الحدائق العمومية في المدن الكولونيالية

سخرت الإقامة العامة جهودها لإغراء الجالية الأوربية لجلبها إلى المغرب، فالمواطن الفرنسي أو الأوربي عموما تعود في بلده على ثقافة المساحات الخضراء، فكانت المنتزهات والحدائق العمومية ملاذه للاسترخاء في أوقات الفراغ بعيدا عن الصخب والضجيج… لهذا، كان لا بد على المستعمر من توفير نفس الشروط للأوربي الآتي من بعيد. فعمد على إنشاء مجموعة من المساحات الخضراء التي احتلت عنصرا مهما في السياسة الاستعمارية بالمدن الكولونيالية الجديدة.
في هاته الورقة، سنركز على الحدائق في مدينتي الرباط والدار البيضاء.

“المدينة المثالية هي المدينة الخضراء”
حسب المؤرخ حسن أميلي في دراسة أجراها تحت عنوان “حدائق الرباط الدور الرئيسي للمشهد في تأسيس المدينة الكولونيالية”، فإن الرباط برزت “كمدينة حدائقية قبل الوقت ببساتينها التي تحدد تقطيع وتهيئة النطاقات العمرانية المنفصلة”. لكن، بعد إقرار نظام الحماية، فكر المقيم العام، هوبير ليوطي في تنفيذ برنامج حضري يعتمد على المتحف الاجتماعي الفرنسي الذي كان يضع تصاميم التهيئة والتوسيع للمدن الفرنسية الكبرى. من جهة أخرى، اعتمد على المهندس فورستييه وهو خريج المدرسة الغابوية لنانسي لتنفيذ برنامجه.
حل فورستييه على المغرب في يناير 1913، بعد أن استدعاه ليوطي بشكل رسمي. هنا، اقترح المهندس على الماريشال إخضاع المدينة العصرية بالرباط لنظام الحدائق، وهو ما كان قد نظر له في مؤلفه “المدن الكبرى وأنظمة الحدائق” عام 1906.
كتب المهندس فورستييه تقريرا قدمه في 60 صفحة في قسمين، القسم الأول: اختص بالمجالات المحمية الواجب تشكيلها داخل المدن الكبرى وبضواحيها، أما القسم الثاني، فيخص توصياته بخصوص الحدائق المغربية الأصيلة التي يجب المحافظة على خصائصها الرئيسية.
ولتنفيذ توجيهات فورستييه، استقدم ليوطي لهذا الغرض المهندس المعماري هنري بروست عام 1914. وقد سعى بروست إلى تنفيذ تخطيط فورستييه بتشييد ثلاث حدائق عامة بالرباط، لكن شريطة الحفاظ على الفضاءات الطبيعية الأصلية تحت شعار “بناء مدينة دون المساس بالطبيعة”.
وهكذا “شكلت الحدائق العمومية في التصميم التوجيهي للرباط عنصرا لا غنى عنه لجمالية المدينة، وأساس خاصياتها المادية والمعنوية، على أساس المبدأ الشائع مطلع القرن الـ 20 القائم على أن المدينة المثالية هي المدينة الخضراء”، يذكر أميلي. وعلى هذا الأساس، تم تحديد الأماكن ذات المشاهد البانورامية لإعدادها كحدائق خضراء.
تعتبر حديقة التجارب «J’ardin d’Essais» من الحدائق العمومية الأولى بالرباط خارج الأسوار في مساحة تمتد إلى 14.8 هكتارا، وأشرف بروست على إنجازها بين سنتي 1919 و1922 في جزء من الموقع القديم لحدائق أكدال المحيطة بالقصر السلطاني.


يقول المؤرخ حسن أميلي “تم تجهيزها بأرصفة على امتداد انحدار الأرض مما كان ييسر عملية السقي، فكانت الممرات وتقاطعاتها والأرصفة تشكل استعادة لحديقة كلاسيكية على النمط الفرنسي. وكما يدل على ذلك اسمها، لعبت حديقة التجارب دور المشتل الكبير لمعالجة البذور وللأقلمة بصورة جعلت جزءا منها غير متاح للعموم اعتبارا لدوره كمشتل لبقية مغارس المدينة. لقد كانت الحديقة تلعب أدوارا متعددة، فعلى مستوى الحي كانت تقوم بتهوية النسيج الحضري وتزيينه وتساهم في السلامة.. وعلى مستوى السكان، كانت توفر مجالا للترفيه المعرفي والصحي.. وعلى مستوى المدينة خصوصا، والبلاد عموما، كانت بالنسبة لإداريي الحماية دليلا على العبقرية النباتية والعلمية للفرنسيين وتساهم بالتالي في عملية بناء المدينة الكولونيالية وجماليتها”. في البداية، كان يتم التنقل لحديقة التجارب بعربات الخيول. وفي سنة 1924، صار بالإمكان الوصول إليها عن طريق الطرامواي.
أما حديقة بيلفيدير (Belvédère) (المساة حاليا حديقة مولاي رشيد)، وهي الحديقة الثانية التي تم إنشاؤها بالرباط على مساحة 2.2 هكتار، فوق مغارس أكدال خارج السوق الموحدي في الجهة الممتدة بين باب الرواح والقصر السلطاني. وقد احتضنت الحديقة في بداياتها المعرض المغربي – الفرنسي بين 15 شتنبر وفاتح أكتوبر 1917 الذي أشرف على افتتاحه يوم 19 شتنبر كل من السلطان مولاي يوسف والمقيم العام هوبير ليوطي “حيث اطلعا على عموم الأجنحة والمعروضات المتعددة التي أشرف على إقامتها المعماريون المشاهير أمثال لابراد ودو ليونيل وغيرهما” يقول أميلي.
أما الحديقة العمومية الثالثة، وهي حديقة مثلث الرؤية (Triangle de vue) التي تقع خارج السور الأندلسي للمدينة العتيقة، فوق مساحة 11 هكتارا. ومن العناصر المميزة لهاته الحديقة، هي مداخلها المتعددة، بالإضافة لاحتضانها لاحتياطي نباتي غني، يتم فيه زرع وادخار العديد من النباتات. كما اعتبرت هاته الحديقة، أول فضاء للألعاب خاص بالأطفال في المدن الجديدة بالمغرب مطلع القرن 20.
جهزت بعض أركان هاته الحديقة بالمقاعد العمومية، التي كانت تستغل في اللقاءات الحميمية، إذ يقول أميلي بأن الزيارات كانت تتم في “أحواضها العاجة بالضفادع الناطة فوق أوراق النيلوفر، وورودها وأزهارها المنتشرة عبر كافة أرجائها، وطيورها السابحة في فضائها أو المتنقلة بين الأشجار”. فضلا عن ذلك، كانت مسرحا لاحتضان الأعياد الفرنسية، خاصة يوم 14 يوليوز. في نهاية القرن العشرين، تراجعت مساحة الحديقة إلى أربعة هكتارات فقط، وتحول اسمها إلى “نزهة حسان”.

منتزه ليوطي.. كنز الدار البيضاء
استفادت الدار البيضاء، أيضا، من سياسة المساحات الخضراء التي سنتها الحماية الفرنسية، مثل “منتزه مردوخ”، و”حديقة لارميتاج”. لكن، يعتبر منتزه ليوطي، الذي سيصبح اسمه سنة 1960 “حديقة الجامعة العربية”، من أهم هاته المجالات الخضراء، ويقع هذا المنتزه، وسط المدينة ضمن نفوذ مقاطعة سيدي بليوط.
وكما سبقت الإشارة، أثناء حديثنا عن تجربة الرباط، فإن بروست اعتمد على تصور فورستييه، وقد قام المهندس الفرنسي ألبير لابراد (المكلف بتهيئة المنتزهات والحدائق بالمدن بفريق هنري بروست) بإعداد تصميمين لمنتزه ليوطي، الأول سنة 1913، والثاني عام 1919، كلاهما يكمل الآخر. وقد صمم المنتزه على مساحة 15 هكتارا بدعم من القوات العسكرية الفرنسية.
كتب الباحث أيوب ناجم عن المنتزه قائلا: “تميز المنتزه بإقامة نافورتين، الأولى بالجهة الشمالية، والثانية بجنوب القسم الثاني، واستحضارا لتوصيات فورستييه، هيأ لابراد منشآت رياضية في المنتزه، كملعب كرة القدم بالجهة الجنوبية. والملعب البلدي بالشمال الشرقي، الذي توفر على حلبة للجري وملعب لكرة القدم، كما خصص مساحات لإقامة المعارض والتظاهرات الكبرى”.
يبدو أن الاهتمام بالحدائق اكتسى أهمية بالغة في مدينة الدار البيضاء، إذ أوكلت هاته المهمة للمؤسسة البلدية بالدار البيضاء من خلال مصلحة الحدائق. في هذا الصدد، عبر رئيس المصالح البلدية ((M.Courtin عن أمله في رؤية الدار البيضاء كمدينة مريحة للأعين يكسوها العشب والورد. ولتحقيق ذلك، قامت مصلحة الحدائق بالمدينة بإعادة تنظيم منتزه ليوطي سنة 1936.
وتضمن المشروع “العناية بالعشب، وغرس ما بين 15 ألف و20 ألف دلو من الورود والنباتات مرتين إلى ثلاث مرات في السنة في الفترات الموالية لنموها. تبليط أرضية الممرات بالأجور المدقوق، مع غرس أشجار النخيل على جنباتها. تحويل الحوض القريب من ملعب كرة القدم إلى مكان لاستجمام الأطفال بعد إعادة تهيئته. كسوة المساحات الفارغة في المنتزه بالعشب لتصبح مناطق مخصصة للعب الأطفال”.
سنرى أيضا أنه في أواخر سنة 1938، أعدت البلدية عبر مصلحة الحدائق مشروعا آخر، حيث تقرر الزيادة في وسائل التسلية عند الأطفال (أرجوحات، حبال وأعمدة التسلق، حلبة للدراجات والسيارات الصغيرة…) كما تم إنشاء مواقع ظليلة للأطفال ومصطبة للمشروبات. وتعد هاته التهيئة الأخيرة بالأهمية بما كان، لأنها طورت من حديقة الأطفال. وأضحى المنتزه فضاء استجمام للساكنة نظرا لتوفره على وسائل الترفيه المختلفة. وقد حددت تسعيرة الدخول إليه في حدود 0.25 فرنك للأطفال و0.50 فرنك للكبار، فيما منع الأطفال في سن 8 و11 من دخول منتزه الأطفال دون مرافقة أحد. وكلف فرنسي ومغربيان بمهمة حراسة المنتزه. وقد كانت حديقة الألعاب تشهد أيام العطل المدرسية إقبالا كبيرا، وما زال الفضاء، إلى يومنا هذا، يعد متنفسا للساكنة البيضاوية، نظرا لمساحته الشاسعة.

مراجع:
• حسن أميلي، حدائق الرباط: الدور الرئيسي للمشهد في تأسيس المدينة الكولونيالية، في: الأدب المغربي الحديث والمعاصر: التاريخ والخطاب: أبحاث وشهادات مهداة إلى الأستاذ الدكتور محمد احميدة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، القنيطرة، 2014.
• أيوب ناجم، الحدائق والمنتزهات بالدار البيضاء خلال الحماية الفرنسية: منتزه ليوطي نموذجا، 1916-1939، في: البستنة والحدائق في تاريخ المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، 2021.

إنجاز: سارة صبري

Top