الأنفاس الأخيرة

بدأَ العامُ يَلفُظُ أنفاسَهُ الأخيرة، وكأنّهُ يُسَلّم ذاكِرَتَهُ للعَدَم..

لا نَعلَمُ إن كنّا قد خذلناهُ أم أنّهُ هوَ من خَذَلنا، لكنّ شيئًا ما في داخلنا يوحي أنّنا كنّا على طريقين متوازيين، نلتقي فقط في لحظاتِ الصمت…

ها هوَ الوقتُ يمضي، ينسابُ مِن بين أصابعِنا كالرّمل، ونَجِدُنا بين رغبةٍ جامحةٍ في الإمساك به وبين خوفٍ من أن نَحمِلهُ فنَتَحَطّم..

في كلّ ما مَضَى، كنّا نبحَث عن إجابةٍ لأسئلةٍ لم نَطرَحُها يومًا، وكأنّ المعنى يهرب مِنّا كلما اقتربنا…

أسيرُ وفي أعماقي صَرخةٌ شَرِسةٌ على وَشكِ الانتِفاض!

أوَدُّ أن أصرخَ في وَجهِ الأرضِ التي ما تَزالُ تَبصُقُ المَزيدَ من الأحجار، بل إنها تَتَقَيَّءُ البشَرَ المُتَحَجِّرينَ في مِغسَلةِ أقداري بعد أن شَرِبَت زُجاجةً كامِلةً من التَصَنُّع.

كل أبناءِ تلك الأرضِ يرتَدونَ الصُخورَ بدلَ وُجوههِم، في حَفلةٍ تنَكُّريةٍ تُحييها الأصولُ المُجتَمعية.

أسيرُ في الشارِع، في تلك الحانةِ حيثُ تَنهَلُ التَقاليدُ حَقيقةَ المارّة، وهالةُ المَمنوعاتِ تَتَحَلَّقُ حَولي.

في الشارِعِ آلافُ الكاميراتِ الخَفيةِ التي تَتَفَحَّصُ كلَّ سُلوكٍ صادِرٍ لتَتأكَّدَ من أنهُ خالٍ منَ العَيب، الجَميعُ هنا يَسيرُ بنَفسٍ مُهَذَّبةٍ ومُمَشَّطةٍ بإفراط. وأنا…. ما زلتُ أبحثُ عن تلك الطِفلةِ التائِهةِ في دَهاليزِ النُضوج.

ليأتي ديسمبر ك آخر أشهُر السنة، وآخر فصول الصبر.

حيث الأحلام المؤجّلة تتنازَع مع الخَيبات، وحيثُ نقِف بينَ ماضٍ أرهَقنا.. ومستقبَل نحلُم به، فكأنهُ خط رفيع يُفرّقُ بينَ نهاية وشيكة وبداية منتظرَة..

في ليالي ديسمبر تبدو الذكريات أشد وطأة، لكننا نجد فيها فرصة لنَكتشِف ذواتِنا ونعرِف كيفَ نُضيء ما أظلمَ من أيامنا..

وكيفَ نجعل النهايات أقل قسوَة..

لنقول متهالكين لا إنجازات لنا هذا العام ..!!

ومن قالَ أنهُ لا إنجازات لنا..

ربما جميعها غير مرئِيّة ولا يدري بها أحد.. لا يعرِفون كيفَ تقبّلَت قلوبُنا صدمة الفراق الأولى.. ونُدبة الجرح الكبير.. وخِذلان الصديق المُفَضّل.. لا أحد يعلَم أننا كنّا نستيقِظ كل صباح مُبتَسمين رغم الدموع التي كانت تتساقط بغزارة من أعيننا طِوال الليل ووسائدنا الشاهِد الوحيد علينا،

وكيفَ خبّأنا مشاكلنا عن أمهاتنا وتحَمّلنا المسؤولية وحدنا دونَ أن يشعُر أحد فينا..

كيفَ تصرّفنا بأول يوم بغُربتِنا عن كل الأماكن، وكيفَ واجَهنا بشجاعة كل موقف أجبَرَتنا الظروف عليه..

لقد سلَكنا طُرق لا نريدُها… وتنازَلنا عن أحلامٍ كثيرة لأنها أكبر من الواقع الذي نعيشُه…

احتضنا حزنَ الصديق رغمَ كل ما حملناهُ بقلوبنا من ألم.. وواسَيناه رغمَ حاجتنا الماسّة لمَن يُطبطِب علينا.. صَبِرنا على غياب الأحباب وموت أعِزّاء علينا.. لم نشكُ ولم نصرُخ “بآه” في أشَد لحظاتنا اختناقا..

كم هوَ موجِع فعلا أن تخونَك الحياة وتجعلُكَ تمتَلىء بكلام لا تعرف كيف تقوله أو تشرَح ما بداخِلك باختصار…

ههه، هذي إنجازاتنا لكُل من قالَ أننا بلا إنجاز..

فعلا، على أرصفةِ الوَهمِ تُباعُ الأمنياتُ، كما تُباعُ الكتبُ ذاتُ الأغلفةِ المُلفِتَةِ…

يُطِلُّ علينا ديسمبر حامِلاً البداية والنهاية معاً.. بدايةَ شتاء ونهاية عام.. في ديسمبر يعود الغائبون الأَحَب لقلوبنا أو هكذا أخبرونا،

ماذا لو صدقوا وأصبحت هذه الخُرافات واقِعاً، وعادَ إلينا كل الذين تقَطّعَت بيننا وبينهم سُبُل الوَصل؟!

ماذا لو وجدنا من قضينا سنواتٍ طويلة نحاول اقتِفاء أثَر له يُطمئننا بأنه مازالَ حيًّا؟!

ماذا لو وجدنا فرحتنا التي فقدناها في زحام الحياة وكل أشياءنا المنتظَرَة؟!

أو أن تأتينا المَسَرّات في أحد ليالي ديسمبر الباردة..!

حتماً لن يكون نهاية شهر وعام بل نهاية خراب أحدَثَهُ عام ربما أو أعوام بأكملِها قبلُه، وبداية لأفراح انتظرناها كثيراً..

لكن يبقى كل هذا مجرّد أمنيات نحملُها معنا من عامٍ إلى عام.. ننتظِرها على رصيف الأحلام التي أُجهِضَت قبلَ اكتِمالِها.. على أرصِفَة الوَهم..

الجميع نِيام كـظِلال عالقةِ بينَ عالَمَين.. أحدُهم كان حبيسَ كوابيسِه، لا يستيقِظ.. وكلُّ مَن أستيقظَ.. نامَ للأبدِ..

حنونة فعلا هي الأيام ..

لها كف من دفء تمسد به على كل نبضة متسارعة..

تفهم كل لغاتك بدءاً بالهذيان.. وانتهاءً بالصمت..

تعزف لك على وترٍ من لهفة، وتطبطب على كتفي لحظاتك..

تجوب بك في محطات عبرت.. و تجلب لك ملامحاً من ذاكرة مكسورة الجناح وليت كل الأكف ك كف قصيدتي، وليت كل البيوت ك أبياتها..

وليت هذا العمر معبد بِ ضحكاتٍ لا تموت، وبِ ظلال لا تتلاشى..

وليت أحداق الأحبة ك النرجس، تنام في ليالي الصيف، وفي الشتاء تغتسل بالطل وتتطبق على شفيف اللحظات.

إلى ديسمبر قبل أن يرحل..

اثنا عشر شهراً آخرون مروا من العمر، تركنا فيهم ربما من كانوا بحاجة لنا، أو تَرَكنا من كنّا في أشدّ الحاجة لوجودهم، تخلّينا بضعف، وتظاهرنا بقوة..

اثنا عشر شهراً آخرون مروا من القلب، من تفاصيل خفية في الروح، من كل ثغرة عن الأمس، تعلمنا بوهنِ كهل بلغ من العمر أرذله، و براءة ساعي في خطوة الحياة الأولى، بدأنا حكايات عديدة على مشارف الانتهاء، وأنهينا حكايات أقسمنا قديماً بخالق الكون على ألا تنتهي، تعلمنا رغم ما في الأمر من صعوبة.

ثم..

كان لابّد للحياة أن تقشر عن أنيابها حتى نستمتع أكثر برفاهية البصر والبصيرة، حتى تتضح لنّا الصورة.. حتى تتوارى خلف حسن ظنوننا نظريات الحيرة

يرى الحالمون والعظماء قسوة الحياة أنها صحوة تدفعهم إلى تغيير معتقداتهم إلى تجديد أفكارهم ومكتسباتهم إلى تنوير مسلّماتهم القديمة،

أجل كل شيء قابل للتغير، في فلسفتي ليست هناك ثوابت، وخسارات الأمس مواقف أحدثت الفرق وطرقِ أبواب الفتنة موهبة عظيمة، لا يتمتع بها إلا الذين يعيشون تخيّلات كبيرة، وشواهد اليوم أضحت خطيرة 

العجز عن دفع الهزيمة يجعلك شخصا تائها تتحّين المبررات والأسباب، لتتأكد من ذكاء غباءك فقط واصل المسيرة، أستمتع كثيرا بالصمت حين تشتمني لأني استوعبت كل السيناريوهات

على ڪل لا شئ قادر على انتزاع هذا الشعور مني وأنا في قمة انهياري في وقت مستعص أراوغ فيه ڪل الأمور الغير مألوفة التي تحدث معي،

تحتلني فوضى لا سبيل لترتيبها، يعز عليا أن أكون معلقة على حافة الأشياء لا يسعني للانتهاء إلى حال..

تبا،

الأمر لم يعد يستحق المجازفة، هناك أيام انتهت مدة صلاحيتها وأخرى لازلت تحبو..

أتساءل فقط كيف جعلتني الحياة هكذا!

لطالما جعلتني أكثر حدة، أكثر شراسة وأكثر جرأة، جعلتني أقوى بصيرة أتوقع حدوث الأشياء قبل أوانها، جاهزة لاستقبال المزيد…

ثم ماذا؟

لم أعد أريد أشياء مذهلة، أصبحت أتمتع بمناعة صلبة، صلبة جدا حتى أن أي محاولة للفت انتباهي لم تعد تجدي نفعا.

لأنه في يوم ما انتهت بڪل شرودي إلى أن سقطت في كمين ڪاد أن يسحبني نحو متاهة لا نجاة منها لولا لطف الله علي…

لذلك الأمر لم يعد يستحق المجازفة..

فلكي تفتحَ أبوابَ الحياةِ الألف، ليس عليك سوى أن تُمارسَ السعادة،

أن تتقبَّلَ ضيوفَ الحياة الثِقال برَحابةِ صدر، أن تُهَرِّبَ نفسكَ من سجن “كان” إلى هذه البُرهة، فأهلاً بك في “الآن”.

عندما تكونُ سعيدًا يبدو كل شيءٍ أجمل. تؤدّي القهوةُ عملَها على أكمَلِ وجه، و تتفجَّرُ النَكَهاتُ في كل لُقمة. فجأةً تتحوَّلُ الموسيقى إلى شَرائطَ ملوَّنةً تسبحُ في داخلك، يصيرُ كل لحنٍ صنفًا جديدًا من النَشوى، أو قنّينةَ تكيلا تُحقَنُ في الوَريد.

عندما تكونُ سعيدًا تصبحُ أعماقكَ حَلَبةً يرقصُ فيها الشُعورُ رقصةَ التانغو، وتَغدو جميعُ المواقفِ هدايا جميلة. تَفرِضُ الابتسامةُ نفسَها على شفَتيكَ وكَيانك، مُنتَقِمةً من نظامِ العُبوسِ السابق.

تختَفي كل المشاكِلِ دونَ جهدٍ منك، وتخلَعُ الأيامُ ردائَها الأسود بعد ألف ليلةٍ من الحِداد.

انهَض ووَقِّع عقدَ احتِكارٍ مع السعادة، وسيتغيَّرُ كل شيء، فقط كُن سعيدًا.

فبعدَ وضعِنا للنقطة.. بإمكانِنا العَودة إلى السطر، وعندما تنتَهي القصة.. نبدَأ بكتاب جديد، وحينَ تغيب الشمس.. يظهر القمر للجلوس مكانها، وإن أُغلِقَ بابٌ في وجوهنا..

فهناك بابٌ آخر يُفتَح.. لا خَوفٌ من الغَد، ففي السماء لنا ربٌ يرى ويسمَع..

إلى ديسمبر قبل أن يرحل، علّ خيراً كتبه الله ينجينا، علّ حكمة لم نُدرك معناها تشفينا، علّنا نفهم ونعي حقيقة الحياة وتقلّبها، ندرك أن لا شيء للبقاء، لا شيء أبدا.. علّنا لا نندم، ولا نُظلم، علّنا لا نتعب أنفسنا ولا نتعلّق بمن دفعونا لهذا…

شيء ما هنا في الجوار يبدد الظلام ويحوّله إلى قطع موسيقى، يحاكي الفراغ ويعبث بالضجر بملامسة العواصف المكبوتة وينقله إلى ما وراء الخيال ببضع ابتسامات بريئة، إنه الليل يستريح عند تعبي ودوحة الأحاديث والنبوءات الغير مألوفة، عند مشاهد الطفولة والذكريات السميحة، يتوقف طويلا عند ناصية الأشياء القديمة والمواجع التي ترفض مغادرتي

ويتنهد كثيرا، كثيرا

بقلم: هند بومديان

Top