سعيد الفلاق
لم يكن ما سأصل إليه يخطر ببالي يوما، كنت قد عاينت حالات كثيرة طيلة الثلاثين سنة التي تساقطت من عمري بسرعة وبقسوة أيضا، تألمت كثيرا، ولكن ألمي الآن لا يُحدّ، ليس لأني لا أرضى بقدري، ولكن ليس من السهل أن نعامل الإنسان كحجر، كشيء يلقى أرضا ويترك، كنبتة بدل أن نعتني بها نهملها إلى أن تصير لا شيء. من هنا كانت بدايتي، لم أكن المحرك الأساسي لأحداثها، ولكن حتما كنت أنا ضحيتها الأولى. في مستشفى ابن سينا كنت أرقد. هذا اليوم يمر رتيبا مثل الذي مضى، مستلق على سرير بلون أزرق باهت، أنظر إلى جدار أبيض أمامي منذ شهرين، محاصر بين هذه الجدران التي لا تقدم لك إلا الألم، محاصر بين تلك الرائحة العَطِنة التي تنبعث من قدمي ومن كل شيء هنا، لم أكن في البداية أشم أي رائحة، ثم ما لبثت أن اقتحمت أنفي، ومع الأيام صرت أألفها. كنت أعرف أن الضمادات يجب أن تغير كل يوم، كذلك كان قبل أن أُرْمَى في هذا المكان، أما هنا فإن الرائحة ازدادت بسبب الإهمال، وازداد معها تعبي وألمي، رجلي اليمنى لا أستطيع أن أحركها من مكانها إلا بمساعدة أخي الذي أَلِفَ بدوره هذه الرِّجل. أما الأخرى فأستطيع بجهد ثَنْيَها وإطلاقها، نصفي العلوي سليم، استغرب الجميع كيف قدِّر أن ينجو هذا النصف من تلك الحادثة المميتة التي كانت ستجعل ابني ذو الثلاث سنوات يعيش بقية عمره دون أن يقول: بَابَا.. وأمي دون أن تقول: ولدي الحبيب.. وزوجتي دون أن تنبس لي في آخر الليل: زوجي العزيز.
في غرفة صغيرة بئيسة يرتكن إلى سرير بقربي مريض آخر، عشريني بملامح تشي بأمل في الحياة، ابتسامته هادئة موشاة بحزن دفين. من النافذة المطلة على المستعجلات يصلني صياح لا يكاد ينقطع، أم مكلومة تصيح: مات ولدي… ماتت لكبيدة لي عندي… وأخرى تبكي بشدة بجانبها وتضيف: قتلوه الكفرة بالله.
وصوت سيارة الإسعاف يقول من بعيد: الوطن ليس بخير.
في مكاني أنتظر قدري، أميل ذات اليمين والشّمال علني أطرد هذا الملل والألم الذي يحيط بي. بكثرة ما بقيت فوق هذا السرير تورم جانبي قليلا وبدأت أحك كثيرا نصفي الأعلى. رائحة العرق والوسخ بدورها كادت تخنقني، بعيون متعبة أستقبل النور الذي يلج هذه النافذة كل صباح، قبل أن يستقيل في المساء، زارني الطبيب ذلك الصباح أيضا، بنبرة يائسة قال:
لا مفر، يجب أن تُبتر قدمك.
نظرت إليه ثم نظرت إلى قدمي التي لن تصير لي قريبا. ستفارقني بعد ثلاثين سنة من تحمل هذا الجسد، ستقدم استقالتها بدورها، وتقول لي بحزن: وداعا..
رفعت عيني الناعستين السوداوين، وقلت للطبيب بصوت خفيض: مرحبا بقدر الله.
بعد أن انصرف تهت من جديد، كثيرة هي الأفكار التي سقطت كالسيل من عل في محيط ذاكرتي، جذبتني إليها بقوة لأصدم بواقع أكثر مرارة، ولكن مع ذلك كان إيماني بالله كبيرا، غير أن الذي آلمني هو تلك المعاملة المجحفة التي لقيتها، وذلك الإهمال الذي سيجعلني بلا قدم، كم هو محزن أن تفقد جزءًا منك بعدما رافقك كل تلك السنين، أن تستيقظ وتجد قدما دون أخرى، ستصير يتيمة كالقدر منذ الآن، وسأظل أحن إليها عمرا آخر لا صلة له بعمري الأول. من يدري، كيف سأكون، لكن الأفكار التي تؤلمني اللحظة تزيد من توتري، وتجعلني نهبًا لكل شيء، لم أنم بعد أن ألقى الليل سدوله، ولا بعد أن اشتدت حلكته وساد صمت رهيب، ذهني بدوره لم ينم، رأسي ظلت توجعني، حرارة خفيفة أتلمسها من حين لآخر، ورائحة تصلني بكل قوتها وتقول: نَمْ..
يصلني غطيط المريض الذي بجانبي فيزيدني حيرة، يرتفع بين الفينة والأخرى كمحرك سيارة عتيقة. أسمع صوت آذان الفجر الذي يعبد الطريق للنهار القادم بكل نوره وناره، تخفت الأفكار التي هاجمتني كل هذه المدة، أحمل حجرة صغيرة شبه حمراء مدورة موضوعة بقربي، ثم أضعها في مكانها الأول وأصلي..
صلاتي لم تكن صافية، ظلت بقايا الأفكار تجوب شوارع نفسي، جاهدا أحاول طردها بقولي: الله أكبر. لكنها تعود لتقتص مني.. سلَّمتُ، وذكرت بعض الأدعية الخفيفة، ثم غطيت رجلي بإزار به بقع تجلب إلي الذباب حينما يصحو، أحسست بأني نمت قليلا، أصبح رأسي ثقيلا، ثم نسيت ما حدث فيما بعد إلى أن استيقظت فزعا بسبب صوت سيارة الإسعاف الذي أعاد إلي رشدي، وأشعرني بأني مازلت راقدا في مكاني إلى أن يقول قدري: قد حان وقتكَ لتقول كلمتك.. فكن ما قَدَّرْتُ لك أن تكون..
زارني أخي في الصباح، سألني إن غيروا “الفاصمة”، أجبت بالنفي بواسطة رأسي، ثلاثة أيام وأنا أنتظر، قدمي قرروا أن يبتروه بسرعة، أما تغيير الضمادات فيتباطؤون يوما بعد يوم، قال أخي: الطبيب والجزّار شيء واحد، إنهم يريدون أن يتخلصوا من اللحم بأي ثمن ولو كانت النتيجة أن تظل طول حياتك بإعاقة.
لم أجبه، ولم أستفهمه عن صحة كلامه، البكاء الذي يصلني من الخارج كان كافيا لي، صمت برهة، ثم انتشلني بكلامه من تشتتي: لن نسمح لهم بأن يقوموا بعملية البتر. قال بصوت فيه الكثير من التحدي. قلت هامسا: هذا قرار الطبيب، ماذا عسانا نفعل؟
في اليوم التالي اتجه أخي إلى طبيب آخر، استنكر هذا الأمر، وطالبه بستة ملايين مقابل علاجه، إن الأمل بدأ الآن يُبذَر في نفسي، والأفكار التي راودتني مؤخرا بدأت تتلاشى، غير أن غربتي كانت محزنة، تعجبت كثيرا كيف سأفقد قدمي في هذا المستشفى العمومي، في حين سأشتري قدمي في مصحة أخرى بستة ملايين أو أكثر. أي وطن هذا الذي يفاضل بين أبنائه تبعا لجيوبهم؟ يقول للبعض: عشْ بقدمين.. ويقول للآخر: عشْ بقدم واحد كطائر جريح.. أي وطن هذا الذي يرمي أبنائه من مستشفى إلى آخر إلى آخر أكثر جرحا وحزنا، لا لشيء سوى لأنهم ولدوا من آباء مهنتهم: بدون.
كنت أفكر كيف سنحصل على المال، كيف سأشتري قدما هي لي، كيف سأعيد البسمة إليّ. لم يكن هناك إلا أن يتجه إخوتي إلى ذلك العالم الافتراضي ليقولوا: هذا ابن هذا الوطن، ومن حقه أن يعيش بكرامة، تم بمساعدة بعض الأصدقاء نشر حالتي، التي ستصير مع الوقت قضية الكثيرين ممن أحبوني، ورسموا البسمة بقلوبهم على شفاهي، كم أنا ممتن لتلك الأرواح التي تقول رغم الألم: الوطن ما يزال بخير.. كم أنا حزين سعيد في الآن عينه.. لكن الأمل يراودني كل حين، بعد أيام نشر خبري في الإذاعة، وفي صباح ذلك اليوم زارني رئيس المصحة لأول مرة، سألني عن حالتي، فأجبته، ثم رسم ابتسامة بلهاء ونبس: لن يتم بتر قدمك.. سنحاول ما أمكن أن نعالجك بطرق أخرى، وقد نغير لك العظم بآخر..
دهشت بحديثه، فرحة عارمة اجتاحتني، رسمت نفس الابتسامة البلهاء بدوري وقلت قبل أن يرحل: شكرا سي الطبيب.. حملت هاتفي الصغير واتصلت بإخوتي، كنت سعيدا بالخبر الجديد، سعيدا بتغيّر رأي الطبيب بين عشية وضحاها، بين شروق وغروب. أي رياح هبت جعلته يعيد لي قدمي بعدما سلبها مني البارحة بقسوة؟ أيُّ ماء جرى جعل تلك الابتسامة البلهاء تُرسم على شفاهه بعد ذلك الخبر الأليم؟ أ للوطن مزاجية أيضا؟
لمّا زارني أخي أخبرني بأن القضية صارت أكبر منه، فقلت له: وقدمي التي كانت ستبتر في الخميس الماضي لولا إضراب الأطباء على قانون الخدمة الإجبارية الذي أقره الوزير، هل كانت تستحق أن تضيع، أن تبتر وتُرمى، أن أُتركل وحدي أبكي.هل كنت على وشك أن أكون ضحية لخطأ طبي كاد يلازمني بقية عمري؟ إنني لم أعد أثق في أي أحد، مزاجية الجميع تجعلني على أمل أن يظل قدمي، وعلى ألم أن يبتر. إنني لا أستطيع أن أتموقع هنا أو هناك، ولكن سأقول مع درويش الذي لم أره يوما:
قف على ناصية الحلم وقاتل.
وأنا سأقاتل من أجل قدمي، من أجل أن أمشي منتصب القامة مجددا، من أجل ابني الصغير ذي الثلاث سنوات الذي ينتظرني بشوق، لن أيأس أبدا بعد الآن ولن أحزن أيضا، بل سأقاتل لأجل أن أكون كما كنت من قبل، ولأجل أن أكرر مع الجميع: كلنا من أجل إعادة الابتسامة لعبد السلام.