الخطاب السياسي في شعر نزار قباني

– 1 –
لا شك أن نزار قباني (1923 – 1998) من أبرز العلامات في مسار تاريخ الشعر العربي المعاصر. كان قبل نكسه 67، شاعراً ملء السمع والبصر يحظى بأكبر عدد من المعجبين حظي به شاعر، كما كان يتمتع أيضا برفض عدد لا بأس به من مثقفي أمته. فقد أثير حول تجربته الشعرية، بصفة عامة، جدل كثير وظلت نحوا من نصف قرن مدار نقاش مستفيض بين النقاد والدارسين ومتذوقي الشعر، حيث اشتبكوا مع قضاياها ورؤاها وجمالياتها، ووقفوا منها مواقف متعددة ومتباينة بلغت حد التعارض والتناقض.
ومن الملاحظ أن شاعرنا، وقد كان غزير الإنتاج، لم يتجه بهذا الشعر إلى النخب المثقفة أو المهتمة بالشعر اهتمام الدارس الأكاديمي المتعمق، بل أسس، عن طريقه، وسطا شعريا واسعا وعريضا، وذلك بإخراجه إلى الشارع العربي، لتأكيد جماهيريته الفاعلة، خاصة في أمسياته الشعرية التي كان يقيمها وقد امتدت عبر العديد من الأمكنة والأزمنة، بالإضافة إلى كونه كان الأكثر توزيعا لدواوينه في الوطن العربي.
وإذا كان الاختلاف قد طال، كذلك، أسباب شهرته وانتشاره، فأغلب الظن أن الذي أعطى لمنجزاته هذا الذيوع الواسع وهذا المد الجماهيري الكاسح، لم تكن قضية المرأة ـ على ما لها من أهمية في شعره ـ ولا أشعاره في الموضوعات الاجتماعية والسياسية / القومية، بل يعود الأمر، قبل غيره، إلى تلك اللغة التي استطاع بها ومن خلالها أن يعقد صلة حميمة مع أبسط القراء والمتعلمين وأقلهم ثقافة وعلما بالشعر.
هو الذي، باقتدار كبير، تمكن، في سبيل تحقيق مشروعه الشعري، أن تكون له لغة اختص بها وحده وأصبحت من علاماته المميزة، وهي ما أسماها باللغة الثالثة، تلك التي يقول عنها: “لغة تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمتها، ورصانتها، ومن اللغة العاميّة حرارتها، وشجاعتها وفتوحاتها الجريئة”. (قصتي مع الشعر، ص: 119 – 120).
ويضيف عنها قائلا: “مع اللغة، لعبت بديمقراطية، وروح رياضية. لم أتفاصَح. ولم أتفلسَف. ولم أغش بورق اللعب. لم أكسر زجاج اللغة. ولكنني مسحته بالماء والصابون. ولم أحرق أوراق القاموس.. ولكنني قمت بعملية “تطبيع” بينه وبين الناس”. (مدخل ديوان “هل تسمعين صهيل أحزاني.” ص:24).
لقد تميزت لغة شعره، بالفعل، بما يمكن تسميته بالبساطة الصعبة/ الممتنعة التي وسمت كل شعره الغزلي / الرومانسي والواقعي. وعبر تلك البساطة الجميلة استطاع شاعرنا أن يصالح الشعر المعاصر مع الجماهير العريضة ويؤثر في ذائقتها، وكان شعره حقاً بمثابة الجسر الذي عبرته الحداثة إلى نبض الجمهور العام، إلا أن حداثة نزار قباني كانت حداثته الخاصة، لها طابعها الحداثي الخاص المختلف، بكل تأكيد، عن نماذج الحداثة الشعرية التي أنجزتها التيارات الشعرية العربية الجديدة ذات المرجعية الغربية بالأساس، كما أن النقاد المختصين كانوا يرون أن شعر نزار لا يتصف بتلك السمات التي يعدونها مقومات جوهرية للحداثة الشعرية والتي يقرون أنها متوفرة في منجزات معظم الشعراء المنتمين لتلك التيارات الشعرية السالفة الذكر.
إذن، فحداثة القباني انصبت، بالأساس، في اللغة حيث عمل على تحويل العديد من الكلمات والمفردات القائمة في الاتصال اليومي، وتلك التي كانت تعتبر غير لائقة بالشعر، نقول، حولها إلى عناصر شعرية بعد ما شحنها بكل العطاءات الشعرية الممكنة، وقد تحقق هذا بفضل السياق الجديد الذي انطوى عليه النسيج الشعري لقصائده.
إن عالم نزار التعبيري المتفرد هو هذه البساطة المعجزة في التعبير. أشياء شعره، هي أشياء حياتنا العادية المباشرة، ولكنها تصبح في نسيجه البسيط المباشر أشياء شعرية. هذه البساطة هي التي منحته ذلك الرصيد من الشعبية الذي يكاد لا يدانيه فيه شاعر عربي معاصر؛ وبساطته قد لا تتعارض والعمق، إذا كان العمق غِنَى الإيحاء والشفافية، وهو المطلوب في الشعر.
نحن مع شاعر يفجر فينا انفعالاً جماليا، يستمد عناصره من أشياء حياتنا العادية، ولكنه يفجر فينا الإحساس بغير العادي فيها. لأنه على بساطة تعبيره، يحتفظ فيه بتوتر وصراع، ويحقق كشفا لأعماق فينا، أمامنا، إنه يضيف إحساسا بجماليات جديدة. وبرغم بساطة التعبير، بل نثريته، بل غلبة الطابع التعقيلي عليه أحيانا، فإنه يعبر عن هموم النفس العربية، في شعره الاجتماعي/ السياسي، تعبيرا يكاد يجعل منه منشورات تحريضية بل فعلا محضا. قد يكرر بعض معانيه، عندما يقف أمام الهزائم عاجزا، فيلح في معانيه، ويكررها ويؤكدها. وهو بهذا يكاد أن يكون أكثر شعرائنا اقتدارا على التأثير الذاتي ـ الموضوعي، ليس التأثير السطحي العابر، بل التأثير الذي يصبح جزءا من لبنة النفس، ونبضة القلب، ولمحة العقل. إن نزارا، برغم بساطته، وبفضل هذه البساطة، قد استطاع، كما ألمحنا سلفا، أن يقيم للشعر أوفق علاقة مع قاعدة عريضة من القراء العرب، وأن يعيد له حيويته وفاعليته، وليس هذا بقليل في عصر انعزل فيه الشعر العربي بتعقيداته ـ المبررة أحيانا ـ عن حياة الناس.
– 2 –
من المعروف أن نزار قباني قد وضع المرأة، بقوة غير مسبوقة، على خريطة الاهتمامات الشعرية، ليس باعتبارها موضوعاً لاهتمام الرجل، فقد كان هذا هو شاغل الشعر العربي منذ عمر بن أبي ربيعة وقيس بن الملوح، ولكن باعتبارها كونا مستقلا يستحق الاكتشاف، وقارة تستدعي سبر شتى أصقاعها المجهولة، والخروج بها من منطقة المسكوت عنه إلى ضوء المصرح به والذي يدور حوله الجدل والخلاف.
لكن انشغال شاعرنا الدائم بقضايا المرأة، تلك التي جعل منها محور حياته واهتماماته وأشعاره، والذي وضعه في بؤرة الضوء مبكرا، عرضه بالمقابل، ومنذ البدايات، للانتقاد والهجوم بصفته غير معني بالأحداث الكبرى التي كان يمر بها بلده، وعدم اكتراثه بأبرز القضايا القومية آنذاك. فلم يواكب، كزملائه شعراء تلك المرحلة، أحداث وطنه الجسام ونضالات شعبه، بحيث لم تثر مشاعره الوطنية، مثلا، المظاهرات الصاخبة ضد الانتداب الفرنسي التي كانت تعم المدن السورية، ولا استقلال وطنه وجلاء القوات عنه في ما بعد. كما لم يتعرض بالذكر للنكبة القاصمة في فلسطين، مثلما فعل غيره من الشعراء والخطباء والقادة الوطنيين. إلى غير هذا مما كان يجري في أنحاء الوطن العربي من نضالات وثورات ضد المستعمر الأجنبي، والتي وسمت، خاصة، الأربعينيات والخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي.
إن نزار قباني لم يقبل على الموضوع الوطني / القومي في بداياته، ولم يترجم إبداعيا أي موقف أو انشغال بهذا الموضوع، وأدار ظهره لفترة من أغزر فترات سورية والوطن العربي دفقا وطنيا ونضالا ومقاومة.
لقد كان على قراء ومتابعي كتاباته الشعرية، انتظار ما يقرب من عشر سنوات، أي بين ديوانه الأول “قالت لي السمراء” / 1944، وديوانه الخامس “قصائد” الصادر سنة 1956، لتظهر ضمنه، ولأول مرة، قصيدتان من طراز آخر لم يعرف به من قبل، وهما: 1 – ” خبز وحشيش وقمر” / 1954، و2 – “قصة راشيل شوارزنبرغ” / 1955.
فجاءت أولاهما مصحوبة بضجة إعلامية كبيرة، ساعدت أكثر فأكثر على تكريس اسم نزار قباني كشاعر هام مثير للفضول والجدل في آن واحد، كما كان الشأن معه في مجاله الأول وهو الكتابة الجريئة عن العلاقة بين الرجل والمرأة، والذي كان قد جلب له سمعة مماثلة في الذيوع والشهرة.
لم تكن هذه القصيدة علامة فارقة في شعر نزار قباني وحده، بل إننا نميل إلى اعتبارها إحدى العلامات الفارقة في شعرنا العربي المعاصر برمته، لما تنطوي عليه من جرأة شديدة على إدانة السبات الجمعي العربي، وذلك من خلال تعريته وتفكيكه للبنية الميثولوجية الغيبية التي يرتكز عليها المخيال الجمعي والسيكولوجي العربي.
كانت ثورة احتجاج على التخلف العربي. سلط من خلالها الشاعر أضواء لاهبة على واقع الحياة العربية بطولها وعرضها، على بلاد البسطاء ماضغي التبغ وتجار الخدر، المتغيبين عن واقعهم بالحشيش والمستسلمين للخرافة، هؤلاء الكسالى الذين يعيشون ليستجدوا السماء:
((ما الذي عند السماء؟ / لكسالى… ضعفاء/ يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر/ ويهزون قبور الأولياء / علها ترزقهم رزا… وأطفالا… قبور الأولياء)).
ويضيف في جرأة وتمرد متخذا موقفا جازما فيه إنكار:
((فالملايين التي تركض من غير نعالِ/ والتي تؤمن في أربع زوجاتٍ/ وفي يوم القيامَهْ..)).
عن هذه القصيدة يقول نزار قباني: “خبز وحشيش وقمر.. كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة وبين التاريخيين”.
لقد أمسك، فعلا، بسلاحه الأبيض، وأشهره في وجه خرافاتنا ومعتقداتنا العمياء، نابذا كل اتكالية وتخدير، رامزا إليهما بالأفيون والقدر والقمر:
((يتسلون بأفيونٍ نسميه قدر / وقضاء / في بلادي.. في بلاد البسطاء)).
ثم يزاد الشاعر قسوة لتحطيم ازدواجية الحياة الشرقية / العربية:
(( ويصلونَ..
ويزنونَ..)).
حيث استحال الدين إلى مظاهر شكلية وفي الأعماق تترسب الخطايا.
ثم يعمد الشاعر إلى صفع الاتكاليين الذين يغمى عليهم بالتواشيح، ويتباهون بأمجاد موروث خلفته عصور الانحطاط، فيركنون إلى ما سلف من خرافة البطولات التي لا تصنع تاريخا وإنما تقتل تاريخا وتقضي على شعب يستملح الأخبار والإنشاء الكلامي، ولا يخطر في بال هؤلاء الكسالى الاتكاليين أن يواجهوا واقعهم ولو مرة واحدة فيدركوا مكانهم في العالم، وتكون لهم الرغبة الصادقة في خلق أشكال جديدة لوجودهم:
((في بلاد البسطاء / حيث نجتر التواشيحَ الطويله/ ذلك السل الذي يفتك بالشرقِ/ التواشيحُ الطويلهْ / شرقنا المجتر تاريخاً / وأحلاماً كسولهْ / وخرافات خوالي / شرقنا، الباحث عن كل بطوله/ في أبي زيد الهلالي)).
لقد سمى نزار الأشياء المهترئة بأسمائها، وفتح القمم الممتلئ اتكالا وقدرية عمياء وخرافات وحشيشاً وهواء فاسدا عقيما. كانت هذه القصيدة، كذلك، لونا من الشعر، وخطاباً لم يألفه المتلقي العربي، وقد صيغت بعبارات تقدح شررا لعلها توقظ الشعب العربي الغارق في سبات رآن عليه قروناً عديدة، عله ينهض ويأخذ زمام المبادرة، ويدحرج جدار عبوديته وغيبوبته القدرية ويبعث ميلادا لحضارة إنسانية جديدة.
لقد أثارت القصيدة جدلا عنيفا وقتها، وثارت عاصفة عارمة على الشاعر من قبل رجال السياسة الرجعيين، وشن عليه شيوخ الدين أشرس الحروب، واشتدت الثورة عليه حتى أن بعض أعضاء البرلمان السوري طالب بطرده من السلك الدبلوماسي الذي كان الشاعر موظفا فيه، وكأن الموظف ليس مواطنا له حرية التفكير والتعبير، بل كان عليه أن يلجم فؤاده، وفكره، ويخصي كلماته وشفتيه، على حد تعبير نزار!.
لم يكن ممكنا أن يستمر نزار قباني على موقفه الإنكاري الكاره للواقع العربي. فقد تنوعت قصائده في طرقها لبوابات الهموم الإنسانية العربية، وهو يحاول اكتشاف البُعد العربي في وعيه وحياته.
كانت البداية مع فلسطين من خلال قصيدة “قصة راشيل شوارزنبرغ” 1955، التي تعرض فيها لمشكلة الغزو الصهيوني والطريقة الإجرامية التي احتل بها فلسطين، فجاءت مشبعة بروح الثورة والنقمة والثأر، معبرة عن رفضها لهذا الاستيطان الاستعماري الذي انتزع جزءا عزيزا من الوطن العربي، وما خلفه من مآس إنسانية وفجائع نفسية. والحقيقة أن نكبة فلسطين لم تكن مأساة عربية فقط، وإنما هي مأساة إنسانية أيضا، إذ لم نعرف في التاريخ أن وطنا سرق على هذا الشكل، وأن شعبا قد أهين وشرد على هذا المنوال.
ولعل أحداث هذه المأساة البشرية الضارية، وضخامة فواجعها، بقيت تلح على وجدان الشاعر، بعد مرور سبع سنوات على وقوعها، حتى خرجت في نهاية الأمر لتعلن بداية المدّ السياسي في شعره.
إنها قصة الهجرة اليهودية إلى فلسطين حين جاءها شذاذ اليهود وحثالات المجتمعات الغربية لتصيب أرضها وأبناءها بما يصيب ساكني المرافئ من طاعون أسود يأتي مع جرذان يخرج من سفينة ترسو فيها. وهذا ما قام به هؤلاء الأغراب يوم نزلوا تلك الأرض الطيبة:
((وأبحرت من شرق أوروبا مع الصباح/ سفينة تلعنها الرياح / وجهتها الجنوب / تغصَ بالجرذان.. والطاعون… واليهود/ كانوا خليطاً من سقاطة الشعوب…)).
هي كذلك قصة “راشيل” تلك الغانية اليهودية التي كانت تدير بيتا للدعارة في “براغ” قبل أن تهاجر، هي الأخرى، لفلسطين وتلتحق بجيش الاحتلال، حيث أصبحت مجندة تساهم في إرهاب الشعب الفلسطيني، ومصادرة أرضه وتدمير إرادته، وتشريد شبابه، بدون مراعاة لحرمة امرأة ولا كرامة لشيخ ولا محبة لصغير، إنها:
((قصَّة إرهابية مُجندهْ/ يدعونها راشيل / حلت محل أمي الممدده/ في أرض بيارتنا الخضراء في الخليل / أمي أنا الذبيحة المستشهدَه/ أختي التي علقها اليهود في الأصيل / من شعرها الطويل…)).
ولأن الأرض ضيعها الكبار، قادة وزعماء، بهزائمهم، وضيعتها الأمم المتحدة التي ما زالت لحد الآن تبحث في قضيتها، فإن الحل لن يأتي إلا على يد أبناء الأجيال الفلسطينية / العربية الصاعدة، هؤلاء الذين لم يعرفوا الهزيمة والذين تنتظرهم معارك المصير لاسترجاع الأرض، أبناء هذه الأجيال هم الذين يعول عليهم الشاعر رموزا للأمل القادم، وهم حاملو الأمانة والتحرير:
((فليذكرِ الصغار/ العرب الصغار حيث يوجدون/ مَن ولدوا منهم.. ومَن سيولدون / ما قيمة التراب / لأن في انتظارهم/ معركة التراب)).
وقد استمرت استجابة نزار قباني الصادقة للقضايا القومية، فاتسعت عاطفته وكبر قلبه حتى أصبح يضم آمال العرب ويحتضن كفاحهم، ويعبر عن انتصاراتهم ومطامحهم.
فعندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي سنة 1956، وجدناه يكتب شعرا يمجد فيه بطولة المناضلين في “السويس” و”بور سعيد”، وذلك من خلال قصيدته “رسالة جندي في جبهة السويس” التي تعتبر تأريخا فنيا للمعركة، وهو لذلك قسمها إلى أربع رسائل تعبر كل رسالة عن مرحلة من مراحل الكفاح. وقد أرسلت من جندي مصري في جبهة القتال لأبيه، يخبره فيها عن أيام الحرب الأربعة. فيصور معارك البطولة المصرية ضد المعتدين، وقد اتسمت بالبساطة والصدق والتدفق الطبيعي بحيث تصلح حقا رسائل من جندي لو واتته فرصة بين المعارك ليكتبها.
يقول ضمن رسالته الأولى:
((يا والدي! / هذي الحروف الثائره / تأتي إليكَ من السويس / تأتي إليكَ من السويس الصابره / إِني أراها يا أبي، من خندقي، سُفنَ اللصوص / محشودة عند المضيق / هل عاد قطاع الطريق؟ / يتسلقونَ جدارنا… / ويهددون بقاءنا / فبلاد آبائي حريق)).
ثم لا نعجب حين ينتقل الجندي إلى بورسعيد، المدينة الصامدة، وهو يعرف واجبه تماما:
((هذي الرسالةُ، يا أبي، من بورسعيد / أمر جديد../ لكتيبتي الأولى ببدء المعركهْ…/ أنا ذاهب لمهمَّتي / لأَرد قطاع الطريق… وسارقي حرِيتي / لكَ.. للجميع تحيتي)).
ويمضي نحوهم، هو والشعب، في حماسة ويقين، فإذا استبشر بالنصر نفض عن يديه غبار الأسى وكتب بكثير من العزة القومية والفخر العربي:
((الآن أفنينا فلولَ الهابطين / أبتاه، لو شاهدتهم يتساقطون / كثمار مشمشةٍ عجوز / يتساقطون / يتأرجحون / تحت المظلاتِ الطعينةِ / مثل مشنوق تدلى في سكون / وبنادق الشعب العظيم.. تصيدهم / زرقَ العيون…)).
وقد تأكد هذا في اليوم الرابع من أيام المعركة حيث نقرأ الرسالة التي تصور نتائج المعركة النهائية بهزيمة الغازي:
((مات الجراد / أبتاه، ماتت كل أسراب الجراد / لم تبق سيدة، ولا طفل، ولا شيخ قعيد / في الريف، في المدن الكبيرة، في الصعيد / إلا وشارك، يا أبي / في حرق أسراب الجراد / في سحقهِ.. في ذبحه حتى الوريد / هذي الرسالة، يا أبي، من بور سعيد / من حيث تمتزج البطولةُ بالجراح وبالحديد / من مصنع الأبطال، أكتب يا أبي / من بور سعيد…)).
لقد استطاع شاعرنا أن يؤرخ للمعركة في لوحات زخرت بقوة العاطفة وصدقها وعمق الأداء، وعنصر التوصيل؛ كأنه عاش نفس التجربة التي مر بها الجندي المصري الظافر في كل من السويس وبور سعيد وكذا المناضلون الأحرار، وأن يعكس علينا بطولتهم التي أظهروها، ويرسم جوانب من المعركة التي دارت رحاها بين الغزاة المعتدين وبين الأبطال الأشاوس، ويبرز لنا ما حل بالغزاة من هول ورعب وفزع وانهزام، وما انتهت إليه المعركة من نصر مبين حققه المناضلون بإيمانهم وعزيمتهم، وتعلقهم بحب أرضهم الطيبة.
وضمن هذا السياق سعى شاعرنا لتمجيد الثورة الجزائرية بالمغرب العربي، من خلال نضالات المرأة الجزائرية المتمثلة في “جميلة بوحيرد”، الإنسانة العربية العنيدة الثائرة من جبل الأطلس، والتي كتبت في ملحمة الجهاد العربي أروع الأسطر، وقد قدمها كالآتي:
(( الاسم: جميلة بوحيرد / تاريخ.. ترويه بلادي / يحفظهُ بعدي أولادي / تاريخ امرأةٍ من وطني / جلدت مقصلةَ الجلادِ / امرأة دوختِ الشمسا / جرحت أبعاد الأبعادِ / ثائرة من جبل الأطلس / يذكرها الليلك والنرجس / يذكرها.. زهر الكبادِ / ما أصغر (جان داركَ) فرنسا / في جانب (جانْ داركَ) بلادي)).
هذه البطلة الشعبية كانت رمزا من رموز الحرية، هزت ضمير الإنسان في كل أرض، وتحدث الجميع عن بطولاتها، هي التي تحمل جسدها المقيد المكوي بأعقاب سجائر جلاديها، والمدمى كل جزء منه بأثر من سياطهم، بل راحوا يسقونها كؤوس العذاب منوعة قاسية، وعرفت أقسى ما يمكن لإنسان أن يعرفه من العذاب حين ظلت، في السجن الحربي، أياما وأسابيع واقفة بين الحيرة والرجاء واليأس في انتظار ساعة إعدامها، لكن كل هذه المحن كانت والتحرير على موعد:
((يا ربي. هل تحت الكوكب؟/ يوجد إنسان / يرضى أن يأكل.. أن يشرب / من لحم مجَاهِدة تصلَب/… أنثى / .. كالشمعة مصلوبه / القيد يعض على القدمين/ وسجائر تطفَأ في النهدين / ودم في الأنفِ.. وفي الشفتين / وجراح جميلةُ بوحيرد / هي والتحرير على موعد)).
فبالرغم من صنوف التعذيب التي أُنزلت بها، والتي ما كانت إلا لتزيدها صلابة وثباتا على التضحية، فقد انتصرت “جميلة بوحيرد” على الجلاد، وظلت أمثولة وقدوة للنضال الوطني الشعبي حيث كان، ورمزاً للحرية التي عانقتها بفضل نضالات شعبها، فظلت أنشودة صافية من أناشيد الإنسانية الطامحة إلى التحرر.
وتأتي قصيدة “الحب والبترول”/1958، لتتوج أشعار نزار قباني السياسية في مرحلة ما قبل النكسة.
تبدأ القصيدة باستفهام أنثوي حول دعوة “أمير النفط” لامرأة، وكأنها من حريمه، لكنها امرأة تعرف قدسية الحب، وتفهم معنى الكبرياء، وتشعر بلهب الكرامة، من هنا جاء الاستفهام متضمناً معنى الرفض والتمرد، والسخرية من عبدة المال والجاه:
((متى تفهَم؟ / متى يا سيدي تفهم؟ / بأني لست واحدة كغيري من صديقاتك / ولا فتحا نسائيا يضاف إلى فتوحاتك / ولا رقما من الأرقام يعبر في سجلاتك / متى تفهم؟)).
إنها ترفض أن تكون رقما عابرا في سجلات ذلك الأمير ولن تستبدل بالمال وامتيازات الإمارة كرامتها وشرفها الأنثوي:
((متى تفهمْ؟ / بأنك لن تخدرني… بجاهك أو إماراتك…)).
وينفجر الصراع عند هذه المرأة بين الخاص والعام، فتنتقل القصيدة، من ثمة، من المأساة الخاصة لتنفتح على المأساة العامة. فمن امرأة ترفض أن تخضع لمخلوق يسير وراء نزواته وانفعالاته، إلى صرخة الألم تنطلق من أعماقها لتذكّر “أمير النفط” بسوء حاله وهو يبذر ثروة قومه ويهتك شرف أمته، ويمرغ تاريخ شعبه على أقدام المومسات وبنات الهوى، يتناسى تقاليد الرجولة العربية والشرف الموروث، ويئد الثأر العربي وكل المروءات في أحد كهوف الليل الباريسية وكأن لم تغصب القدس ولا دنست بيوت الله وأسكتت شعائره:
((كهوف الليل في باريس.. قد قتلت مروءاتك/ على أقدام مومسةٍ هناك.. دفنت ثاراتك / فبعت القدس.. بعتَ اللهَ… بعتَ رماد أمواتك)).
هي هجائية تنطوي على نقد لاذع وإدانة في وجه بعض الأمراء / الحكام العرب، خلفوا وراء ظهورهم شرفهم ووطنيتهم وإنسانيتهم، المغتالة جميعها، وهو ما يتجلى في مواقفهم السلبية من القضايا العربية الملحة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وفي صمتهم المريب على التجاوزات والجرائم والفواجع والانتهاكات التي تقوم بها إسرائيل في القدس وفي غيرها من المدن الفلسطينية:
((كأن حراب إسرائيل لم تجهض شقيقاتك / ولم تهدم منازلنا.. ولم تحرق مصاحفنا / ولا راياتها ارتفعت على أشلاء راياتك / كأن جميع من صلبوا / على الأشجار.. في يافا.. وفي حيفا / وبئر السبعِ.. ليسوا من سلالاتك / تغوص القدس في دمها / وأنت صريع شهوَاتك / تنام.. كأنما المأساة ليست بعض مأساتك)).
ثم ترفع أمام ذلك الجمل المتخبط علامة استفهام دامية:
((متى يستيقظ الإنسان في ذاتِك؟)).
لكأن نزار قباني كتب هذه القصيدة البديعة هنا والآن.

– 3 –
لقد كانت هزيمة / نكسة يونيو 1967 مفجعة، هزت الناس إلى الأعماق، بأحداثها ومفاجأتها المذهلة، وتركتهم بوجدان مضطرب لا يستطيع أن يعي نفسه، أو يهتدي إلى دليل من حاضره أو ماضيه أو مستقبله.
فانبعث بعض الشعر تلقائيا عقب هذا الحدث، وكان مزيجا من الحزن والإنكار. انطلق كصرخة ألم، معبرا بذلك عن المشاعر العنيفة التي التهبت في صدور الملايين، وقد اتسم بتلقائية الغناء الفطري، تلقائية الجماهير التي رفضت الهزيمة، ومبشرا بالنصر الأخير، لكون هذه الهزيمة، في معتقد أصحابه، ليست نهائية المطاف.
وبموازاة هذا الاتجاه، قامت فئة أخرى من الشعراء، تلت رد فعل اتجاه “الحزن والإنكار”، وإن لم تلغه، إذ واكبت في أحداث السياسة مرحلة من حساب النفس وتصحيح الأخطاء، وفي أحداث الحرب تصاعدا سريعا لأعمال الفدائيين الفلسطينيين. على أن هذه الفئة الغاضبة لم يكن شعرها مجرد انعكاس للتظهير السياسي وأعمال المقاومة، بل الأصح القول إنه كان موازيا لهما، يغذيهما كما يتغذى منهما، وكانت له أصوله الفكرية ووظيفته الوجدانية في تلك المرحلة الخطيرة من حياة الأمة.
أما شاعرنا نزار قباني فقد كان لهذه النكسة المريعة وقعها على نفسه أليما، غيرت لديه كثيرا من القيم والمفاهيم في السياسة، واهتزت ثقته في الرجال الذين كان يعقد عليهم آمالا عريضة، ويراهن على أنهم كانوا يمسكون بأيديهم زمام المستقبل في استرداد الإنسان العربي لكرامته، بيد أن هذه الأحلام والأماني الوطنية / القومية انهارت دفعة واحدة، وأصيب بصدمة قوية اهتز لها وجدانه فولدت لديه الإحساس المرير بالفاجعة والغضب المقدس.
وقد قاده غضبه هذا، إلى التعاطي مع القضايا الوطنية والقومية، بمجموعة من القصائد التي أثارت معها عاصفة من التساؤلات عن انعطافه بتجربته الشعرية انعطافا هاما في اتجاه كتابة القصيدة السياسية ذات المضامين الثورية الغاضبة.
كانت تلك الهزيمة، بالفعل، بمثابة انفجار جديد في شاعريته حيث تحول تحولا مفاجئا ومدهشا من ترجمة هموم معينة تقع في دائرة قضايا المرأة، إلى الكتابة عن الجوانب التي تقع في صميم حياتنا السياسية والاجتماعية، وذلك ضمن جماليته الخاصة والمتفردة.
ومن الملاحظ أن القباني لم يتخل عن جرأته المعهودة. فكان جريئا في شعره السياسي كما كان في غزله. من هنا لاقت أشعاره انتشارا كبيرا، لكونها شكلت متنفسا للمجتمع العربي الذي كان، وما يزال، يعاني من أجواء الإرهاب السلطوي. هذه الأشعار التي ندد فيها بأسباب كوارثنا من علل ساساتنا ومجتمعاتنا.
من هذا المنطلق خرج شاعرنا على ملايين قرائه بقصيدة طويلة، ما نظن أحدا يجهلها، أو يجهل الضجة التي أحدثتها في حينها، هي “هوامش على دفتر النكسة”، التي كانت أحد شواهد تلك المرحلة العنيفة والقاسية والسوداء من تاريخنا المعاصر. كان نزار فيها معبأ بالقهر والغضب والرفض والنقمة المرة على التفسخ الفكري والسياسي والاجتماعي الذي سبق يونيو 67.
وقد اعترف أن النكسة / الهزيمة هي التي حولت مساره الشعري:
((ياوطني الحزين / حولتني بلحظةٍ / من شاعر يكتب شعر الحب والحنين / لشاعر يكتب بالسكين)).
واللحظة التي يعلن نزار فيها هذا التحول المفاجئ والجديد، لا يمكن أن تكون لحظة بالمعنى الزمني لقياسها، لأن الذي رصده في هذه القصيدة من جوانب السلب والاهتراء والتعفن في حياتنا، نستطيع أن نقول إنه انفجر في لحظة من لحظات الإشراق بعد إرهاصات ومخاضات طويلة.
لقد جسدت هذه القصيدة كل ما في الواقع العربي من سلبيات دون الإشارة إلى جانب إيجابي ممكن للجيل الذي حمله الشاعر مسؤولية النكسة أن يفعله. ووضع، من خلالها، يده على أوجاعنا القديمة / الجديدة، وامتلك الشجاعة والكبرياء والمبادرة ليقول ما لم يستطع غيره الإفصاح عنه، بل لم يكن مسموحا له قوله “ما قيمة الشعب الذي ليس له لسان”.
وخلص إلى أن أسباب نكسة العرب هو الاعتماد على التراث القديم البالي، والإيمان بالخرافات، والادعاء الكاذب، والارتجال وعدم الاستعداد، والافتقار إلى الوعي، إضافة إلى الجهل والتخلف.
وهكذا بدأت ملامح الصورة الأولى قاسية مؤلمة فظة حتى في ألفاظها:
((أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمهْ / والكتبَ القديمهْ/ أنعي لكم / كلامَنا المثقوب، كالأحذية القديمهْ / ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمَهْ / أنعي لكم.. أنعي لكم / نهايةَ الفكر الذي قاد إلى الهزيمهْ)).
ومن هذا يظهر أن نزار حمل الفكر مسؤولية العجز بل مسؤولية الهزيمة. وفي المقاطع الأخرى كشف الشاعر الكثير من السلبيات التي تراكمت على الواقع السياسي والاجتماعي والفكري في الوطن العربي كتجسيده للغوغائية الخطابية قبل النكسة التي لم تكن ترتبط بواقع من التعبئة العملية لخوض المعركة:
((إذا خسرنا الحربَ.. لا غرابَهْ / لأننا ندخلها / بكلّ ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه / بالعنتريات التي ما قتلت ذُبابه / لأننا ندخلها / بمنطق الطبلة والربابه)).
كما حمل الشعب العربي بصورة نابضة بالأسى مسؤولية تفريطه بالوحدة وإعطاء الفرصة للعدو للوثوب علينا مشتتين ممزقين:
((لو أننا لم ندفن الوحدة في التراب / لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب/ لو بقيت في داخل العيون والأهداب / لما استباحت جسمنا الكلاب)).
وإذا كان نزار قد حمل الجيل العربي مسؤولية الكارثة في بعض المقاطع، فقد حمل محتكري الثروة في الوطن العربي مسؤوليتهم في عار النكسة:
((كان بوسع نفطنا الدافقِ في الصحاري / أن يستحيل خنجرا / من لهب ونارِ / لكنه.. / واخجلة الأشراف من قريشٍ / وخجلةَ الأحرار من أوسٍ ومن نزارِ / يراق تحت أرجل الجواري…)).
وفي مقطع آخر أعطى للعلاقة بين السلطة والفرد في الوطن العربي صورة حية طالما لمسها المواطن العربي في واقعه السياسي والفكري:
((لو أحد يمنحني الأمان / لو كنت أستطيع أن أقابلَ السلطَان / قلت له: يا سيدي السلطان / كلابك المفترسات مزقت ردائي / ومخبروكَ دائما ورائي / عيونهم ورائي / أنوفهم ورائي / أقدامهم ورائي / كالقَدر المحتوم، كالقضاءِ / يستجوبون زوجتي / ويكتبون عندهم / أسماء أصدقائي…)).
وهذا النقد اللاذع للواقع العربي لم يكتشفه الشاعر بعد النكسة، ولكن النكسة كانت بمثابة الفتيل الذي فجر شحنات السخط التي تجمعت في نفس الشاعر من خلال ثورته الدائبة على الواقع الذي يعيشه وعدم انسجامه مع مجتمعه فكريا وروحيا.
وبهذا المنطق، منطق الانفصام عن واقع المجتمع وتحت ضغط جو النكبة المروع، حكم نزار على جيل بأكمله بالاندحار، وعقد أمل النصر على يد جيل الأطفال العرب الذين لم يلوثهم بعد نفاق الجيل الحاضر، الأطفال الذين اعتبرهم أمل المستقبل ومنقذي تاريخ الأمة من الاحتراق. وجاء هذا التوهج اللاحق في القصيدة الطويلة كأجمل ما تكون النهايات، فنيا، وأبرع ما يكون التخلص من دوامة الحزن واليأس والبكاء:
((يا أيها الأطفال / من المحيط إلى الخليج، أنتم سنابل الآمال/ وأنتمُ الجيل الذي سيكسر الأغلال / ويقتل الأفيون في رؤوسنا / ويقتل الخيال…
لا تقرأوا أخبارَنا / لا تقتفوا آثارَنا / لا تقبلوا أفكارنَا… يا أيها الأطفال.
يا مطرَ الربيع.. يا سنابل الآمال / أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمَهْ/ وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمه)).
بعد هذه القصيدة التي كانت، بلهجتها النقدية الحادة، انعكاسا لردود الفعل اليائسة، وتجسيدا مروعا لسلبيات الواقع العربي التي أنجبت النكسة، وبعد نغمة اليأس القاتلة ونقد الذات بصورة مرة، فقد تغيرت نظرة نزار قباني شيئاً فشيئا في العديد من قصائده التالية، وذلك نتيجة لما بلغه من أعمال بطولية قام بها ذلك الذي يحاول أن يمحو عن جبينه لطخة الهزيمة، إنه الفدائي العربي في أرض فلسطين. فالفدائي أروع رمز لروح المقاومة والصمود العربي. وهو الذي استطاع، في وقت قصير، أن يبشر بالقضاء على آثار الهزيمة في النفوس، وأن يشحن العزائم بطاقات هائلة من الإصرار والتصميم، وأن يرد الأمل بالنصر واسترداد الحق السليب.
ولأن القباني كان في طليعة الشعراء الذين يؤمنون بالعمل المسلح ضد المحتل الصهيوني ويباركه لاسترداد الحق المغتصب، فلم يكن يعترف، من ثمة، بدور المنظمات الدولية كمجلس الأمن أو الأمم المتحدة، وهو محق في ذلك، فكم من قرار صدر عن مجلس الأمن يطالب إسرائيل بالانسحاب من أرض العرب، غير أنه لم يجد أي استجابة منها، لذلك يخاطب الشاعر الفدائيين الأبطال في كل أرجاء فلسطين، وكأنه يتمثل نفسية الجماهير المتعطشة إلى تحقيق النصر، ثم يصوغ هذا التمثل شعرا:
((يا أيها الثوار.. / في القدسٍ، في الخليلٍ / في بيسان، في الأغوار / في بيتِ لحمٍ، حيث كنتم أيها الأحرار / تقدموا../ تقدموا.. / فقصة السلام مسرحيه / والعدل مسرحيه / إلى فلسطين طريق واحد / يمر من فوهة بندقيه)).
وشاعرنا يرى أن الفدائي هو الشاعر الحقيقي الذي ينبغي احترامه وتعظيمه ، إنه وحده الذي يسطر التاريخ الحقيقي للأمة، فما يسجله من بطولات وأعمال جديرة بالاحترام، وهو عندما يجعل بندقيته تعزف لحن التحرير تموت جميع القصائد أمام هذا العزف المنفرد:
((الفدائي وحدَه… يكتب الشعر **

وكل الذي كتبنا هراء

إنه الكاتب الحقيقي للعصر **

ونحن الحجاب والأُجَرَاء

عندما تبدأ البنادق بالعَزف **

(تموت القصائد العصماء).

في الواقع، إن الشعب العربي الفلسطيني لم يضع السلاح طيلة تاريخه الحديث، وانفجاره بعد النكسة ليس فجائيا ولا يمكن تفسيره ميتافيزيقيا. وإذا كانت هناك بعض الأسباب ـ لا داعي للخوض فيها هنا والآن ـ هي التي عوقته عن القيام بدوره في مرحلة ما، فإن التنظيمات الفلسطينية المسلحة، بعد النكسة خاصة، قد عبرت بالصيغة الثورية عن نضالها في سبيل حق شعبها المستباح، و”فتح” امتداد موضوعي، وشكل جديد للثورة المتجددة.
من هنا جاء دعم شاعرنا لمآثر رجال المقاومة المنتمين، على سبيل المثال، إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، هؤلاء الذين سطروا بالدم والرصاص ملحمة البطولة وقدموا أرواحهم قرباناً للمعركة منذ أن أعلنوا ((إن الرصاصَ وحده / لا الصبرَ مفتاح الفَرَج)) فكسروا الخرافة بالحقيقة:
(( يا “فتح” يا شاطئَنا من بعد ما فُقدنا / يا شمسَ نصف الليل، لاحت بعدما ضجرنا / يا رعشةَ الربيع فينا، بعدما يَبسنا / حين قرأنا عنكم كل الذي قرأنا / خمسين قرناَ.. بكم كبرنا)).
تأتي “فتح” لتكون تجسيدا حيا لرغبة الشاعر في تجاوز واقع الركون والانطلاق في طريق الثورة، هو يراها من خلال تكاثر وتدفق الثوار من كل مكان، ومع كل أشياء وعناصر الوطن لتأكيد الانتماء إلى الأرض والهوية:
((مهما هم تأخروا فإنهم يأتون / في حبة الحنطة، أو في حبة الليمون/ يأتونَ في الأشجار، والرياح، والغصون…
مهما هم تأخروا.. فإنهم يأتون / من درب رام الله، أو من جبل الزيتون / يأتون مثل المن والسلوى من السماء / ومن دمى الأطفال، من أساور النساء / ويسكنون الليلَ، والأحجار، والأشياء…)).
ولم يكن شاعرنا لينسى، في هذه الأجواء، “القدس” التي تلتف من حولها القلوب، وتتطلع إليها الأحداق، فيمجد مدينة السلام ومنارة الشرائع، وفي جو من الحزن الذي يخيم على أرجاء القصيدة، يسأل من سينقذها من دنس الصهاينة:
((يا قُدس. يا مدينةَ الأحزان/ يا دمعةً كبيرة تجول في الأجفان / من يوقف العدوان؟/ عليكِ، يا لؤلؤة الأديان / مَن يغسل الدماء عن حجارة الجدران؟/ من ينقذ الإنجيل؟ / من ينقذ القرآن؟ / من ينقذ المسيحَ ممن قتلوا المسيح؟ / من ينقذ الإنسان؟)).
لكن الشاعر لا يستسلم للوعة الحزن والألم، ويظل واثقا بالنصر، متمسكا بالحق، لا يضعف ولا يلين، فيغني مشاعره ويطلق لأحلامه الخيال:
((ياقدسُ. يا مدينتي / يا قدسُ. يا حبيبتي / غدا.. غدا.. سيزهر الليمون / وتفرح السنابل الخضراء والزيتون/ وتضحك العيون / وترجع الحمائم المهاجرَه / إلى السقوف الطاهره / ويرجع الأطفال يلعبون / ويلتقي الآباء والبنون / على رباكِ الزاهرَه / يا بلدي .. / يا بَلَدَ السلام والزيتون)).
وإذا كان الشاعر على وعي، حتما، بأن هذه العودة المأمولة لن تتحقق بين عشية وضحاها، لأن الصراع مع العدو الصهيوني طويل، وهو صراع وجود لا صراع حدود، فإنه يثق، رغم كل هذا، بأن الحق العربي سينتصر في النهاية، من خلال الكفاح الشعبي وقوافل الشهداء:
((نأتي بكوفياتنا البيضاء والسوداء / نرسم فوق جلدكم إشارة الفداء/ من رحم الأيام نأتي كانبثاق الماء / من خيمة الذل التي يعلكها الهواء / من وَجع الحسين نأتي.. من أسى فاطمة الزهراء / من أحد نأتي.. ومن بدرٍ.. ومن أحزان كربلاء / نأتي لكي نصححَ التاريخ والأشياء / ونطمسَ الحروفَ/ في الشوارع العبريةِ الأسماء)).

ـ 4 ـ
لقد أخذ الخطاب السياسي مساحة بارزة في المدونة الشعرية لنزار قباني. فقد كان شاعرنا، بعد هزيمة 67 خاصة، لصيقا بوجدان شعبه وبقضايا وهموم وطنه وأمته. بل إنه كان الشاعر الأكثر جرأة في تناول وطرح كثير من الموضوعات السياسية الساخنة / الملتهبة.
لقد كانت قصائده الصاخبة والغاضبة التي هجت الأنظمة العربية بمثابة الأحداث السياسية التي دخلت التاريخ العربي والذاكرة العربية. ولعل الهزائم العربية المتتالية هي التي دفعته إلى هذه الدرجة من الحدية في الموقف. وهذا الهجاء رأى فيه الإنسان العربي متنفسا، كما رأى في شاعره القباني نائبا عنه، وقائما بالدور المعارض والمأمول لهذه الأنظمة والهاجي لها، وبالتالي التفت حوله جماهير عريضة في العالم العربي، تلك التي وجدت في صوته صوتها الضائع أو المخنوق، وعبر قصائده عبرت عما تكابده من هموم وشجون.
فمن منا استطاع أن يواجه الأمة بذُلِّهَا وهزيمتها، وأن يحفزها على الانتفاض ثانية بعد هزيمة يونيو، مثلما استطاع نزار أن يفعل بها في حزيرانياته؟.
ومن منا استطاع، بشجاعة، أن يصفع المهرولين إلى احتضان الغاصب الصلف العنصري المغتصب للأرض والعرض والشرف والكرامة، ويفتح أعينهم على ما ينتظرهم في نهاية النفق الذي أدخلهم فيه سادة النظام العالمي الجديد؟. قصيدة “المهرولون”، وقد سجل موقفه صراحة ضد التطبيع بكافة أشكاله.
إنه نزار الذي امتلأت نفسه غما على ما أصاب العرب من هزائم، فحاول أن يهجو المنظومات السائدة المتسلطة في الوطن العربي بكل تمظهراتها. قصيدة “متى يعلنون وفاة العرب”.
وهو الذي عايش لحظة بلحظة حرب لبنان شعراً ونثراً “يوميات مدينة كان اسمها بيروت”، المدينة التي أحبها أكثر من غيرها، فكتب على لسانها، وأدان الذين أسهموا في خرابها وقهرها، المدينة التي منحتهم الحرية والمنبر الثقافي. هي التي ترتبط على المستوى الشخصي بالموت المأساوي لزوجته بلقيس تحت أنقاض السفارة العراقية.
هو نفسه الذي تحدث عن الحرية المفقودة في كافة أرجاء الوطن العربي، عن غياب العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، مبينا عواقب امتهان آدمية الإنسان العربي، لأن الفرد المهان لا يصنع تقدما أو نصرا لأمته. قصائد: (هوامش على دفتر النكسة / الخطاب / تقرير سري جداً من بلاد قمعستان).
ومن أبرز القضايا التي استأثرت باهتمامه الكبير القضية الفلسطينية بدءا من نكسة 67، وقد عرضنا لبعض قصائده عنها، إلى مسايرته لحركة انتفاضة الشعب العربي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. كان نزار قباني من أوائل الشعراء الذين امتلأت نفوسهم بالبشرى لتصاعد هذه الانتفاضة. وقد كان تأثيرها عليه صاعقا فأعلن أنه معها ولها يدا ولسانا. وقد دفعت به هذه الانتفاضة إلى كتابة ثلاث قصائد متوالية هي: “أطفال الحجارة” و”الغاضبون” و”دكتوراه شرف في كيمياء الحجر”.
وقد نشرت جميعها في صحف ومجلات كثيرة في العالم العربي، وقام الشاعر بعد ذلك بجمعها في كتاب بعنوان: “ثلاثية أطفال الحجارة”.
من الملاحظ، أخيرا، أن نزار قباني كان شاعرا سياسيا بالمعنى العريض وإن رفض التزام الشاعر بالسياسة بمعناها المذهبي الضيق. هو شاعر سياسي بمعنى أن التزامه الأول لم يكن بحزب أو مذهب سياسي، وإنما بجوهر الثورة وعمق الرؤية المتغلغلة في ضمير الجماهير الشعبية العريضة التي نجد أن القاسم المشترك فيها على امتداد رقعة الوطن العربي، هو رفض الأنظمة التي تاجرت بكل مقدساتها السياسية ودنستها، والوقوف بعزة مع كل لحظات المقاومة ورموزها، ومن رفض الهزيمة إلى الاحتفاء بالمقاومة والاعتزاز بالفدائي الفلسطيني، ومن السخط على الحكام الذين نهبوا ثروات وخيرات الأمة إلى الزراية بالمهرولين المرتمين في أحضان العدو.
والواقع أن شعره السياسي يكشف بعدا آخر في إنجازه الشعري، فهذا العاشق الكبير هجاء كبير لتناقضات الواقع العربي، ورافض كبير لهزائم الخانعين فيه، والهِجاء المر عنده هو الوجه الآخر للحب الرقيق لأنه ينبع هو الآخر من حب عميق لوطنه العربي الكبير، ومن ضيق لا ينفد بمن ينتهكون كرامته.

بقلم: د. حسن الغرفي

Top