في ضيافة باسكال

هذا الفضاء..

     الدّاخل إلى فضاء باسكال ليس كالخارج منه، مكان حميمي ينبت وسط حي تالبورجت (البرج الصغير) بجوار المارشي القديم في أكَادير (جنوب المغرب). في مدخل هذا الفضاء، تستقبل الزبناء آلية مصنوعة من قضبان الفولاذ الأبيض الصلب بها طبقات مصفحة مخصصة لوضع الصحون والأكواب ومختلف أدوات ولوازم المطعم، تبدو مثل مركبة فضائية بشكلها التكعيبي أغرتنا كثيراً وكنا بصدد اقتنائها في وقت سابق قبل أن نعدل عن ذلك لسعرها الباهض.

     لهذا الفضاء سحر خاص نشأت بداخله مجموعة من العلاقات: علاقة الزبناء مع العاملين به، وعلاقة الزبناء مع بعضهم البعض، منهم من اختفوا، ومنهم من بقوا أوفياء للمكان يدخنون ويحتسون الجعة ويعاقرون النبيذ والويسكي..

     هنا يقضي كثيرون جل أوقاتهم المسائية من عاشقي الجعة والنبيذ “مشروب العنب الإلهي” La divine liqueur de raisin تيمنا بنصيحة الشاعر البريطاني اللورد بايرون Lord Byron (1788-1824): “النبيذ يعزي الحزين، ويجدد شباب المسنين، ويلهم الصغار، ويريح المكتئبين من ثقل الهموم”.

كراس مغلفة بالجلد وطاولات عادية بنية اللون مغطاة بأغلفة مطاطية شفيفة، وعلى الجدار المقابل للباب شاشة تلفاز “بلازما” من نوع “سامسونغ” كبيرة الحجم تم تعزيزها بأخرى لوجود صنفين من الزبناء: فئة مهووسة بمشاهدة مباريات كرة القدم وأخرى تعشق الاستماع والاستمتاع بالمواد الموسيقية القديمة والجديدة حسب الأذواق والرغبات: موسيقى السبعينيات: الكونتري ميوزيك بجذورها الأمريكية منذ العشرينيات، الروك، الريغي Reggae، إلى جانب كلاسيكيات عربية، مجموعات ناس الغيوان، جيل جيلالة، إزنزارن، أودادن، تيناريون، موسيقى الطوارق، موسيقى الرَّاي، موسيقى الصحراء، منوعات وألوان من الموسيقى والرقص الشعبي لتنشيط الأجواء. وفي جزء هام من المكان، أنشىء ركن خاص أطلقنا عليه اسم “فضاء ستورك” نسبة إلى البيرة العمالية المعروفة “اللقلاق”، يتضمن قنينة قديمة ممتلئة لنفس الجعة وكذا نونوس وفأرة من المطاط مغلفة بعلامتها التجارية، إلى جانب كمامة تتوسطها يافطة تعريفية للبيرة المذكورة، فضلاً عن لوحة تركيبية مؤطرة مصنوعة من قطع قصديرية رقيقة لنفس البيرة، موضوعها “الكَناوي” وهي لأحد الفنانين الفطريين من مدينة الصويرة. 

قوارب العدس

     في وقت ما، وبعد أن اشتد الشح في المكان بسبب انعدام وجود نشويات ومقبلات “قَطْعَة” مع الشرب، أي “الطابا” Tapas كفاتحة للشهية وفق التقاليد الإسبانية في مقابل مفهوم الزاكوسكي Zakouski وهو مقبلات نموذجية للمطبخ الروسي التي تشمل اللحوم الباردة والأسماك المدخنة والكاڨيار Caviar.. وغيرها. إثر ذلك تزايدت ملاحظات الزبناء حول هذا الأمر، مما جعلنا نبادر يوماً إلى كتابة رسالة في الموضوع موجهة إلى مسيو باسكال الذي سارع إلى إجابتنا كتابة مقدّماً مجموعة من المبرِّرات الظرفية. لكن، سرعان ما تغير الوضع الغذائي بالمكان وأمسى مطعم باسكال يقدِّم للسكارى والزبناء بقوليات وقطاني: صحون صغيرة بيضوية الشكل على شكل قوارب صغيرة “فلايك” بها عدس بنّي أو لوبيا بالتناوب اليومي، إلى جانب أخرى بها أرز مطبوخ بالفلفل والطماطم على شكل “بايلا مزيَّفة”.. وليس باييا حقيقية Paella (بالإسبانية المحلية)، أكلة بحرية قديمة يعود تاريخ ظهورها إلى العصر الأموي في الأندلس، يربطها كثيرون بالكلمة العربية “بقايا” وقد ارتبطت بموائد الطبقة الشعبية. 

     كم هو لذيذ عدس الحانات، مفيد للمصارين ومساعد على دعم ميكروبيوم الأمعاء، والفاصوليا “اللُّوبْيَا” أيضاً، فهي غنية بالبروتين ولها خصائص عديدة مضادة للأكسدة، لكن لها وظيفة أخرى -كما في تعبيرنا العامّي المشترك-، هي “تَكْلِيم الجسد” والزيادة في درجة سرعة الرّيح!!

     فكل هذه الأطعمة الشعبية يُشرف عليها طباخ محترف بمعية الشاب ادريس الذي يبدو نشيطاً مختصّاً في تقطيع الجبن والفواكه وصاحب العبارة المتداولة محليّاً “جُوجَاتْ بَارِدَاتْ”. فضلاً عن ذلك، وفي بعض الأحيان، يطلب الزبناء أطعمة خاصّة: سَلطة “شلاظة” مغربية، نيسواز، أو طواجين اللحم والدجاج مع الخضر.. حسب الاختيار والرَّغبة، وغير ذلك من الأطعمة التي يسهر على إعدادها وتحضيرها “الشاف علي” بوزرته البيضاء التي لا تفارقه طيلة ساعات العمل بالمطبخ..

     ومن فرط كرمهم الخاص، وبدلاً من “القوارب الصغيرة”، فهم يضعون على طاولتنا صحوناً أخرى خاصّة إضافية، مميَّزة بأشكالها المدوَّرة وبمادتها الطينية الحمراء التي نسمِّيها بلغتنا المشتركة “الشامبرير”..

     – آ..السِّي البشير: شِي جُوجْ (هات بإثنتين)..

     – “أَوِيدْ سْنَاتْ”، التقطها السّيمو في السماء، وهو المكلف بالصرف المالي وتدبير الحسابات و”المدير العام للأمن الغذائي المحلي”، كما يلقب داخل المكان. شاب ودود يعمل بحسٍّ ذكي كثيراً ما يمتص شغب الزبناء المزعجين، يتدخل بهدوء لفكِّ الخلافات العابرة، بجانب البشير بسحناته الصحراوية وبضحكته التلقائية وبسرعة بديهته في خدمة الزبناء، أحياناً يظهر بهندام مختلف حين يرتدي ربطة عنق مخططة وصدرية منقطة تحيلنا على عوالم الستينيات والسبعينيات، في حين يظهر الشاب عبد اللطيف فطريّاً وخدوماً يتواصل بمودة واسعة مع الجميع. تمّت ترقيته بعد أن أطلقنا عليه في الآونة الأخيرة لقب “حكم متجوِّل بين العصب” لانفعالاته وتدخلاته و”نقده” لبعض الحكام الذين يديرون مباريات الدوريات الأوروبية في كرة القدم.

     إلى جانب ذلك، يظلُّ ابّا إسماعيل حارس المكان بامتياز “فيدور”، قامة طويلة، لاعب كرة القدم سابقاً ببشرته الداكنة له خفة في ضبط الأوضاع الداخلية كلما حدث خلاف أو شجار ناتج عن طلوع الجعة في رأس البعض. هو صمَّام أمان المكان وهذه هي مهمَّته، يراقب ويتدخل في الأوقات المناسبة، بل إنه يسدي خدمات موازية للزبناء، كتوفير السجائر، الماء، الجرائد..إلخ، وهو صاحب العبارة الختامية الأثيرة “يَا الله أَلَخُوتْ”.

    وفي المساءات يظهر مسيو باسكال، صاحب المطعم، بخطواته المتثاقلة يلقي التحية على الزبناء ممن يصادفهم أو يعرفهم ليقوم توَّها بتفحص الأوضاع سريعاً رفقه فريق العمل، قبل أن يصعد إلى غرفته لنيل قسط من الراحة، أو لاحتساء قهوته وقنينته اليومية.

قطة مدلّلة

امتداداً للمشاهد الباسكالية المذكورة، ترعرعت بالمكان قطة وديعة مدللة أنجبت به ثلاث مرات وربَّت أبناءها هناك في الدرج وفوق السطح، برعاية مشتركة وبجهد متواصل لاسماعيل ورفقائه الذين واظبوا على إطعامها وإطعام أبنائها. ولفرط تعلقها بالمكان، حدث مرَّة أن قامت عضوة بإحدى جمعيات الرفق بالحيوان أن أخذتها نحو مكان مخصَّص لرعاية القطط، لكنها لم تلبث أن عادت مع صغارها الثلاثة الباقين من أصل سبعة. عقب ذلك بأسابيع قليلة غابت بالمرة واختفت عن الأنظار!!

     قطة هادئة مندمجة صارت لها علاقة ممتدة مع الزبناء، أحياناً تكشف عن شراستها كلما اخترق قط وافد جغرافيا إقامتها، لتشرع في طرده أمام ذهول الحاضرين..

     أليست كلّ قطة “تحفة أدبية”، كما قال رسام عصر النهضة ليونار دافنشي L. de Vinci.. هي محبوبة من طرف الجميع، نراها هنا وهناك، تلهو بذيلها، تتمدَّد، تتحرَّك، تتوسَّل من الزبناء إعطاءها الطعام بصوت لطيف. كثيراً ما نتقاسم معها قطع الجبن الأحمر التي نحضرها، وكذلك “السوريمي” Surimi، “اللحم المفروم”، أو العجائن المصنوعة من السمك المطحون. صار هذا النوع من الطعام “ميثاقاً مشتركاً” بيننا كلما زرنا المكان..

     هي هكذا القطط، ذكية ومحبوبة من طرف العامة، وفئة عريضة من الفنانين، والأدباء على وجه التحديد، ارتبطوا بالقطط ونسجوا معها علاقات مودة ممتدة، منهم مثلاً: ليوتار، روبير دو لاروش، نجيب محفوظ، وشارل بودلير الذي أبدع نصّاً شعريّاً معبِّراً بعنوان “القطط” حظي بقراءة سيميائية جميلة لجوليا كريستيفا..

     فلا غرابة إذن أن “يرى الصينيون الساعة في عيون القطط”، كما قال بودلير الذي يَعتبر القطط “فخر المنازل”.

آه..آه.. تذكرنا أنشودة الأطفال الخالدة “قطتي جميلة..” للشاعر والمدرس أحمد خيرت التي أبدعها منذ عام 1927، كانت نشرتها مجلة “أبولو” في عام 1932، جاء فيها:

قطتـي جمـيــــلة        واسـمـها نـمــيـرة

شكـــلها جمـيــل        شـعـــرها طــويل

لعبُـهـا يُــسَــــلِي        وهـي لي كــظـلي

تُظهر المهـــارة        كي تَصِـيـدَ الفـارة

     وبحكم صداقتنا مع هذه القطة الجميلة، فقد التقطنا لها عشرات الصور البعض منها مؤطر بحجم متوسط سيوضع قريباً في مكان خاص بعنوان “أيقونة باسكال”..ويظلُّ مؤسفاً جدّاً أن غابت هذه القطة الجميلة لفترة معينة، لنعلم لاحقاً بوفاتها ذات يوم حزين!!

هاتي كاسْ الرَّاح

     في باسكال يتجدَّد اللقاء ويحلو على إيقاع احتساء الأقداح التي تزيد الانتشاء انتشاءً، وذلك على وقع ما غنَّاه المطرب السوري الرَّاحل صباح فخري:

     هاتي كاسْ الرَّاحْ

     واسقيني الأقداح

     أقداح هنا.. وقنينات هناك، وبينهما حوارات متناسلة لا تنتهي تُنْسَجُ خلالها عشرات المشاريع الطوباوية والوعود الظرفية التي تتبدَّى وتنمحي مع صحوة الصباح.. هم هكذا السكارى أسخياء وقت الشرب، لكنَّهم مع ذلك يظلون طيِّبين في العادة والأصل..

قهقهات تملأ المكان، وعجاج كثيف ناتج عن دخان سجائر سامَّة يمتزج مع الروائح الكريهة والنتنة التي تخرج من ثقوب الأجساد غير المتحكم فيها.. لكن، مع وقع الشرب ومضاعفته، يُمسي كل شيء مستساغاً ولو على مضض!!

     وهي ذي الحانات البسيطة والعادية ملاجئ للمضطهَدين والعرابدة، في مقابل فئة أخرى ترتاد هذه الفضاءات لتزجية الوقت ولشرب “كَاسْ نْقِي”، بتعبير الكاتب الرَّاحل ادريس الخوري، من دون خلق أي ضجيج أو إزعاج..

     “باسكال” من المطاعم/الحانات التي تستقطب فئة من الرجال والنساء الشعبيِّين، الكثير منهم يفرطون في الشرب، يبدون وديعين في بداية الأمر، لكنَّهم سرعان ما يشرعون في الإزعاج والضجيج، قبل أن يغادروا المكان وهم يتمايلون يساراً ويميناً.. يخرجون منهكين محطمين بحثاً عن سيارة أجرة تقلهم نحو بيوتهم أو نحو فضاءات أخرى مماثلة لمواصلة الشرب والسهر!!

     في باسكال، حدث مرَّة أن دخلت إحداهن المرحاض المخصَّص للرجال ولم تغلق خلفها الباب، ولمّا أحس أحد الزبناء بالتبوُّل غادر مكانه لقضاء الحاجة، دفع الباب بهدوء ولطف، فإذا به يصادفها بالداخل وهي في كامل ثمالتها، فخاطبته بالقول:

     – كان عليك دقّ الباب!!؟

     – قال لها: آسف.. لم أكن أعلم..

     فبدأت تتمتم وتقول كلاماً غير مفهوم..

      آنذاك لفت انتباهها إلى كونها دخلت مرحاضاً خاصّاً بالذكور مع أن بجانبه آخر مخصَّص للنساء للحفاظ على الخصوصية وسرّية الجسد، ثمَّ أنها لم تغلق الباب من خلفها، زائد أنها كانت تتبوَّل واقفة ولم تفرغ الماء بعد الانتهاء.. ففرَّت مهرولة نحو مكانها وهي ترتب أزرار سروالها الضيق..

لفضاء باسكال زبناء أوفياء يأتون كلّ يوم يشربون بهدوء كعادتهم، لكن أحياناً، يظهر بالمكان مزعجون لا يفقهون في الشرب شيئاً غير الضجيج من أجل الضجيج، أطلق عليهم البشير تعبيراً خاصّاً يتماشى مع الرَّاهن، هو “المتحوِّرات” الذي صار إشارة تفاهم لفظي بيننا في التفكه والضحك.. والتندر أيضاً..

    بقلم: ابراهيم الحَيْسن

Top