يتواصل النقاش حول التعديلات المقترحة لمدونة الأسرة كما تم الإعلان عنها يوم 23 دجنبر الجاري، بعد حوالي سنة من الاستماع والتداول لمقترحات مختلف الأطراف المجتمعية، بناء على التوجيهات الملكية، وتحت إشراف اللجنة المكلفة والتي ضمت في عضويتها ممثلين عن الحكومة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنيابة العامة والمجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وخبراء من عدة مجالات وممثلين عن المجتمع المدني.
الإرادة كانت واضحة، على أعلى مستوى ومنذ إطلاق هذا الورش الكبير، في إعطاء الأهمية القصوى لمنهجية تشاورية على أوسع نطاق بهدف محاولة الإحاطة بجميع الآراء والارتقاء بمخرجات عمل اللجنة المكلفة عن التجاذبات السياسية والصراعات الإيديولوجية، وذلك سيرا على نهج اختاره المغرب منذ عقود وأثبت نجاعته في تحقيق توافقات مجتمعية واسعة حول أكثر القضايا الشائكة…
وعلى الرغم من كل المجهود الذي بذل من أجل منح الضمانات الكافية لعمل اللجنة المكلفة بإعداد مشروع تعديل المدونة، وما إن أعلنت هاته الأخيرة عن نتائج عملها، وقدمت الخطوط العريضة لمقترحاتها بهذا الشأن أمام جلالة الملك، حتى تفجر النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت الباب على مصراعيه لمختلف القراءات والتأويلات والتوقعات، ومعها الكثير من المغالطات والأحكام المسبقة والمواقف المتشنجة التي تستبق مشروع تعديلات توشك، بحسب البعض، – وهي لم تصل حتى إلى مرحلة البلورة والصياغة النهائية- أن تهدم الأسرة والمجتمع ومستقبل الأجيال القادمة! بل وصل الأمر إلى نشر شائعات بسحب “آلاف طلبات إبرام عقود الزواج” بسبب التخوف من الآثار المترتبة عن تنفيذ التعديلات المرتقبة على نصوص مدونة الأسرة ! ولحسن الحظ أن الرابطة الوطنية للعدول سارعت إلى تكذيب هاته الشائعات، داعية المواطنين إلى التحقق من مثل هذه المعلومات قبل تداولها.
النقاش الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أضحت للأسف مصدرا سهلا وسريعا للأخبار- الموثوق منها والزائف والمغلوط…- ومنصة شاسعة ومفتوحة للتعبير عن المواقف، الرصين منها والمتسرع بل وحتى المغرض…، جعل الموضوع يتحول بين عشية وضحاها إلى سجال محموم وغير محسوب العواقب، وتحول مشروع الزواج بموجب هذا السجال إلى مشروع شركة مجهولة الاسم غير معلومة الأهداف، وتحولت المرأة من طرف هش داخل العلاقات الأسرية- كزوجة وطفلة- تثبت المعطيات الإحصائية والقضايا المعروضة على المحاكم أنها مغبونة الحقوق مهانة الكرامة، إلى “باطرونة” تتحكم بمنطق ميكيافيلي في الزوج والأب، وتستولي على الممتلكات الأسرية بغير حق إلا ذلك الذي ستعطيه إياها مقترحات تعديلات (parachutées) أصبحت بمثابة دستور و”كتاب منزل” وهي لم تدخل بعد مسطرة المناقشة والمصادقة داخل المؤسسات!
إن النقاش والحوار في مختلف مراحل التشريع يعد أمرا أساسيا لا يمكن إلا أن يتم قبوله وتشجيعه من جميع أطراف المجتمع، مهما اختلفت وجهات النظر وتضاربت الآراء، في إطار تمرين ديمقراطي وممارسة متقدمة لمجتمع يعتز بجذوره الثقافية ويتفاعل بشكل إيجابي مع مستجدات الواقع المعيش. والأساسي أيضا أن يتسم هذا النقاش بالعقلانية والمسؤولية من قبل جميع المكونات، وأن يحترم تعدد المشارب وتفاوت العقليات ومستويات التفكير والوعي.
وبالتأكيد فإن المسؤولية تصبح أشد ثقلا عندما يتعلق الأمر بمؤسسة الزواج التي تؤطر حياة الأفراد والعلاقات الاجتماعية، من المهد إلى اللحد، وهو ما يتم استحضاره من خلال ما نص عليه بلاغ الديوان الملكي الأخير حول موضوع مراجعة مدونة الأسرة، متحدثا عن “مبادرة إصلاحية واعدة”، تهدف إلى “ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة، والنظر إلى مضامين المراجعة في تكامليتها، وأنها لا تنتصر لفئة دون أخرى، بل تهم الأسرة المغربية، التي تشكل (الخلية الأساسية للمجتمع)”.
مازال أمام التعديلات المقترحة على نصوص مدونة الأسرة، كما قدمتها اللجنة المكلفة، مسار طويل من التداول، فالمقترحات الحالية هي الآن في مرحلة التمحيص والتدقيق من قبل القطاعات الحكومية المعنية، قبل أن تتم إحالتها على الأمانة العامة للحكومة لمراجعتها وملاءمتها مع باقي القوانين الوطنية وصياغتها ضمن مشروع واضح ومتكامل، وبعد ذلك يتم عرضها على مجلس الحكومة للمناقشة والمصادقة، ثم تدخل مسطرة المناقشة والمصادقة في مجلس النواب وبعده مجلس المستشارين، ثم تتم إعادتها إلى مجلس النواب في قراءة ثانية للحسم فيها إما بالمصادقة قبل الإصدار في الجريدة الرسمية، أو برفضها وإعادة مناقشتها من جديد.
وإلى ذلك الحين، فالمجال يظل مفتوحا للتعبير عن جميع الآراء، بحرية ومسؤولية، عملا بالمقولة المغربية، “زواج ليلة تدبيرو عام”، وفي احترام تام لمؤسسة الزواج والأسرة وللقيم الأسرية التي تكتسي خصوصية متفردة عند المغاربة، والذين تربى معظمهم على تقديس الأم واحترام الزوجة وحب الابنة، في إطار علاقات أسرية مبنية على المودة والرحمة. وأما القوانين فإنها ضرورة حتمية تأتي لتقويم الانحرافات والأخطاء التي يمكن أن تطرأ على الالتزامات والقيم المؤطرة للعلاقات داخل مؤسسة الأسرة. ومن الحتمي أيضا أن تكون تلك القوانين خاضعة للتمحيص والتدقيق والتعديل لمواكبة تطور المجتمع وتغير الوعي والسلوك عند أفراده.
سميرة الشناوي