أجمع عدد من المسؤولين والمختصين في قضايا محاربة الفساد أن المغرب وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه في مجال الديمقراطية التشاركية من خلال التنصيص الدستوري على آليات مثل العرائض والملتمسات، إلا أن تفعيل هذه الآليات لا يزال يشكو من العديد من المعيقات.
وأكد المتدخلون في الندوة الوطنية التي نظمتها الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها بشراكة مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أول أمس الأربعاء بالرباط، حول “الالتزام المواطن والمساهمة في تدبير الشأن العام ومكافحة الفساد” على أهمية الالتزام المواطن كعنصر أساسي في مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.
ولفت المتدخلون في اللقاء الذي عرف عقد جلستين عمليتين شارك فيهما عدد من الأساتذة والخبراء والمختصين ومسولين عن هيئة النزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، (لفتوا) إلى أن تعزيز الثقة بين المواطنين والمؤسسات يمثل تحديًا حقيقيًا، حيث أظهرت العديد من المؤشرات الوطنية والدولية تراجعًا مستمرًا في مستوى هذه الثقة، خاصة بين الشباب الذين يعتبرون أن السياسات العمومية غالبًا ما تكون بعيدة عن تلبية احتياجاتهم.
وفي هذا السياق، يجمع المتدخلون على الحاجة إلى تطوير آليات فعالة لضمان مشاركة فعالة ومؤثرة في صناعة القرارات السياسية والتنموية، بالإضافة إلى تأكيدهم على ضرورة خلق بيئة ملائمة لتعزيز هذه المشاركة، من خلال مأسسة الحوار والتشاور العمومي بشكل يضمن أن تكون آراء المواطنين حاضرة في كل مراحل صنع القرار، مما يسهم في تحسين سياسات التنمية ورفع مستوى الشفافية. وقد تم التأكيد على أهمية العمل المشترك بين المؤسسات والهيئات الحكومية والمجتمع المدني من أجل تحقيق تحولات ملموسة تساهم في بناء مستقبل مستدام ومزدهر للجميع.
في هذا السياق، وفي افتتاح اللقاء، أكد محمد بشير الراشدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أن اهتمام الهيئة بالالتزام المواطن ودوره في الوقاية من الفساد ومكافحته يندرج ضمن رؤيتها الشمولية لمحاصرة هذه الظاهرة وتجفيف منابعها. وأوضح، خلال افتتاح الندوة الوطنية حول “الالتزام المواطن والمساهمة في تدبير الشأن العام ومكافحة الفساد”، أن الهيئة تعتبر تعزيز هذا البعد جزءًا أساسيًا من مهامها، وفق مقتضيات القانون 46.19، من خلال اقتراح التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة في هذا المجال، وإعداد استراتيجية وطنية متكاملة للتنشئة التربوية والاجتماعية على قيم النزاهة، إلى جانب وضع برامج للتوعية والتحسيس بضرورة ترسيخ ثقافة الصالح العام.
وأشار الراشدي إلى أن تعزيز الالتزام المواطن يقتضي خلق بيئة قائمة على الثقة في المؤسسات والسياسات العمومية، خاصة في ما يتعلق بنزاهة التدبير العمومي والحوكمة القائمة على المسؤولية والمحاسبة. ولفت إلى أن المؤشرات الوطنية والدولية حول الثقة في المؤسسات تعكس تراجعًا مستمرًا، مما دفع الهيئة إلى إطلاق دراسة “باروميتر الثقة”، التي ستُنشر نسختها الأولى نهاية النصف الأول من هذه السنة، بهدف قياس تطور هذه الثقة بشكل دوري كل سنتين.
وخلص الراشدي إلى أن الشباب يمثلون الفئة الأقل ثقة في المؤسسات والأكثر انتقادًا للسياسات العمومية، لكن في المقابل، أظهرت المؤشرات أن نحو نصف المغاربة يؤمنون بقدرة المواطنين العاديين على التأثير في مكافحة الفساد، مما يستوجب تعزيز الثقة لاستنهاض هذا الوعي الجماعي وضمان انخراط المواطنين في الإصلاحات الجوهرية.
وشدد رئيس الهيئة على أن تعزيز الالتزام المواطن يتطلب توفر عنصرين أساسيين: مشهد سياسي نزيه يُفرز مؤسسات قوية قادرة على تلبية تطلعات المواطنين، ومواطنين واعين بمسؤوليتهم في بناء مجتمع قائم على النزاهة والشفافية. كما دعا إلى ضرورة تخليق الحياة السياسية عبر وضع وتنفيذ برامج لمكافحة الفساد السياسي والانتخابي، مشيرًا إلى أن الهيئة أكدت على هذه المسألة منذ تقييمها الأول للاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد سنة 2019.
وفي سياق تكريس التعاون المؤسسي، أبرز الراشدي أن تنظيم هذه الندوة بشراكة مع المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي يندرج في إطار تعزيز دينامية مجتمعية تسهم في تحقيق التنمية، مؤكدًا على دور المجتمع المدني كشريك أساسي في جهود التوعية والتعبئة، ومشيرًا إلى أن الهيئة تضع اللمسات الأخيرة لإطلاق استراتيجيتها الجديدة في هذا المجال.
واختتم الراشدي كلمته بالتأكيد على التزام الهيئة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بدعم مشاركة المواطنين في بلورة القرارات العمومية وتجويد السياسات العامة، في أفق بناء مجتمع يقوم على مبادئ النزاهة والمسؤولية والشفافية.
من جانبه، أكد أحمد رضى الشامي، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أن دستور المملكة أقرّ آليات مبتكرة في مجال المشاركة المواطنة، مثل العرائض والملتمسات في مجال التشريع، إلى جانب مأسسة الحوار والتشاور العمومي، مما يتيح للمواطنين فرصة المساهمة في إعداد وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية.
وأوضح الشامي، خلال كلمته في افتتاح الندوة الوطنية أن المجلس انكب على دراسة هذه الآليات التشاركية، للوقوف على واقعها ومدى تفعيلها، حيث أظهرت نتائج البحث الميداني أن اللجوء إليها لا يزال محدودًا بسبب عقبات مثل نقص المعلومة، وتعقيد المساطر، وضعف التملك من طرف الفاعلين المعنيين.
وأشار إلى أن هناك رغبة متزايدة في المشاركة، خاصة لدى الشباب، الذين يتطلعون إلى الانخراط بشكل أكبر في تدبير الشأن العام، وتعزيز شفافية المؤسسات العمومية، والمساهمة في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم اليومية.
وفي هذا السياق، لفت المتحدث إلى أن المملكة شهدت إطلاق عدة مبادرات مبتكرة لتعزيز التشاور المواطن، مثل الميزانيات التشاركية والمنصات الرقمية لجمع آراء المواطنين حول المشاريع التنموية الاستراتيجية، وهو ما أبان عن تفاعل واعد ومتصاعد.
وأكد الشامي أن مشاركة المواطنين الفعلية في اتخاذ القرار تؤدي إلى سياسات عمومية أكثر استجابة للاحتياجات الفعلية، وتعزز التملك الجماعي للقرارات، كما أنها تساهم في ترسيخ الثقة في المؤسسات.
غير أن هذه المبادرات، حسب رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي تحتاج إلى إطار قانوني ملزم، ومعايير موحدة، لتجنب التفاوت في اعتمادها بين الإدارات والجماعات الترابية، ولضمان استدامتها وانخراط مختلف الفاعلين فيها.
كما حذّر الشامي من أن عدم التفاعل المنهجي مع نتائج الاستشارات العمومية قد يؤدي إلى تراجع تدريجي في مشاركة المواطنين، مما قد يُضعف مستوى الثقة في المؤسسات على المدى البعيد.
وخلص الشامي بالتأكيد على ضرورة اعتماد آليات رقمية شفافة ومتاحة للجميع، تراعي خصوصيات مختلف الفئات المجتمعية، من أجل إرساء دينامية تشاركية قوية تعزز ثقة المواطنين في المؤسسات، وتمكنهم من الإحساس بدورهم الفاعل في المسار التنموي. مشيرًا إلى أن هذا النهج، الذي يصفه المجلس بمفاهيم “الذكاء الجماعي” و”البناء المشترك” و”التوافقات الإيجابية”، يشكل أساسًا جوهريًا للتعاقدات المجتمعية الكبرى.
محمد توفيق أمزيان