في رحاب فكر عزيز بلال -الحلقة 11-

عزيز بلال

التنمية… ما لا تقوله الأرقام!

عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟
في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم الأستاذ عزيز بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب صدر أصلا باللغة الفرنسية، وترجمه للغة العربية الأستاذ نور الدين سعودي، وراجعه الأستاذ محمد شيكر، وقام بالتنسيق الأستاذ أحمد أوبلة.

 الاقتصاد المغاربي بين المركز والهامش في منظور عزيز بلال

قبل الانتقال إلى الفصل الرابع من كتاب التنمية والعوامل غير الاقتصادية للمفكر عزيز بلال في الحلقة القادمة، لا بد أن نتوقف عند بعض الجوانب التي لم نتطرق إليها بشكل كاف في قراءتنا السابقة للفصل الثالث.

فقد سلط المفكر بلال الضوء على تأثير الاندماج في الاقتصاد المتروبولتاني، ليس فقط من حيث التبعية الاقتصادية، ولكن أيضا من حيث إعادة تشكيل البنية الاجتماعية للمجتمعات المغاربية، وهو ما يستحق وقفة تفصيلية.

التبعية الاقتصادية ومسألة التنمية

يرى عزيز بلال أن إحدى أبرز نتائج الإدماج القسري للاقتصاديات المغاربية في المنظومة الاستعمارية تمثلت في ترسيخ التبعية العميقة للأسواق الأوروبية، وخاصة السوق الفرنسية.

فقد تمحورت الأنشطة الاقتصادية المغاربية حول تلبية حاجيات “المركز”، سواء من خلال تصدير المواد الأولية أو استيراد المنتجات المصنعة، وهو ما أدى إلى اختلالات هيكلية حالت دون نشوء قطاع إنتاجي مستقل قادر على تحقيق تنمية ذاتية.

كما أن الاستثمارات الاستعمارية لم تهدف إلى تحديث الاقتصاد التقليدي بقدر ما كانت موجهة لخدمة المصالح الاقتصادية للمتروبول.

وقد أدى غياب الصناعات القاعدية، وضعف الاستثمار في البنية التحتية المحلية، إلى استمرار الأسواق الداخلية في وضع ما قبل رأسمالي، حيث ظل الإنتاج المحلي عاجزا عن تلبية الحاجيات الأساسية للسكان.

تغير البنية الاجتماعية وصعود فئات جديدة

إلى جانب التأثيرات الاقتصادية، يؤكد بلال أن الاستعمار أحدث تغييرات جوهرية في البنية الاجتماعية للمجتمعات المغاربية.

فمع تحول الزراعة إلى قطاع رأسمالي موجه للتصدير، بدأ التفاوت الطبقي يتزايد، حيث نشأت طبقة من كبار الملاكين العقاريين الذين استفادوا من الاستعمار، مقابل تدهور أوضاع صغار الفلاحين الذين أصبحوا أقرب إلى أشباه البروليتاريا، خاصة في ظل ضعف التشغيل وغياب أي سياسات لدعم الفئات الفقيرة.

في المدن، أدى الانهيار التدريجي للصناعات التقليدية إلى بروز فئات اجتماعية جديدة، أبرزها البروليتاريا الحضرية التي اضطرت إلى العمل في أنشطة غير منتجة مثل التجارة الصغيرة والمهن الهامشية، مما زاد من هشاشة النسيج الاجتماعي.

أما الفئات المتوسطة، فقد ظلت محاصرة في هوامش الاقتصاد الاستعماري، حيث تم إقصاؤها من المناصب الإدارية والتقنية العليا التي كانت تحتكرها الجاليات الأوروبية.

خصوصيات المسار التاريخي للمغرب، الجزائر وتونس

يلاحظ بلال أن درجة اندماج كل بلد مغاربي في المنظومة الاستعمارية قد أثرت على تطوره الاقتصادي والاجتماعي.

في المغرب، حيث بدأ الاستعمار متأخرا نسبيا عام 1912، احتفظت بعض البنيات التقليدية بقوتها، مثل النفوذ الذي مارسته الأرستقراطية المخزنية على الاقتصاد الزراعي.

في المقابل، عرفت الجزائر استيطانا مكثفا أدى إلى إقصاء شبه كامل للسكان الأصليين من القطاعات الإنتاجية الحديثة، وهو ما ساهم في جعل الحركة الوطنية الجزائرية أكثر راديكالية مقارنة بنظيرتها في المغرب وتونس.

أما في تونس، فقد كان المسار وسطيا بين النموذجين المغربي والجزائري، حيث تطورت فئات برجوازية محلية لعبت دورا مهما في الحركة الوطنية، لكنها تبنت مشروعا تحديثيا أكثر ارتباطا بالغرب مقارنة بالحركات التحررية في الجزائر والمغرب.

إشكالية التنمية الوطنية بعد الاستقلال

مع حصول الدول المغاربية على استقلالها السياسي، برزت إشكالية التنمية الوطنية كأحد التحديات الكبرى التي كان على الأنظمة الجديدة مواجهتها.

في الحلقة القادمة، سنبدأ قراءة الفصل الرابع من كتاب التنمية والعوامل غير الاقتصادية، حيث يناقش عزيز بلال دور الطبقات الاجتماعية في رسم مسار التنمية بعد الاستقلال، وفشل محاولات الوحدة المغاربية، وتأثير التوجهات الاقتصادية والسياسية على مستقبل المنطقة.

فما هي العوامل التي أعاقت بناء اقتصادات مستقلة؟ وكيف تعاملت الأنظمة المغاربية مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية بعد خروج الاستعمار؟ هذا ما سنستكشفه في الحلقة القادمة.

< إعداد: عبد الصمد ادنيدن

Top