 24 مقعدا، بينما اختفى “وسط يمين” آخر هو حزب “كاحول لافان” (أزرق أبيض) بقيادة بيني غانتس من الوجود أيضا.
وفي خضم هذه الفترة من الزمن اختفت حركة “المؤرخين الجدد”، وهي حركة أكاديميين حرصت على إعادة قراءة السردية الإسرائيلية، إن لم يكن برمتها، ولكن منذ نشأة إسرائيل على الأقل.
هذه الحركة قدمت شخصيات انتقل بعضها إلى ما هو أبعد من الدفاع عن الحقوق الفلسطينية المشروعة، بل صار ينتمي إلى فلسطين أكثر مما ينتمي إلى إسرائيل. وكان بِني موريس أول من أطلق تسمية “المؤرخين الجدد” على هذه الحركة، وذلك في مقال نشره في العام 1988 في مجلة يهودية تصدر في الولايات المتحدة.
بدأ موريس باستنكار الأعمال الوحشية التي مورست ضد الفلسطينيين في عام النكبة خاصة، قبل أن يتراجع عنها بعد إغراءات وضغوط، قائلا في الدفاع عن وجود إسرائيل “لا يمكن تحضير العجة دون أن تكسر البيض. عليك أن توسّخ يديك”. التراجع بدأ عندما استدعاه الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان (1993-2000) وعرض عليه وظيفة في إحدى الجامعات الإسرائيلية، فانقلب على نفسه. ولكن الحقيقة هي أنه ظل شخصية هامشية في هذه الحركة التي انتهت إلى إعادة نظر شاملة في الرواية الصهيونية المتعلقة بأحداث العام 1948، وما سبقها وما تلاها من مجازر حاولت تلك الرواية أن تمجّد العسكريين الذين نفذوها باعتبارهم أبطال تأسيس الدولة، بينما كانوا مجرد سفاحين.
واعتمد مؤرخو هذه الحركة في إعادة القراءة على وثائق ومستندات تم كشفها في أرشيفات إسرائيل والأمم المتحدة وبريطانيا وغيرها، ما جعلها تنطوي على قيمة وثائقية صلبة. ولكنهم لم يتوقفوا عندها فقط. وبرغم الحملات والمضايقات التي شُنت ضدهم، فقد تمسكوا بقراءتهم وأصبحوا جزءا من الحركة اليسارية التي تطالب بتحقيق السلام وإحقاق الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين على أساس قيم العدالة والمساواة والحرية.
يقولُ آفي شلايم “قال ناقدونا إنّ لنا أجندة سياسية. أنا ليس لدي أية أجندة سياسية، أجندتي الوحيدة هي كتابة التاريخ بشكل جيد. الكتابة عن الصراع بأتم وأدق وأصح وأمتع شكل ممكن. لقد تعرّضت أنا وزملائي لهجوم شديد من إسرائيل لأننا ذبحنا الأبقار المقدسة، ودمرّنا أسطورة ميلاد إسرائيل، وتحدينا الرواية الصهيونية الرسمية عن أسباب وجذور الصراع العربي الإسرائيلي”.
أما المؤرخ إيلان بابيه، فقد كان واحدا من أبرز الذين تحولوا إلى مناصرين للقضية الفلسطينية بالمعنى السياسي، بل وأحد أفضل الذين دافعوا عن الحل الديمقراطي للمسألة الفلسطينية في إطار دولة علمانية واحدة، واعتبر أن “حل الدولتين” ليس سوى مشروع صهيوني مرحلي لتسويف الحقوق الفلسطينية وتدميرها، إلى جانب تدمير السلطة الفلسطينية نفسها بتحويلها إلى سلطة “بلديات”، وهو مشروع سبق أن كان هو “الحل” بالنسبة إلى اليمين الإسرائيلي. وهو ذاته “الحل” الذي يجري إملاؤه على أرض الواقع الآن، لأن سلطة الرئيس عباس لم تدرك، ولم ترغب بأن تدرك، أنها أوقعت نفسها في الفخ.
حل الدولتين كان مشروعا صهيونيا، ليس فقط لتدمير فرص إقامة دولة فلسطينية حقيقة، وإنما لتعديل الرواية الفلسطينية، والتعايش مع نظام الفصل العنصري، وتغذية نزعاته المتطرفة
ولد إيلان بابيه عام 1954، وينحدر من أسرة يهودية ألمانية هاجرت قبل الهولوكوست هربًا من اضطهاد النازية، وأدى الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، كباقي الإسرائيليين، بعمر 19 أمضاها في الجولان المحتل. درسَ بابيه في بريطانيا وحصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد، وألف كتاب “التطهير العرقي في فلسطين” عامَ 2006، اعتبر فيه أن ما حصل عام 1948 “جريمة تطهير عرقي” لا مجرد “نتيجة طبيعية للحرب” مثلما يقول موريس. وقدم أدلة على ذلك من خلال المخططات المسبقة التي أعدتها المنظمات الصهيونية باسم “ملفات القرى” حيث تم جمع خرائط ومعلومات شاملة عن القرى وسكّانها وسيناريوهات التعامل معها عسكريا بإشراف ديفيد بن غوريون من قبل أن تندلع الحرب.
بابيه يعتبر إسرائيل آخر مشروع استعماري استيطاني في العالم، ويرى نفسه جزءا من النضال لإنهاء هذا النظام بشكله العنصري الحالي. ويقول بصدد هذه القناعة “بعض أقاربي في العائلة الممتدة يستصعبون الحديث معي، ولكن بالنسبة إلي، انتميتُ إلى مجتمع يرتكب أشياء مريعة بحق الفلسطينيين، وشعرتُ أن من واجبي أن أعترض، حتى لو جعلني هذا منبوذا”.
في كتابه “10 خرافات عن إسرائيل” الصادر عام 2017، يفكّك بابيه الخرافات الإسرائيلية القائلة: فلسطين أرضٌ بلا شعب، وأن إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، كما يفكك فكرة المساواة بين اليهودية والصهيونية.
يؤمن بابيه بأنه لا يمكن أن تكون إسرائيل “دولةً يهودية” وفي نفس الوقت “ديمقراطية”، وأن الحل يكمن في دولة واحدة للجميع، إسرائيليين وفلسطينيين، يتمتعون بحقوقٍ متساوية.
ماذا تقول منظمة مجتمع مدني إسرائيلية مثل “بتسليم” (تأسست عام 1989) عن نفسها؟
هذه المنظمة لا تكتفي بتوثيق الجرائم التي يمارسها الاحتلال ضد الفلسطينيين، ولكنها تعتبر النظام الإسرائيلي برمته “نظام أبارتهايد” وتقول إنها “تعمل من أجل تغيير هذا الواقع إدراكا منها بأنّ هذا التغيير هو السبيل الوحيد لتحقيق مستقبل تُضمن فيه حقوق الإنسان والحرية والمساواة لجميع بني البشر الذين يعيشون هُنا، فلسطينيّين ويهود”.
وتدافع “بتسليم” عن حق الفلسطينيين في شرق القدس وتقول إنه “جزء من مناطق الضفة الغربية وقد ضمّته إسرائيل إلى نفوذها خلافا للقانون الدولي، وهي تعامل سكّان القدس الفلسطينيين كمهاجرين غير مرغوب فيهم وتطبّق هناك سياسة منهجيّة غايتها سلب بيوتهم وترحيلهم عن مدينتهم”.
تقول أيضا “إن الاحتلال يجب إنهاؤه. وإن سيطرة إسرائيل المتواصلة على ملايين البشر الذين أصبحت حياتهم رهن إرادتها وقرارها أمرٌ غير مقبول ولا يمكن إيجاد مبرّر له أو عُذر”.
وفي مجابهة “مستقبل مكفهرّ” تقول “بتسيلم” إنها تكافح “لأجل مستقبل مختلف ركيزته حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والمساواة. لجميع الأشخاص القاطنين بين النهر والبحر حقوق فرديّة وجماعيّة ومن ضمنها حقّ تقرير المصير”.
قصارى القول من هذا كله، هو أن هناك أحزابا وأكاديميين وحركة حقوق مدنية إسرائيلية واسعة، لم تؤخذ بعين الاعتبار من جانب السلطة الفلسطينية، لا في سياساتها ولا في “إستراتيجيتها” الغائبة. لأنها ركزت اهتمامها على تطبيق ما يعتبره بابيه مشروعا صهيونيا لتدمير الحقوق الإنسانية للفلسطينيين، وتدمير السلطة الفلسطينية نفسها.
النضال الفلسطيني، كان بحاجة إلى رؤية، تفهم طبيعة المشروع الصهيوني، فلا تمضي في الطرق التي يختارها. كان يجب فرض طرق أخرى عليه.
حل الدولتين كان مشروعا صهيونيا، ليس فقط لتدمير فرص إقامة دولة فلسطينية حقيقة، وإنما لتعديل الرواية الفلسطينية، والتعايش مع نظام الفصل العنصري، وتغذية نزعاته المتطرفة. وهذا هو بالضبط ما انتهت إليه الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. وهو ما صنع حكومة نتانياهو السادسة.
أنظر في المسافة الطويلة لتداول فكرة “حل الدولتين” التي ظل يدافع عنها الرئيس عباس بموازاة مسار تدميرها، وسترى ماذا كان الهدف من طرحها أصلا. لقد كانت مشروعا ليس لإقامة دولة فلسطينية، وإنما لتدمير مقوماتها، وتحويلها إلى سلطة بلديات لرفع القمامة، وقمع الشعب الفلسطيني، وإفساده، وجعله يركض وراء لقمة العيش، ودفع أبنائه إلى الهجرة هربا من حياة الجحيم. هؤلاء الأبناء الذين كانوا في وقت من الأوقات ذخيرة حيوية للمشروع التحرري الفلسطيني فأصبحوا ذخيرة لعصابات التهريب.
الرئيس محمود عباس هو صاحب هذه النتيجة، وهو المسؤول عنها، وإن لم يكن الوحيد. فهناك حفنة منتفعين وحفنة “أمناء عامين” يعتقدون أنهم سائرون على طريق التحرير، بينما هم سائرون، وآخذون شعبهم معهم، إلى جهنّم.