الفيلم الإيراني “بذرة التين المقدس”.. صرخة مأساوية من أجل الحرية

كان جمهور المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، الذي أقيم في الفترة الممتدة من 29 نونبر إلى 7 دجنبر الحالي، على موعد مع الفيلم الأخير للمخرج والسيناريست الإيراني محمد رسولوف الموسوم بـ “بذرة التين المقدس”، وهو من إنتاج مشترك بين ألمانيا، فرنسا وإيران، ومن تشخيص ميساج زاري، سهيلة جولستاني، مهسا رستمي، ستاره مالكي، نيوشا أخشي، رضا أخلاقي. نال الفيلم الأخير لراسولوف جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين بمهرجان كان، كما تم اختياره لتمثيل ألمانيا في جائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي لسنة 2025.
وقد حط الرحال بمراكش في قصر المؤتمرات – قاعة الوزراء، بحضور مخرجه رسولوف، الذي قال في كلمة له قبل العرض: “أنا سعيد بأن أتواجد معكم هنا في مراكش وأن أحظى بهذا الترحيب الذي تم تخصيصه لي. وأنا أفتخر بأن أكون وسط ثقافة أشعر بأنها قريبة من ثقافتي (…) وأتوجه بالشكر الجزيل لكل من يشارك في تنظيم هذا الحفل الثقافي الرائع”. وأضاف رسولوف: “دائما أجد مصدر إلهامي في أفلامي من خلال المحيط الذي أعيش فيه، وكذلك من خلال الأسئلة التي أطرحها على نفسي. بالنسبة لهذا الفيلم (بذرة التين المقدس) فهو نابع من تجاربي الحياتية الشخصية”.
وكشف رسولوف أنه أخرج هذا الفيلم بعد خروجه مباشرة من السجن: “حينما كنت أغادر السجن، قال لي المحامي هناك حكم آخر ينتظرك بثماني سنوات أخرى، وبالتالي كان الوقت ضيقا، وكان علي أن أخرج هذا الفيلم في ظروف بعيدا عن الرقابة التي تفرض على الفنانين وعلى المخرجين” يذكر رسولوف، قبل أن يضيف: “كانت هناك ثلاثة ظروف أساسية أنجز فيها هذا الفيلم. الظرف الأول هو أن الفريق كان مصغرا، والظرف الثاني هو أن الوسائل كانت محدودة، بحيث أننا ركزنا على مشاركة الطلبة، والظرف الثالث هو التصوير عن بعد، بحيث أنني لم أكن دائما متواجدا في مكان التصوير”.


واختتم رسولوف حديثه بالقول: “بعد أن بدأت حركة النساء بالتحرر، حدثت أمور غير متوقعة في الصناعة السينمائية، ومنها أن مجموعة من الفنانين عقدوا العزم بعدم الاشتغال إذا ما كانت أعمالهم ستخضع للرقابة. ولا سيما مجموعة من الممثلات اللواتي قررن أن لا يشاركن في أي عمل إذا ما فرض عليهن لباس معين، بل يجب أن يكن حرات في اختيار لباسهن…”.
من شاهد الفيلم أثناء عرضه لا يمكن أن يصدق أن رسولوف كان يخرجه عن بعد! فقد استطاع أن يهتم بالتفاصيل بطريقة أدخلت المشاهد في أجواء الفيلم وأحداثه التي لن تشعرك بالملل رغم أن مدته الزمنية استغرقت حوالي ثلاث ساعات.
تدور قصة الفيلم حول رجل يدعى “إيمان”، عين حديثا في منصب قاضي التحقيق في المحكمة الثورية في طهران. والغريب أن ابنتيه الاثنتين لا تعرفان المهنة الحقيقية لوالدهما، فقط زوجته هي الوحيدة التي تعرف. كان “إيمان” يعيش ضغطا رهيبا خصوصا وأنه مطالب بالتوقيع على مئات الملفات التي تخص مواطنين شاركوا في مظاهرات شعبية كانت تعيشها البلاد حينذاك بعد وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني حينما ألقي القبض عليها من قبل شرطة الأخلاق لأنها لم تكن ترتدي الحجاب، وقد أخذت القضية صدى عالميا، ونالت تضامنا واسعا من نساء العالم وخصوصا الإيرانيات منهن.


تمر الأحداث بطريقة سريعة أمام “إيمان”، المغلوب على أمره.. إذ يجب عليه أن يحسم في ملفات الإعدام ويوقع عليها في دقائق.. في النهاية، لم يكن أمامه سوى الخضوع لأوامر النظام، مهما كانت قاسية.. مهما كانت جائرة..
يرجع “إيمان” للبيت كل يوم، منهكا، شاردا، يجد ملاذه في زوجته “نجمة”، التي يثق فيها ثقة عمياء، تحاول المرأة أن تهون عن زوجها الذي يعيش ضغطا كبيرا في عمله كل يوم. تسانده وتنفذ كل قراراته دون نقاش، خاصة فيما يخص ابنتيه، إذ يحثها دائما على أخذ مسافة مجتمعية مع الناس، بحكم أن طبيعة عمله حساسة، ولا يجب أن تختلط أسرته بأحد لما يمكن أن يشكل ذلك من خطر عليهم.
تحاول زوجته أن تحفظ الهدوء والحميمية الأسرية في منزلها، وأن توفق بين ابنتيها وبين زوجها، إلا أن بنتيها “روزهان” و”سناء” تدعمان الحركة الاحتجاجية، خصوصا وأن والدتهما تجبرهما على الالتزام بالحجاب وعدم وضع مساحيق التجميل وطلاء الأظافر.. تتابع الفتاتان من وسائل التواصل الاجتماعي الأحداث الحقيقية لما يجري في بلدهما عبر مقاطع الفيديو التي تنتشر وهو عكس ما تظهره القنوات الرسمية، التي تبين المحتجين كمخربين يريدون نشر الذعر والدمار في البلاد.
ستبدأ نقاشات الفتاتين مع والديهما حول المرأة والحياة والحرية، بل، وحتى عن تدخلهما في علاقتهما مع الله. لكن الأمور ستسوء أكثر فأكثر. خصوصا بعد أن أصيبت إحدى صديقات “روزهان” في وجهها في المظاهرات وجاءت لتختبئ في منزلهم. وقد رفضت “نجمة” أن تظل صديقة ابنتها معهم في المنزل نظرا للوضعية الحساسة لزوجها.


في ظل هاته الأوضاع المتوترة، سيختفي السلاح الوظيفي لـ “إيمان” ذات ليلة، لتضطر “نجمة” لإخبار ابنتيها عن عمل والدهما لكي تستطيع أن تسألهما عن سلاح والدهما. لم تكن الفتاتان على علم بعمل والدهما أو بسلاحه الوظيفي حتى، مما سيحدث شرخا كبيرا في علاقتهم.. كيف يعيشون جميعا في بيت واحد وهما تجهلان الوظيفة الحقيقية لوالدهما!
سيتحول “إيمان” من رجل متردد ومضطرب إلى رجل مجنون، همه الوحيد أن يسترجع سلاحه الوظيفي بأي ثمن، خصوصا وأنه معرض للعقاب بالسجن، بسبب هذا الخطأ المهني الفادح، ناهيك عن سمعته التي ستتضرر، فمن لم يستطع حماية سلاحه الوظيفي لن يستطيع حماية بلده!
وسط كل هاته الأحداث العبثية، ناهيك عن عبثية الأوضاع في طهران، ما الذي كان ينقص هاته الأسرة؟ سوى نشر معلومات شخصية عن عائلة “إيمان” تخص عمله ومكان إقامته، مما سيجعله يقرر الهروب هو وزوجته وبنتاه إلى قرية بعيدة حتى تهدأ الأوضاع.
لم تزد عزلة “إيمان” في منزل مهجور إلا جنونا، وقد بدأ يشك في بنتيه، بل وحتى زوجته بشأن إخفائهن لسلاحه الوظيفي، وقد جن لدرجة أنه حبس زوجته وابنته الكبرى أسفل المنزل حتى يعترفا له بمكان السلاح. في الواقع، ولا واحدة منهما كان لديها السلاح، لأنه كان لدى ابنته الصغرى التي ستحرر والدتها وأختها وستقتل والدها المجنون في مشهد مؤثر بسلاحه الوظيفي الذي ظل يبحث عنه طوال الفيلم!


يظهر الفيلم التركيبة المعقدة للنفس البشرية، فـ “إيمان” الذي كان يرفض أن يوقع على ملفات الإعدام صار جلادا، ومع من؟ مع أقرب الناس إليه، تحول إلى رجل مجنون يشك في زوجته وبنتيه اللتين كانتا مطيعتين طوال حياتهما، إلا أنهما انفجرتا في النهاية، وعبرتا عن موقفهما مما يدور من أحداث في المجتمع الذي تعيشان فيه.
يعيش المشاهد مع رسولوف متعة الاهتمام بالتفاصيل، ومناقشة مواضيع ساخنة، لكن بطريقة عميقة، حوارات جيدة وأداء مقنع لممثلين تألقوا في أداء أدوارهم. وبالرغم من أن النهاية صادمة إلا أنها كانت منطقية وتتماشى مع سيرورة الأحداث.
عرف المخرج والسيناريست والمنتج الإيراني محمد رسولوف، بدفاعه المستميت عن الحرية، وأفلامه تشهد على ذلك، وقد نال فيلمه الطويل الأول “الشفق” (2002) جائزة أفضل فيلم في مهرجان فجر السينمائي الدولي. ثم أخرج بعد ذلك فيلمه الثاني “الجزيرة الحديدية” (2005)، الذي تم اختياره في قسم “أسبوعي المخرجين” بمهرجان كان.

كما توجت أفلامه الموالية في مهرجان كان في فئة “نظرة ما”: جائزة أفضل إخراج عن فيلم “إلى اللقاء” (2011)، وجائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين عن فيلم “المخطوطات لا تحترق” (2013)، وجائزة “نظرة ما” عن “رجل النزاهة” (2017). وفاز فيلم “الشر غير موجود” (2020) بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين.
ويندرج فيلم “بذرة التين المقدس” لمحمد رسولوف ضمن فقرة العروض الاحتفالية في مهرجان مراكش الدولي للفيلم، إلى جانب كل من فيلم “الأمر” لجوستين كورزل (كندا)، و”الارتباط” لكارين تارديو (فرنسا، بلجيكا)، و”الأكفان” لديفيد كروننبرغ (فرنسا، كندا)، و”الجدار الرابع” لدافيد أولهوفن (فرنسا، لوكسمبورغ، بلجيكا)، و”في حب تودا” لنبيل عيوش (فرنسا، المغرب، بلجيكا، الدنمارك، هولندا، النرويج)، و”ما زلت هنا” لوالتر ساليس” (البرازيل، فرنسا).

 

 

 

 متابعة: سارة صبري
 تصوير: أحمد عقيل مكاو

Top