أكبر من تعنت وزير…

الجدل الذي يرافق الخطوة التشريعية للحكومة بشأن مستقبل المجلس الوطني للصحافة ليس سجالا قطاعيا وسط»قبيلة» الصحفيين فيما بينهم، ولكن الأمر أكبر من ذلك بكثير، ويتعلق بالإصرار على خرق القانون واللامبالاة بأحكام الدستور وعدم الإجتهاد في إيجاد الحلول التي تحفظ للبلاد مكتسباتها الديموقراطية وتطور ديناميات الإصلاح فيها.
الأمر اليوم يضعنا أمام سلوك حكومي عام، وما يقترفه وزير التواصل اليوم هو تجسيد له وتعبير عنه، ولهذا يجب طرح الظاهرة في مستوى أكبر من الحديث فقط عن الصحافة أو عن مؤسسة التنظيم الذاتي للمهنة.
يتعلق الأمر بغياب التفاعل والحوار من لدن الحكومة مع الآراء المختلفة ومع المعارضة، وهي لا تنصت، كما يفعل وزير التواصل اليوم، إلا لنفسها ولمؤيديها، ولا تقبل أي رأي معارض، مهما كان رصينا ورزينا وهادئا.
في موضوع مشروع قانون اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر، تابعنا مواقف وتصريحات خمس وزراء اتصال سابقين من أحزاب وخلفيات متعددة اتفقوا على رفض الخطوة الحكومية الحالية وأدانوا انحرافها وخرقها للقانون ولروح الفصل 28 من الدستور، وسمعنا أصوات، ولو خجولة، من داخل تحالف الأغلبية تعبر عن عدم اتفاق واضح مع ما يقوله وزير القطاع، وتابعنا استنكارا واسعا للأمر من لدن المهنيين، وفي الأوساط الحقوقية والسياسية والمجتمعية، وتشكل، بذلك، رفض مجتمعي واسع للقرار الحكومي، ورغم كل ذلك لم يبد وزير القطاع أي اهتمام، ولم يسع لأي تفاعل ايجابي مع الآراء المختلفة، واستمر في تعنته، ولم يتردد في اعتبار الرفض المجتمعي والمهني الواسع مجرد تسييس للموضوع، بل ذهب حد اتهام من يعارضه بأنه لم يقدم بديلا، وكأن لسان حاله يقول: اتركوني أخرق القانون والدستور لأنكم لم تعطوني بديلا.
على الأقل ثلاث منظمات مهنية، من أصل خمسة معروفة، رفضت الخطوة التشريعية الحكومية وسبق أن قدمت اقتراحاتها قبل الخطوة الحكومية، ومكونان مهنيان ممثلان بأعضاء منتخبين في المجلس المنتهية ولايته رفضا الانزياح عن الخيار الديموقراطي، ومواقفهما معلنة منذ شهور عديدة، ولكن الوزير بدل أن ينصت ويتفاعل، فضل إغلاق عقله وأبوابه، وامتطى التصعيد والهروب إلى الأمام، بل شكل تحالفا واضحا وفاضحا مع من يؤيد قراراته، واختار إبعاد ثلاث هيئات مهنية، إثنتان منها ممثلة في المجلس، وتجميع هيئتين، والتنسيق والتشاور معهما وحدهما.
هذا السلوك المتعنت من طرف الوزير بات غريبا فعلا، ويعيد التجربة المــــــغربية إلى عقود سابقة، أي إلى ما قبل أي حديث عن المقاربة التشاركية أو الحوار القطاعي أو دستور2011.
وأمام مثل هذه العقلية العتيقة والمتكلسة، يستغرب المتابعون لعدم تدخل رئيس الحكومة أو الأمانة العامة للحكومة، ولكل الإهمال واللامبالاة تجاه ما يقترفه بعض الوزراء، ووزير التواصل اليوم نموذجا، والسعي لإعادة الأمور إلى المنطق.
اليوم، وعلاوة على مستقبل المجلس الوطني للصحافة، يجري الحديث عن مناورات أخرى في منظومات الولوج إلى المهنة وشروط إنشاء المقاولة الصحفية ورقابة الاعلام الإلكتروني والدعم العمومي، وجميعها تسعى لفرض الهيمنة والتغول والإستفراد، ومن شأنها قتل تعددية الصحافة الوطنية والقضاء على الإعلام الجهوي وصحافة القرب والمقاولات الصغيرة والمتوسطة، وهذا المآل الخطير هو أكبر من رؤية قطاعية، ويتعلق بالمستقبل الديموقراطي لبلادنا، وبالتعددية السياسية والترابية وغيرها.
لماذا إذن كل هذا العمى؟ ولماذا يجري تسييج هذا النقاش بعنف لفضي مقرف وتافه؟ ولماذا تصر الحكومة على النظر فقط أسفل قدميها ولا تنظر بعيدا ولا تستحضر مصلحة البلاد ومستقبلها؟
وسواء في مهنة الصحافة وفي تمثيلية منظماتها المهنية ذات التاريخ والمصداقية أو أيضا في التاريخ السياسي العام لبلادنا، وفي الحوار بين الحكومة وقوى المعارضة، فإن للمغرب تاريخ طويل، ولشعبنا ذاكرة على هذا الصعيد، ولم تبدأ السياسة مع هذه الحكومة او مع هذا الوزير، وعلى الحكومة أن تلتفت إلى هذا التاريخ وتحسن قراءته والاستفادة منه، وعليها أيضا أن تتمعن في واقع اليوم.
يمكن للوزير ومن يؤيده أن يفصلوا مجلس الصحافة على مقاساتهم الانانية، ويمكنهم أن ينتشوا بأصوات الأغلبية في غرفتي البرلمان ويمرروا ما يريدون، ويمكن للحكومة ووزيرها، الذي لا ينصت، تمرير ما يرغبان فيه لهم ولأصحابهم عبر مراسيم أو قرارات وزارية بشأن الدعم العمومي أو المقتضيات الأخرى التي تخدم مصالحهم الريعية والذاتية….، ولكن ماذا بعد كل هذا؟ ماذا سيستفيد المغرب من كل هذا؟ هل سيتم قتل الأصوات المختلفة والمعارضة؟ وهل سنوفر لبلادنا إعلاما وطنيا جادا ومتينا وممتلكا للمصداقية والأثر والنزاهة؟ وهل سنحفظ للمغرب مكتسباته في التعددية والديموقراطية والجهوية وسوى ذلك؟
ألا تفهم حكومتنا الموقرة معنى ما تعانيه اليوم العديد من البلدان في المنطقة جراء ما يلفها من أزمات ومآسي وتراجعات؟ ألا تعي حجم المخاطر التي تواجه بلادنا جراء التقلبات الدولية والإقليمية؟ ألا تدرك أن مواجهة كل ذلك يمر عبر تقوية الجبهة الوطنية الداخلية وتعزيز الحوار السياسي والمجتمعي بين مختلف المكونات، واساسا بين الحكومة ومن يختلف معها؟ ألا تحس الحكومة الحالية أن تدبيرها وانفرادها وجمودها أضعف فعل السياسة في مجتمعنا، وأضعف دينامية الحوار السياسي والإعلامي، وصار من النادر اليوم وجود نقاش تعددي بلا سباب أو شتائم؟ ألا يوجد عقلاء ينبهون إلى أن ما يجري هو خطر على الحكومة ذاتها، وهو أساسا خطر على استقرار بلادنا ومستقبلها؟
إن ما يقترفه اليوم وزير التواصل وأسلوب تعامله تتحمل الحكومة كلها مسؤوليتهما، وهذا يجسد فقط نموذجا لما تتعرض له قوانين البلاد وأحكام دستورها من تجاوزات وابتذال وتصغير، وأيضا ما يتعرض له الحوار المجتمعي من لدن الحكومة من إضعاف وتبخيس.
الحوار هنا لا يجب أن يكون بين أقوياء وضعفاء، وإنما بين أطراف لديها إيمان جماعي راسخ بالحوار، وبضرورة خدمة مستقبل البلاد وصورتها العامة ومصلحتها العليا، وأن تحرص الحكومة ومن يختلف معها في التدبير بكل القطاعات على السعي المشترك لصيانة الاستقرار والوحدة، وتفعيل التوافقات المنتجة لبناء المستقبل.
هذا ما يغيب مثلا اليوم عن وزير التواصل ولا يريد الوعي بقيمته.
في الحاجة الى فضيلة العقل وبعد النظر.

محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

الوسوم , , ,

Related posts

Top