وأنت تتصفح الجرائد الورقية أو الالكترونية وحتى مواقع التواصل الاجتماعي في وقت من الأوقات، لا شك أنك صادفت خبرا يفيد بتعرض مواطن لهجوم مباغت من طرف كلاب ضالة. خبر أصبح معتادا كغيره من الأخبار الأخرى السياسية أو الاقتصادية…ففي المغرب استفحلت ظاهرة الكلاب الضالة بشكل كبير في الفترة الأخيرة، كلاب تتجول بكل مكان سواء بالوسط الحضري أو القروي معرضة بذلك أمن المواطنين للخطر.
الحديث عن ظاهرة الكلاب الضالة بالمغرب هو حديث عن عشرات الحوادث سنويا، يتعرض حيالها مواطنون من مناطق مختلفة من المملكة لهجمات مفاجئة من كلب أو عدة كلاب جوالة، تنتهي بإصابتهم بجروح بليغة تستدعي نقلهم إلى المستشفيات لتلقي العلاج وبشكل مستعجل.
حتى نكون واقعيين وواضحين أكثر، ونقدم المثال الصحيح في التوقيت المناسب، لا بد أن نذكر بأن شهر غشت الجاري كان شاهدا على أزيد من حادثتين متشابهتين فيما بينهما، غير أنهما تختلفان في النتيجة والمكان، فبجماعة “العركوب” لقيت سائحة فرنسية مصرعها بعد حادث مفاجئ، أما بإقليم بني ملال فحصيلة حادث مشابه كانت أربعة جرحى تم نقلهم مباشرة الى المستشفى.
وبالعودة إلى تفاصيل الحادثين، فبإقليم وادي الذهب وبالضبط بجماعة العركوب، تعرضت سائحة فرنسية تبلغ من العمر 44 سنة لهجوم غادر من طرف كلاب ضالة بعدما كانت تتنزه خارج فندق كانت نزيلة به بالمنطقة ذاتها. الهجوم أسفر عن مصرع السائحة في اليوم ذاته، لتعلن بذلك مصالح الدرك الملكي بالمنطقة فتح تحقيق للكشف عن كافة الظروف والملابسات المحيطة بالحادث. أما حادث إقليم أزيلال والضبط بمركز بني عياط فكانت حصيلته أثقل، إذ تعرض أربعة أشخاص لهجوم من قبل كلب ضال مسعور نقلوا على إثره إلى المستشفى، حسب ما تناقلته وسائل اعلام محلية.
الحوادث الراهنة ليست الأولى ولا الأخيرة من نوعها، فالمسألة تتجدد على مدار الشهور والسنوات، بتنوع ضحاياها ما بين شيوخ طاعنين في السن وأطفال تفصل بينهم وبين المدرسة مسالك تتخذها عشرات الكلاب الضالة مأوى لها، ويافعين قدر لهم أن يكونوا ضحايا الأسبوع أو الشهر. وليس من السليم أبدا أن نحصر الإشكالية في حي أو مدينة بحد ذاتها، فمختلف مناطق المملكة تعيش المشكل ذاته، لكن بنسب متفاوتة على حسب مجهودات السلطات المحلية والمجالس المنتخبة وكذا جمعيات المجتمع المدني التي تنشط في هذا المجال.
حسب معطيات غير رسمية صادرة عن بعض هيئات المجتمع المدني التي تنشط في مجال حماية الكلاب والاعتناء بها، يقدر عدد الكلاب الضالة بالمغرب بحوالي 3 ملايين كلب ضال، تتخذ من مطارح النفايات أو البقع الأرضية غير المؤهلة والمحادية للمجمعات السكنية مأوى لها، ليكون بذلك من السهل مصادفتها وأغلبها في حالة يرثى لها بعتبات الإقامات أو المحلات التجارية وحتى المرافق العمومية كالمساحات الخضراء التي تشكل متنفسا لعموم المواطنين.
وتتمثل الخطورة الكامنة وراء التعرض لهجوم الكلاب الضالة في الإصابة بداء السعار الذي يعد مرضا فيروسيا ينتقل عن طريق الحيوانات الثديية، وتعرف الكلاب بكونها الناقل الرئيس له الى الانسان.
20 حالة إصابة بداء السعار سنويا
ووفقا للإحصائيات الرسمية، يعد المتوسط لحالات الإصابة لدى الأفراد بداء السعار 20 حالة سنويا ما بين سنتي 2000 و2018، يستحوذ الذكور على 83% منها مقابل 17% للإناث.
وقصد القضاء على الداء نهائيا تم إطلاق البرنامج الوطني لمحاربة داء السعار سنة 1986، حيث يهدف الى القضاء نهائيا على الداء في أفق 2025، وذلك عن طريق المراقبة الوبائية والوقاية والتكفل بالحالات المؤكدة وكذا التوعية والتكوين.
باتت ظاهرة الكلاب الضالة معادلة صعبة في حسابات المجالس الجماعية المنتخبة التي تناط بها مسؤولية حماية أمن وسلامة المواطنين من أخطار هذه الظاهرة، فقد أعادت الحوادث الأخيرة إلى الواجهة مسألة التفكير الجدي في الظاهرة ومسؤولية السلطات المتخصصة في إيجاد حل مستعجل وناجع، وكذا الأدوار المنوطة بجمعيات المجتمع المدني النشيطة في مجال العناية والرفق بالحيوانات، خصوصا الكلاب، حتى يتم إيقاف مسلسل الحوادث التي تتكرر على مدار الشهور والسنوات.
أحياء الرباط وسلا نموذجا…
للوقوف على حقيقة الظاهرة مباشرة، وقصد استطلاع اراء المواطنين بخصوص الموضوع، قادتنا الأقدار إلى حي يعقوب المنصور وبالضبط بمنطقة “دوار الكرعة” المحادية للسوق المركزي “القامرة”. سوق بمواصفات بسيطة يضم أزيد من 100 محل، محلات تجارية تشترك سقفا مهترئا واحدا أنشئ من “القصدير”. بالجهة الشمالية للسوق تمتد بقعة أرضية شاسعة غير مؤهلة، تشكل مسرحا لموضوعنا، حيث تنتشر بالمكان أكوام من نفايات السوق مهيئة بذلك الفرصة لعشرات الكلاب الضالة للتواجد هناك، مما يشكل خطرا على سلامة الساكنة، نظرا لكون البقعة الأرضية تتخللها مسالك ترابية في اتجاهات مختلفة، زد على ذلك كون البقعة المعنية توجد بجانب الطريق المؤدية إلى مدرسة ابتدائية بالجوار.
الحاج محمد، ذو الأربع والسبعين سنة أحد سكان الحي، لا يخفي حسرته البليغة على وضعية الفضاء، حيث قال في تصريح لجريدة بيان اليوم، “إن هذه البقعة الأرضية معروفة منذ وقت طويل بكونها تعد مرفقا يأوي عددا من الكلاب الضالة التي تشكل خطرا علينا نحن كساكنة المنطقة”، وأكد الشاهد ذاته “أن أي شخص يمر من “التيرة” بعد صلاة المغرب فهو يخاطر بجسده ويعرض سلامته للخطر”، هذا وحمل الحاج محمد السلطات المحلية المسؤولية فيما الت اليه المنطقة، مضيفا “الرباط يا حسرة!”.
حمزة، طالب جامعي يقطن بالقرب من محطة “الترامواي” بيعقوب المنصور، هو الاخر مستاء مما تعرفه البقعة الأرضية، حيث يقول “سنتان وأنا أقطن بهذا الحي ودائما ما أحاول التسوق نهارا من السوق الشعبي، حيث أضحت الجهة الشمالية من السوق نفسه مرتعا لكلاب مختلفة الأحجام والألوان، والخطر الكبير هو وجود مدرسة بالجوار”.
وبخصوص الحلول المقترحة يقول حمزة “ان الأوان لكي تتدخل السلطات المحلية قصد تأهيل واعمار المنطقة، مما بإمكانه المساهمة في جمال الحي وحفظ أمن وسلامة قاطنيه”.
حتى يكون الاستطلاع أشمل، توجهنا إلى مدينة سلا، توأم الرباط، تتوفر هي الأخرى على نقاط سوداء تعد مرتعا للكلاب الضالة، فهي المدينة المعروفة منذ سنوات بالسكن الصفيحي غير اللائق.
على مقربة من وكالة “البريد” الموجودة بحي “تابريكت”، تمتد بالجهة الشمالية مساحة أرضية شاسعة، تتخذ كموقف للسيارات، وهو ما جعلها تحتضن عشرات الكلاب المشردة، بعضها في صحة جيدة والبعض الاخر يقاوم قدر الامكان من أجل البقاء. وتحتمي هذه الكلاب من لهيب الحرارة من خلال الاستلقاء ما بين عجلات السيارات، لتشكل بذلك ما يمكن اعتباره نقطة سوداء، لاسيما وأن المنطقة تشهد رواجا تجاريا ملحوظا بفعل تواجد تجار الرصيف وكذا سوق شعبي للخضر والفواكه، زد على ذلك كونها ممرا لموظفين وطلبة يستقلون الخط الأول من الترامواي المتجه نحو مدينة الرباط.
خديجة، شابة عشرينية من ساكنة الحي، تقول في تصريح “كطالبة وبالنظر الى بعد الجامعة، أمر من هنا يوميا وفي بعض الأحيان في الصباح الباكر لأستقل الترامواي، ودائما ما أعتبر أنه لا قدر الله يمكن أن أتعرض لهجوم من قبل هذه الكلاب المتسكعة هنا”.
وتضيف الطالبة “ألا يحق لنا كساكنة أن نمر مرور الكرام وبدون خوف ولا قلق وقتما نشاء، فمن يحمي سلامتنا إذن؟”
بالقرب من الموقع ذاته، وفي الجانب الاخر من الشارع أمام محطة “الترامواي” تابريكت، مساحة شاسعة كانت بالأمس القريب سكن صفيحيا يضم مئات الساكنة يسمى ب”الديبو”، اليوم وبعد أن أفرغ كليا من الساكنة، صار مأوى لكلاب متسكعة تبحث عما تدفع به جوعها، ومن الممكن أن تعترض طرق أي كان من المارة.
ليست منطقة “تابريكت” وحدها التي تعاني المشكل ذاته، فأحياء أخرى ك”المكنيسية” و”حي كريمة”وكذا “بطانة” تعيش على وقع ارتفاع ملحوظ في نسب تكاثر الكلاب الضلالة في السنوات الأخيرة، واقتحامها ظاهريا للتجمعات السكنية والمرافق العمومية.
مجتمع مدني مساهم…
تشتغل مجموعة من جمعيات المجتمع المدني في مجال الاعتناء بالكلاب المشردة وإيوائها في أماكن مجهزة خصيصا لها، حيث يقوم متطوعون بتلقيحها والحفاظ على نظافتها وتمكينها من الطعام، حتى لا تبقى عرضة للتسكع بالأزقة والشوارع. من بين هذه الجمعيات، جمعية تعرف اختصارا بSFT، أطلقت مشروعا يسمى “مشروع حياة”، يهدف للقضاء على داء الكلب بمدينة طنجة، وذلك عن طريق ايواء الكلاب المشردة بالمدينة وتلقيحها والعناية بها، في محمية تم تجهيزها للغرض نفسه.
سليمة قضاوي: الحل الأبرز الذي يمكن اعتماده لضمان أمن المواطنين من الكلاب الضالة هو التعقيم
وتفاعلا مع حادثتي إقليمي أزيلال ووادي الذهب، وفي تصريح لجريدة بيان اليوم، قالت سليمة قضاوي مديرة مشروع حياة ومؤسسة محمية للكلاب بمدينة البوغاز، “إن الحديث عن الواقعتين هو حديث في غالب الأمر عن كلاب تستوطن مناطق غير مأهولة بالساكنة، لكون هذا النوع من الكلاب “البلدية” يحتاج الى تدريب وتأطير على كيفية التعامل مع البشر، أو ربما أن هذه الكلاب كانت لشخص غير مسؤول قام بتقييدها قبل أن تهرب صوب مكان الواقعة”.
وأضافت المتحدثة ذاتها ” نحن الان في المغرب نواجه مشكلة خطيرة تتمثل في الجهل بتقييد الكلاب، وهو ما يجعلها عدوانية، فعلى وجه الخصوص، بعض السلالات تحتاج الى الكثير من التدريب والاهتمام والتمارين الرياضية، فهي كلاب رائعة لكن في الأيدي الخطأ”.
وأكدت قضاوي على أن “مشروع حياة” هو مشروع رائع حظي بإشادة واسعة جهويا وحتى وطنيا، غير أنه من الصعب ضمان استمرارية المشروع، وذلك بفعل التكاليف الباهضة اللازمة لذلك، حيث تبقى الاعانات المقدمة من طرف المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأجنبية المصدر الوحيد للتمويل، وهو ما يهدد استدامة واستمرارية المشروع.
وفيما يخص الحلول المقترحة للحد من ظاهرة الكلاب الضالة، قالت خبيرة الكلاب سليمة قضاوي إن “الحل الأبرز الذي يمكن اعتماده لضمان أمن المواطنين من الكلاب الضالة هو التعقيم، بحيث تبقى مسالمة وغير مصابة بالسعار، مؤكدة بذلك على ضرورة دعم الجمعيات التي تشتغل في هذا المجال من أجل ضمان استدامة نشاطاتها وخدماتها”.
ولا تخفي سليمة سرا أن التربية المجتمعية هي الأخرى تلعب دورا مهما في مسألة التعامل مع الحيوانات الأليفة وخصوصا الكلاب، حيث ترى بأن الفكر العام المجتمعي يجب أن يتغير، ويتم التعامل معها بطرق مسالمة ولبقة بدل اعتبارها كائنات “منبوذة”.
أحمد التازي: الحلول الناجعة تتمثل في تلقيح الكلاب وترميزها برموز دالة
من جانبه، أحمد التازي، رئيس جمعية الدفاع عن الحيوانات والطبيعة “أدان” قال في تصريح لجريدة بيان اليوم “إن الأدوار المنوطة بالجمعيات المشتغلة في مجال الرفق بالحيوان والكلاب خصوصا، هو مد السلطات بالتجربة والخبرة والتكوينات التي تلقيناها حتى خارج البلاد، ودورنا كذلك يكمن في التوعية والتحسيس فيما يخص هذه الظاهرة، ويجب أن نشرك في هذه العملية وزارات الصحة والتربية الوطنية والداخلية”.
“ونشتغل نحن كجمعيات مختصة بطريقة علمية وتقنية قصد القضاء على الأمراض الطفيلية التي قد تكون الكلاب بدون مأوى سببا فيها، حيث نعمل على تلقيح هذه الكلاب ووضعها في ملاجئ مجهزة خصيصا لهذا الغرض يتم فيها تزويدها بالأكل والشرب، ونتمنى أن ترصد لنا ميزانيات كافية لهذه العمليات”. يضيف التازي.
وتعليقا على بعض الممارسات التي يتم نهجها من طرف السلطات لجمع الكلاب الضالة من الوسط الحضري، أكد رئيس جمعية “أدان” على أنها ممارسات “غير مقبولة وغير فعالة” لكونها “حلول ترقيعية” ليس إلا، مؤكدا بذلك على أن الحلول الناجعة حسبه تتمثل في تلقيح الكلاب وترميزها برموز دالة على ذلك ومن تم إعادتها إلى مكانها، وهو ما تم التوقيع عليه في الاتفاقية الإطار مع وزارتي الداخلية والصحة والمكتب الوطني للسلامة الصحية وهيأة الأباطرة سنة 2019.
ولجمع أكبر عدد من المعطيات حول هذا الموضوع، حاولنا التواصل مع مصلحة الأمراض الوبائية بوزارة الصحة لكننا لم نتمكن من ذلك.
الاتفاقية الإطار
في سنة 2019 وتماشيا مع التعليمات الملكية الرامية إلى النهوض بالقطاع الوقائي والصحي لضمان السلامة الصحية للمواطنين، وقعت كل من وزارة الداخلية ووزارة الصحة وهيأة الأباطرة والمكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية الاتفاقية الإطار الهادفة للوقاية من بعض الأمراض الفتاكة المتنقلة عبر الكلاب والقطط الضالة خاصة داء السعار، وتفادي تكاثر هذه الحيوانات بطريقة عشوائية.
وحسب نص الاتفاقية، يلتزم المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية بتوفير اللقاح الضروري بالمجان لتلقيح الكلاب والقطط ضد داء السعار، في حين تلتزم وزارة الصحة بالمساهمة في تنظيم الحملات التحسيسية للتعريف بالأمراض التي تنتقل عبر الكلاب والقطط الضالة.
وبموجب الاتفاقية كذلك، للهيئة الوطنية للأباطرة صلاحيات تعيين الأطباء الأباطرة الخواص المخول لهم اجراء عمليات تعقيم الكلاب والقطط الضالة وتعقيمها وترميزها، في حين تناط بالجماعات الترابية مسؤوليات تكثيف حملات النظافة وإحداث وتجهيز محاجز خاصة تستجيب لمعايير ومواصفات محددة، علاوة على تغطية التكاليف الناتجة عن تسيير المحاجز وتغذية الكلاب المجمعة بداخلها.
مع توالي الحوادث التي كانت الكلاب الضالة طرفا فيها، بات التحدي الرئيسي الان هو التنفيذ الكامل والدقيق للاتفاقية الإطار لسنة 2019 التي تجمع أربعة فاعلين في المجال، وهو ما سيمكن من ضمان أمن وسلامة المواطنين، مع تمكين الكلاب الضالة من مستوى حياة أفضل وإنقاذها من التشرد والضياع بالمرافق العامة.
عبد العزيز اكرام (صحافي متدرب)