منجزات وانتظارات..
بيان اليوم، في إطار تغطيتها ومواكبتها للمناظرة الوطنية للفنون التشكيلية المقامة مؤخرا بمتحف محمد السادس للفن المعاصر بالرباط، اتصلت بعدد من الفنانين والنقاد لاستطلاع آرائهم حول راهن الفن التشكيلي ببلادنا، وطرحت عليهم السؤال التالي:
إذا حاولنا، ولو بعجالة، تشخيص واقع الفنون التشكيلية ببلادنا، إبداعا وتسويقا وتنظيما، ماذا يمكننا أن نسجل على سبيل قراءة بانورامية نقدية واستشرافية لخريطة المشهد التشكيلي الوطني، على صعيد المنجزات والإخفاقات والآفاق…
أحمد فاسي: الفنان في حاجة لدعم مؤسساتي وتشريعي لا لمجرد أغلفة عابرة
خير خاف أن الفن بالمغرب كما في باقي جهات المعمور يعيش حقبة ما بعد النقاهة، بعد فترة فراغ إبان الجائحة، لذا وجب التريث بعض الشيء، في ترقب نتاج المخاض والعمل بجد في آن.
الوضع الحالي للساحة، في اعتقادي، ينبيء بخير من حيث مستوى الإبداع وجرأة جيل يحاور العصر وحتى برامج الذكاء الاصطناعي..
المشكل في سوق الفن هو كيف على المبدع، في بلد به أكثر من 1600 فنان تشكيلي، إن أراد أن يساهم في ترسيخ تقليد العمل الفني بالمنزل، أن يؤمن بمبدأ التنمية المستدامة وأن فنان اليوم يؤسس للمستقبل…
ويبقى سؤال الدعم محيرا. صرحت مرارا أن الفنان في حاجة لدعم مؤسساتي، تشريعي، لا لمجرد أغلفة عابرة للمساهمة في تغطية بعض مصاريف إقامة معرض، وهنا أنوه بالجهد الحاصل والأثر البالغ للجمعيات الفنية والنقابات، لكن لا يكفي تنظيم تظاهرة، يجب تقديم مبادرات ملموسة ومدروسة بالتفاصيل لتسهيل مهمة أصحاب القرار.
اليوم على الساحة الوطنية نسعد بتميز منتدى أصيلة وما يقوم به لصالح الفنان من حيث الإفادة من المحترفات أولا، وإن كانت المعارض تأخذ صبغة عالمية لتأكيد موقع المغرب كملتقى للثقافات. وإن كنا نصبو دوما لإعطاء الفنان المغربي، في كل الجهات الإثني عشر، الاهتمام الذي يستحق في محفل من هذا المستوى.. وهنا لن يفوتني بالمناسبة أن أنوه بتميز نقابة الفنانين التشكيليين المحترفين بتنظيمها لمناظرات وطنية تشكل أرضية للتفكير وبلورة المبادرات بمشاركة فسيفساء من نقاد وفنانين، ومهندسين معماريين، وأرباب قاعات العروض ووسطاء ثقافيين .
لكن ثمة حلول متوخاة لترسيخ مكانة الفن في النموذج التنموي الجديد وإعادة النظر، كما أسلفت، في تنزيل الدعم ليصبح موسساتيا، تشريعيا، من قبيل تفعيل مسالة نسبة الدعم في كل الجهات، ومختلف أجناس الإبداع الفني دونما ميز أو تفضيل جنس إبداعي على آخر. ولم لا تنطيم اسبوع العمل الفني في كل جهة وبشكل يرقي لتنشيط الحركة الفنية، وتقريب الفن من المواطن..
ثم كفى من تواجد ساحات عمومية جرداء وكأن المغرب أرض خلت من الفنانين، إلا ما ندر… لم لا تزين أماكن عمومية أخرى وما أكثرها، بمنحوتات تجريدية أو تشخيصية صونا للذاكرة الفنية و/أو انفتاح على تقنيات الفن المعاصر من منشآت وإبداعات بالأضواء و/أو مصاحبة بالموسيقى وما إلى ذلك ؟
المغرب أصبح وجهة عالمية بدليل إقبال منقطع النظير لسياح من كل الأطياف، لكن ونحن عازمون على تنظيم تظاهرات رياضية عالمية كبرى لأننا بلد كرة القدم بامتياز، لم لا نؤكد، كما صرحت خلال محاضرتي بالمناظرة، أهليتنا لنرسخ في الأذهان أننا وطن فن بامتياز، وقد سبق وأن صرحت خلال محاضرة سابقة لي بالمعهد الفرنسي حول غنى الموسيقى المغربية، صرحت للغرب بلغة موليير أن المملكة المغربية قوة تراثية، فلنثبت ذلك بالإفادة إبداعيا من الموروث والانفتاح على المحيط و المستقبل.
***
شفيق الزوكاري: واقع التشكيل المغربي بين الحضور والإخفاق
من الصعب الحديث عن واقع التشكيل المغربي من زاوية أحادية، لأن التراكم الإبداعي في هذا المجال يحتاج إلى تكتل جميع الجهود للمؤسسات والأفراد المعنيين بالأمر، خاصة وأن هناك تجاوزا إنتاجيا مقابل قلة في مسايرة هذه الإنتاجات على مستوى النقد الفني لفرز اللائق من غير اللائق، وتحسين الظروف الصحية لكل هذا التراكم كما هو عليه الحال بالنسبة للأدب؛ هذا من ناحية.
أما من الناحية الأخرى، فإن العملية التنظيمية في مجال التشكيل لا زالت تعرف تعثرات بسبب انقسام الفنانين التشكيليين المغاربة، الذين لم يسعفهم الحظ في اتخاذ قرارات جريئة ضمن سياق الإعلان عن مواقفهم النضالية ليس من الجانب السياسي بل الاجتماعي، رغم وجود نقابات تحملت مسؤولية الدفاع عن حقوق الفنانين الذين يعيشون في وضعية هشة كهدف له أولوية بمنحى عن تنظيم معارض أو ندوات أو مناظرات التي يمكن اعتبارها في الدرجة الثانية.
واقع الفنون التشكيلية مرتبط بمسؤولية الفنانين أنفسهم إلى جانب الأروقة والجماعين، والمؤسسات الداعمة.. وبدون تكتل الجهود بين كل الأطراف يصعب تقويم هذا القطاع خاصة وأنه عرف عددا من التجاوزات على المستوى القانوني فيما يتعلق، مثلا، بمسألة التزوير، خاصة في أعمال الراحلين من الفنانين، ولذلك وجب الاهتمام بالأحياء قبل الأموات، وهذه من أهم القضايا التي تطرح نفسها بحدة في الوقت الراهن، لأنها تشكل أزمة فعلية لضمان السيرورة الإبداعية للأحياء وللشباب كرهان على المستقبل، كقضية كان من الواجب والضروري مناقشتها في المناظرة الوطنية التي أقيمت مؤخرا بالؤباط، إلى جانب قضايا أخرى لها صلة بالوضعية المادية والاجتماعية كما ذكرنا سالفا، مع إنزال التوصيات إلى أرض الواقع، وتحديد موضوع محدد للنقاش عوض الحديث عن مواضيع متشعبة، خارجة عن صرب اهتمامات الفنانين الأساسية التي تمت بصلة لقضاياهم الحقيقة.
* فنان تشكيلي وناقد فني
***
حليمة الفراتي: سؤال الإبداع يطرح بحدة أمام هجوم الرقمنة..
مع الانتشار الشاسع الذي حققه الفن التشكيلي ببلادنا، يمكن القول بأن الفن التشكيلي صار يعد من الركائز الأساسية في الثقافة المغربية .
وإذا كان الفن وسيلة فريدة لإبراز مهارات الإنسان وقدرته على التخيل والإبداع، وعلى حسن بلورة أفكاره وتنمية قدراته وإنتاجه البشري رغم الإكراهات التي قد يواجهها؛ فإن الفنان، باعتباره كائنا مختلفا عن سائر الناس، يستطيع إدراك كنه الأشياء بعقله وذوقه وملكته الخلاقة، ولكن أيضا بأحاسيسه وروحه المنجذبة دوما للجمال والابتكار.. من ثمة يمكن اعتبار الفنان فيلسوفا يحمل حمولات ثقافية وجمالية تقوده لتملك وجهة نظر حول العالم والحياة…
إلا أنه الوقت الراهن، يعرف المشهد الرقمي والذكاء الاصطناعي في العالم تطورا هائلا في مختلف المجالات العلمية، وسرعان ما اقتحم المجال الإبداعي والفني.. حتى برز تيار من أحداث المدارس الفنية والتيارات المعاصرة الناتجة عن الثقافة الرقمية الحديثة التي أصبحت تغزو حياة الإنسان، فصارت المادة العضوية وجسد الإنسان بمثابة مواد خام للفن الحديث، فغيرت طريقة التفاعل بين الناس مع بعضهم البعض، وتغيرت أيضا الطريقة التي يتلقون بها الأفكار والتجارب والأحداث.. وقد استقبل هذا الصنف من الفنون باحتفاء كبير ودعم تام من المتاحف العالمية الكبرى. وعند دخول هذا التيار التكنولوجي والبيتوكولوجي يمكن القول إنه ستهيمن المنافسة بين الفنان والآلة، ونصبح أمام تساؤلات وإشكاليات مطروحة بالنسبة للفنان التشكيلي، هل يعتبر الرسم الرقمي إبداعا فنيا أم أنه مجرد استعراض لخبرة علمية ومعرفة ببرنامج التصميم لا صلة له بالإبداع؟
وهل تلغي الوسائط الرقمية الاتصال الشعوري بين الفنان وبين التفكير والأحاسيس؟ .
***
ابراهيم الحيسن: التشكيل في المغرب بحاجة إلى المزيد من الرعاية والاهتمام
لا ينفصل الفن التشكيلي في المغرب عن التجربة الفنية العربية التي لا تزال في عموميتها محكومة بنسقية جمالية بحاجة إلى المزيد من الجهد والاشتغال وبحاجة أيضاً إلى الاستقلالية الإبداعية. لذلك لم يكن سهلاً بروز هذه التجربة في ضوء الفن الراهن بما أفرزه من تجارب وتيارات فنية طارئة قلبت موازين الفن وأعادت الأسئلة من جديد حول جدوى الفن اليوم.
وصلة بظروف البداية والنشأة، لعبت نخبة من المبدعين المغاربة المؤسِّسين دور الريادة حيث كان لهم سبق الممارسة والبروز على المستوى العربي والقاري، شاهد ذلك المعارض والصالونات والملتقيات الفنية التي تألق فيها التشكيلي المغربي مع ما صاحب ذلك من إعجاب وكتابات لنقاد وكتاب عالميين معروفين. وقد سمح هذا الوضع – عقب الانشغال بأسئلة الهوية والذات – بالحديث عن بداية الحداثة الفنية في التجربة المغربية التي ارتبطت بظهور فنانين أغلبهم تلقوا تكويناً فنياً بالمدارس الأوروبية. وقد عقب ذلك تجارب تشكيلية مغربية مهمة لفناني الرعيل الثاني والمخضرمين وجيل الثمانينيات والتي شكلت امتداداً لتجارب فنية عالمية، أوروبية وأمريكية، لها سياقاتها التاريخية ومرجعياتها البصرية الخاصة وظروف نشأتها التي قعدت لظهورها.
نضيف إلى ذلك وجود تجارب فنية أخرى معاصرة متباينة، وإن كانت قليلة، لمبدعين شباب يعجون بالحيوية ويسعون إلى إثبات الذات وفرض الشخصية الإبداعية في مجموعة من الصنوف والتعبيرات التشكيلية الجديدة والوافدة.
لكن، ورغم مجموعة من الجهود المبذولة فردياً ومؤسساتياً والتي لا يمكن نكرانها أو تجاوزها، فإن الممارسة التشكيلية في المغرب لا تزال بحاجة إلى المزيد من الدعم والرعاية والاهتمام لتكون أكثر إنتاجية وقادرة بالفعل على المنافسة العالمية وتجاوز الوضع المحلي الذي يفتقر إلى سوق فنية دينامية منتظمة، وضع يقل فيه التأطير وسبل التزود بالمعرفة الفنية الكافية إبداعياً وأكاديمياً، إلى جانب ندرة وهشاشة البنيات التحتية الفنية، فضلاً عن ضعف الدرس الجمالي بالمدرسة المغربية في مختلف الأسلاك التعليمية، دون الحديث عن ضرورة إشراك الفنانين التشكيليين المؤهلين في تدبير المشاريع الفنية والتصاميم الإبداعية والجماليات المرتبطة بسياسات الإسكان والتهيئة الحضرية..
***
رشيد فاسح: في الحاجة إلى مدارس جهوية قادرة على تكوين أجيال من الفنانين المهنيين القادرين على الإبداع والخلق والاستمرارية..
للأسف الشديد المشهد التشكيلي تطبعه العشوائية في التنظيم والممارسة، والنرجسية في التسويق والترامي على المجال من طرف كل من هب وذب، حتى صارت الأمور مؤخرا لا تبشر بخير.. وما كان يعرفه المجال التشكيلي من نقاش نقابي، وتدافع جدي، وروئ وسجال فلسفي علمي وإبداعي رصين، ذهب أدارج الريح، حيث أصبحت رقاب الفنانات والفنانين تحت رحمة أرباب الأروقة الخاصة فيما يشبه الاستعباد والعبودية الجديدة..
والعمل الإبداعي اليوم لا تحكمه مواكبة نقدية جدية بقدرما تلتصق به بعض الانطباعات الخاصة المتسمة بالمحاباة والمجاملة، وغزل كلمات فرنكوقونية مغلفة بمصطلحات تشكيلية حداثية، أو من معجم تاريخ الفن مستقاة من معارف مغلفة بجهل الجمهور، مع اختفاء وتواري وصمت النقاد الحقيقيين الذين يقتفون مسار الممارسة الإبداعية التشكيلية بحياد ومهنية أكاديمية، وبالمقابل نشأت ظاهرة تهافت كتاب مقالات تحت الطلب..
لا يخفى على أحد اليوم أن المشهد التشكيلي صار موسوما بمشاكل جمة.. والفنانون التشكيليون، بسبب إفراطهم النرجسي، اتسعت لديهم رقعة الفردانية والذاتية، إلى حد أنهم لا يلتفتون لمشاكلهم الجماعية كباقي المجالات الفنية الأخرى..
لهذا فالمشهد التشكيلي اليوم يطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى انخراطه في دينامية تسويقية تحترم حقوق الفنان من طرف صالات العرض الخاصة والأروقة العمومية، وتحترم العقود والالتزامات وفق قانون الفنان والمهن الفنية، وتساهم في تطوير الممارسة إبداعا وبحثا ونقدا..
وهذه مناسبة لنشير إلى أن الدعم الموجه للفنان التشكيلي يجب آن ينتصر للممارسة التشكيلية الإبداعية المستمرة، وكذلك الشأن بالنسبة للتكوين الأكاديمي الذي يتعين أن يوكل للباحثين والدكاترة في مجالات الفنون القادرين على خلق أجيال من المهتمين بتطوير التراث المادي التاريخي الوطني في بعده الإبداعي والجمالي، والقادرين على تكوين أجيال من الفنانين المهنيين القادرين على الإبداع والخلق والاستمرارية.. مع ضرورة العناية أيضا بالدرس الجمالي والفني النظري والتطبيقي الذي ينبغي أن يلقن للتلاميذ وفق قواعد فنية َجمالية تخلق أجيال جديدة وقادرة علي تطوير الفنون الأصيلة.. اليوم هنالك دعوة صريحة وملحة من أجل إحداث مدارس الفنون الجميلة بكل جهات المملكة الإثني عشر، وإنشاء مؤسسات تفتح فني بكل مديريات التعليم بالمملكة، وخلق كليات الفنون بكل الجامعات المغربية، وإنشاء متاحف جهوية تحتضن أعمال فنانات وفناني الجهات، مع الانفتاح على القطاع السياحي وقطاع الصناعة التقليدية، وضرورة تشجيع الإدارات والمصالح الرسمية للدولة، والجامعات والمتاحف والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على اقتناء الأعمال الفنية بشكل شفاف ومحفز..
***
عبد الكريم الأزهر: الواقع التشكيلي المغربي.. ثمة خلل ما..
الواقع التشكيلي المغربي له أهمية خاصة، بحكم أنه يتميز بتراكم إبداعي مختلف بتنوعاته، من حيث المدارس والاتجاهات بأبعاد جمالية. ساهم فيها الرواد وطورها المتعاقبون من الأجيال بتراكم أعطى بعدا حداثيا نعتز به، لكن ورغم ذلك فهناك تعثر وتدبدب يحدث خللا في استمرارية التطور بشكل طبيعي، حيث أن المجهودات فردية وغير مستقرة، فقليلا ما نجد انسجاما جماعيا في مبادرات تظهر مجموعات لها قاسم مشترك، مثل “السمبوززوم” وغيرها. إذن فالمطلوب هو العمل بجدية، ومسؤولية من طرف متخصصين للإحاطة بجميع الجوانب، فالكل يتفق بأن ليس هناك تواصل حقيقي نظرا لوجود أقلية تمارس بثقة وثبات. وأعتقد أن الدور يتحمله طاقم مسؤول: التشكيلي، الناقد، مسيري القاعات، الإعلام، أجهزة التربية والثقافة الشبيبية.
الفنان التشكيلي يتحمل المسؤولية الأولى بإنجازه لإبداعات تحقق المبتغى التشكيلي بحلة إبداعية جديدة ومتطورة.
الناقد: يتطلب أن يكون وسيطا بنقد بناء يثير ما يمكن إثارته أو يوضح ويقترح تصوراته بتحاليل هادفة.
مسيرو القاعات: مهمتهم الانتقاء لأعمال جادة توافق مشروعهم ومنهجهم حسب تخصص القاعة. مع وضع برنامج سنوي، إضافة إلى ذلك، ضرورة توفير مستلزمات العرض للاختبار والتسهيل للمهتمين والمتتبعين.
الإعلام: مثلما نجد المتخصصين في مجال الرياضة يجب أن يكون كذلك متخصصون مواكبون في التشكيل بالبحث عن المصادر من الفنان، الناقد، المهتم، حتى يكون التبليغ في أحسن حلة.
التعليم: يتطلب منهاجا خاصا من طرف متخصصين ينطلق أساسا من التعليم الأولي.
الثقافة: دورها الرعاية عن طريق مندوبياتها، وذلك بإقامة معارض وندوات وعروض مع الإعداد لنشرات ومجلات وكاتلوگات، ثم التوثيق واقتناء لأهم المنتجات.
الشبيبة: علينا أن نساعدها لصقل المواهب تحت إشراف أطر أكفاء. ونفس الدور ينطبق أيضا على الجماعات والمؤسسات والجمعيات كل حسب قدراته..
***
مبارك حسني : تحديات ملحّة يجب التغلب عليها
سؤال التواجد في حالة الفنون التشكيلية المغربية، كواقع إبداعي فعلي، لم يعد يُطرح، وهذا أمر لابد من الإشارة إليه، لأنه يتضمن اعترافًا كاملًا بما قدمته أجيال عدة من الفنانين: فطريّو الهوى، أو عصاميون، أو موهوبون، أو خريجو مدرستي الفنون بالدار البيضاء أو تطوان، أو من ناشئة بيئات حضرية حاضنة (الصويرة، مراكش…).
لقد لعب هؤلاء، بشكل فردي، مع كثير من المكابدة والإصرار، دورًا حاسمًا. فلم تكن الأحوال المغربية قبل عقود قليلة ترى في اللوحة والمنحوتة ضرورة إمتاعية أو ثقافية أو معرفية.
وقد شهد الوضع الحالي تطورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، تميز بالحيوية والزخم والاعتراف. انبثقت سمات فنية ذات هوية بصرية مغربية لا تخطئها العين، تغذي مضامينها وموادها من الجغرافيا، واللغات، والثقافة المتنوعة، والحِرف، والعادات المختلفة. وإلى جانبها، وأحيانًا مندمجة معها، ظهرت سمات فنية تتفاعل مع ما يُبدَع على المستوى الجغرافي القريب أو العالمي. وهناك انخراط كبير في المعاصرة، متماشٍ مع كل الثورات والمستجدات التي تجاوزت المفاهيم الكلاسيكية للفن التشكيلي.
كل هذا إيجابي، وله بعض المتاحف التي تظهره، وأروقة ومعارض وصالات تروّجه بقدر ما هو ممكن. لكن هذا الواقع جلب معه تحديات ملحّة يجب التغلب عليها. وما استعمالنا لكلمة “بعض” ببريء، إذ إن العوائق عديدة، تحول دون استنهاض قوي وحضور حقيقي مستمر.
هناك نقص في التمويل: فعلى الرغم مما يُقدّم رسميًا، يواجه الفنانون والمؤسسات في كثير من الأحيان نقصًا في الدعم المالي. كما يعاني القطاع من انعدام شبه كامل لسوق فن منظمة؛ وما يوجد هنا وهناك لا يعدو أن يكون بيعًا واقتناءً وترويجًا هاويًا وغير مستقر. هذا بالإضافة إلى تحديات لها صلة بالتنظيم والشفافية والاعتناق التام والمنزّه لقضية الفن بما هو فن.
توجد تحديات أخرى تتعلق بضرورة السعي إلى فرض الدرس الفني على جميع الأصعدة في المؤسسات التعليمية، ونشر الثقافة الفنية إعلاميًا ونقديًا وجماهيريًا، بشتى الوسائل الممكنة. فلا تنمية حقيقية بدون نهضة فنية.
***
فيصل بنكيران : الفن التشكيلي المغربي.. مفاقة بين وفرة الإنتاج وضعف التسويق
أصبح المغاربة، خلال السنوات الأخيرة، أكثر اهتماما بتعلم فن الرسم والإلمام بأبسط تقنياته وقواعده. ولا شك في أنه أمر سيسمح بتربية الحس الفني التشكيلي لدى المتلقي المغربي، وخلق جيل جديد متشبع بالثقافة الفنية قادر على الإبداع والابتكار.
وبالعودة إلى التاريخ، فقد عرف المغرب نشأة مؤسستين للتكوين في هذا المجال حققتا ثورة في ميدان الفن التشكيلي المغربي، ونخص بالذكر مدرسة الفنون الجميلة بتطوان (1945) ثم مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء (1952) اللتين تخرجت بفضلهما أفواج من الفنانين التشكيلين المغاربة. هكذا، عرفت هاتان المدرستان تطورا أكاديميا بحيث أصبح للمتعلمين الحق في مواصلة الدراسات العليا في الفنون التشكيلية. وهو أمر سيسمح بتنمية هذا المجال، والدفع به نحو الإبداع وخلق عقول مبتكرة تسعى إلى معالجة إشكاليات عويصة انطلاقا من أعمالها الفنية.
أيضا، أصبح الفنان أكثر تحررا بفضل العولمة، وإن كانت هذه الأخيرة سيفا ذا حدين، فهي قد تخدمه وتفتح له المجال للإبداع وتدفع بموروثه الثقافي نحو العالمية، كما أنها قد تقضي عليه وتقبره دون أن تدع له المجال للابتكار. وهو ما يسقط الفنان في بعض الأحيان في النمطية وتكرار أعمال فنية سبق وأن عرفها المشهد الفني التشكيلي العالمي.
وأمام اتفاق العديد من المهتمين على ازدهار هذا المجال، من حيث إنتاج الأعمال التشكيلية بالمغرب وبروز أسماء جديدة من الفنانين باختلاف أساليبهم، تبرز إشكالية تسويق هذه الأعمال وغياب قوانين ضابطة تحمي الملكية الفكرية للفنان. أيضا، هناك تجارة اللوحات التي تعرف تقاعسا وضعفا وهو ما يرجعه البعض إلى ضعف القدرة الشرائية للمغاربة أو إلى عدم معرفتهم وإغفالهم للقيمة الفنية للعمل التشكيلي.
كل ذلك لا يدع مجالا للشك أن الفاعلين في هذا المجال يعملون بجد وثبات من أجل النهوض والارتقاء به إلى العالمية.
* فنان تشكيلي
***
يوسف سعدون : تجاذبات التشكيل المغربي
الحديث عن واقع الفنون التشكيلية بالمغرب يتطلب منا استحضار الثورة التكنولوجية والرقمية التي يعرفها العالم، حيث أصبحت الصورة سيدة الموقف على مستوى التواصل والتأثير الجمالي. كما أن الذكاء الاصطناعي فرض تحديات كبرى أمام الفنان التشكيلي وصار يحتم عليه تطوير أدواته الفنية من أجل المواكبة وموازاة هذه الثورة الرقمية. وبديهي أن تؤثر هذه العوامل في وضعية التشكيل المغربي في ظل نقص الثقافة البصرية التي يعاني منها المتلقي المغربي، نقص تتوزع أسبابه بين تقهقر التعليم الفني بالمؤسسات التعليمية وغياب امتدادات له في الجامعات من خلال كليات للفنون الجميلة وتقاعس الإعلام في نشر الثقافة الجمالية وعوامل أخرى لا مجال للتفصيل فبها. ومع كل هذا لابد لنا أن نسجل أن الفن التشكيلي المغربي يعرف تراكما وتنوعا على مستوى العطاء، لكن دون أن يكون هذا العطاء مواكبا من طرف حركة نقدية أكاديمية، فجل الأقلام النقدية بتنوعاتها المرجعية هي اجتهادات فردية ليس إلا وتحاول قدر الإمكان ملء الفراغ في هذا المجال.
أما عن ماهية الممارسة التشكيلية فهي معروفة بتنوع الاتجاهات والمدارس، وفي ظل هذا التنوع لابد من الإشارة إلى تلك الضبابية التي تسود ماهية الفن الحديث والفن المعاصر، مما يطرح تحديات أخرى أمام الفعل النقدي عندنا من أجل إزاحة هذا الضباب. وبذكرنا للفن المعاصر بالمغرب فلابد لنا أن نسجل أنه يعيش حالة من الاغتراب نظرا لكونه لازال في طور التجريب ولم يؤسس لنفسه تراكما يدخله مرحلة التأسيس. في حين أن سوق الفن يعرف فوضى عارمة ضحيتها الأولى الفنان التشكيلي الذي يعاني من حيف شروط الاقتناء التي يفرضها مجموعة من المنتفعين (ذاتيين وسماسرة وأصحاب أروقة) والذين يتحكمون في أنشطة هذا السوق ويرسمون في بعض الأحيان معالم التشكيل المغربي من خلال تشجيع توجه فني ما على حساب توجه آخر.
ويبقى الفنان المغربي مناضلا في الساحة الفنية ومعتمدا على ذاته في غياب دعم مؤسس من طرف الجهات الرسمية أو بعض المؤسسات الاقتصادية والإعلامية والتي غالبا ما تنهج أسلوب الزبونية ولو على حساب العطاء الفني الجاد. لهذا صار لزاما على مسؤولي الشأن العام إعادة النظر في السياسة الثقافية بالبلاد وإخراجها من واقعها البئيس عبر اعتبار قطاع الثقافة والفن قطاع منتج يساهم في النهوض الحضاري للبلاد عبر تجلياته الفنية والثقافية والجمالية. وكذا توفير البنيات التحتية للممارسة الفنية ونشر ثقافة الجمال من خلال سياسة جهوية تعمل على تعميم الفعل الفني عبر أرجاء التراب الوطني، ولن يتحقق هذا إلا بتعميم قاعات العرض والأروقة والمعاهد الفنية والمتاحف عبر كل الجهات. كما يجب الاهتمام بالجانب الاجتماعي للفنان المغربي حتى يعيش في ظروف مناسبة تؤمن له شروط العيش الكريم.
***
د. عبد الله الشيخ : في الحاجة إلى التوفيق بين العرض الإبداعي والتلقي النقدي
في ضوء قراءة بانورامية حول خرائطية الفن التشكيلي المعاصر بكل تشعباتها الأسلوبية والرؤيوية، تطالعنا إلى جانب إشكالية الإنتاج والدعم والتسويق والتثمين إشكالية النقد الفني ورهانات متابعاته بمختلف زوايا نظرها ومناهج تلقيها.
لا جدال في كون المشهد التشكيلي المغربي حافلا بالأعمال الإبداعية الحديثة والمعاصرة معا، محققا بذلك رهاناته الكمية والنوعية، لكن في مقابل ذلك، نلاحظ، جليا، المتابعة الجزئية وغير المنتظمة لمستجداته العامة، مما يستلزم حتما التوفيق بين العرض الإبداعي والتلقي النقدي في إطار ما يستدعيه مشروع إرساء دعائم الثقافة البصرية والتربية الجمالية. يقول أوليغ غرابار حول الناقد: “كل شخص حر في تأويل الأعمال الفنية حسب حاجته الثقافية والجمالية والانفعالية وحتى الوطنية والإثنية. يتميز هذا الخطاب غالبا بالنبرة الخاصة للمتكلم أو الكاتب، والأثر الفني يغيب في بعض الأحيان خلف خطابة هذا المتكلم، لكن لا ينسحب عنه أبدا، فكل أثر فني يتصور ويحيى من خلال تجربة المتكلم”.
إن النقد الفني عموما، والنقد التشكيلي خصوصا، إضاءة للأثر الفني بنصوصه الوصفية والتحليلية والتأويلية، حيث يجعله بتعبير أمبرتو إيكو أثرا مفتوحا على عدة مقاربات وقراءات، خصوصا مع تعدد الاتجاهات الإبداعية وتنوعها.. في هذا الباب، لابد من الإشادة ببعض نماذج النقد التشكيلي المتداول داخل الأوساط المغربية المعاصرة التي حاولت صياغة وسبك خطاب مواز لأبرز التجارب الإبداعية بمختلف مواقعها الجغرافية، وانتماءاتها الثقافية، ومغامراتها البصرية.
لا يمكن الحديث عن النقد التشكيلي بدون الحديث عن المجهود العلمي والبيداغوجي الذي بذله الناقد والفنان المبدع الحيسن ابراهيم على مستوى الحفر في آليات التلقي التشكيلي والجمالي. من جهته، يقترح الناقد بنيونس عميروش على أنظار متلقي الحركة التشكيلية المغربية المعاصرة قراءة بصيغة الجمع تشكل، بتعبير الباحث حسن المنيعي، إضافة ثمينة إلى خزانة النقد الفني. فالمجهودات القرائية التي قام بها هذان الباحثان إلى جانب إدريس كثير ومحمد الشيكر وبوجمعة أشفري وشفيق الزكاري وعزوز تنيفس ومصطفى الشباك وأحمد الفاسي وجمال بوسحابة ويوسف وهبون ومحمد الراشدي وعزام مدكور والطيب حديفة ومحمد أمسكان وحسن لغدش وجعفر عاقل )دون أن نغفل طبعا مجهودات الأقلام الغربية كغاستون ديل وجورج بوداي وموريس آراما وبيير غاسيي وجاكلين برودسكيس وطوني ماريني وألان فلامون ونيكول دو بونتشارا وجون فرنسوا كليمون، وكذا ممارسي الكتابة حول الفن أمثال عبد الكبير الخطيبي ومصطفى القصري ومحمد السجلماسي وعبد السلام بوطالب وعبد الله الستوكي ومحمد الطنجاوي وخليل المرابط ومحمد خير الدين وإدمون عمران المالح ومحمد بنيس ومصطفى النيسابوري والطاهر بن جلون وحسن المنيعي وإدريس الخوري وحسن نجمي وإدريس السلاوي وعبد القادر مانا وزهرة الزيراوي وفاتن صفي الدين ومحمد كريش وحسان بورقية وعزيز أزغاي وشرف الدين ماجدولين ونور الدين فاتحي ورشيد الحاحي وعز الدين بوركة ومبارك حسني وغيرهم)، هذه المجهودات تجعلنا نؤكد بأن بناء لغة نقدية قابلة لمعانقة تحولات الفعل التشكيلي والبصري لم يعد أمرا متلعثما مع وتيرة التطورات المتنازعة التي تعرفها حركية الفنون المعاصرة.
***
محمد معتصم : ضرورة رعاية الوضع الاعتباري والاجتماعي للفنان
لعل المهتمين والمتتبعين والمنشغلين بالفنون التشكيلية المغربية، يقفون بالتحليل والنقاش والنقد والمتابعة لما حققته لصالح الفنان أشغال وتوصيات المناظرة الأولى، أو ما ينتظر من الدورة الثانية التي احتضن أشغالها مؤخرا متحف محمد السادس بالرباط، والتي كانت من تنظيم النقابة المغربية للفنانين التشكيليين المحترفين.
بكل تأكيد هناك توصيات مهمة أنجزت على أرض الواقع، كالمصادقة على مرسوم جائزة وطنية للفنون التشكيلية، وتعميم الأروقة في بعض المدن المغربية، وإنشاء بعض المعاهد، إضافة إلى حقوق المؤلف والحقوق المجاورة وحق التتبع الذي نظمت بخصوصه فرق المعارضة بالبرلمان يوما دراسيا مهما …
إضافة إلى انجاز توصيات أخرى يمكنها الإجابة عن انتظارات الفنان الكثيرة والمستحقة.
بالرجوع إلى واقع الفن التشكيلي المغربي يمكن القول إنه بخير ويتطلع إلى المزيد من التطور والاشتغال والبحث، من خلال المعارض التي تحتضنها العديد من المدن المغربية، إضافة إلى كثير من المعارض الفردية المتميزة وانخراط الفنانين الشباب ببصمة فنية راقية.
كما لا ننسى المواكبة النقدية المهمة لبعض الأعمال الصباغية المتميزة من قبل نقاد متميزين. هذا لا يمنع من الجهر بكثير من الحقوق التي ينتظرها الفنان التشكيلي المغربي من بينها رعاية الوضع الاعتباري والاجتماعي للفنان. صيانة كرامته وإنسانيته، تمكينه من الخبرة، والتسويق الفني، وبيداغوجيات التكوين الفني، إلى جانب توفير بنيات تحتية فنية ودعم المبادرات والتظاهرات ذات البعد التكويني والإنساني والثقافي…
على العموم، واقع الفن التشكيلي المغربي هو واقع الفنان ذاته؛ كلما اعتنينا بأحوال الفنان وبواقعه وحققنا انتظاراته ومكناه من كل متطلباته، كلما انتظرنا فنا راقيا وأفقا جماليا مهما… وهذا ليس بصعب على المؤسسات وكل المتدخلين في مجال الفن التشكيلي بمختلف اختصاصاتهم ومجالات تدخلهم .
<إعداد: سارة صبري