ألف.. باء..

مبدعون يكتبون عن الطفولة والبدايات

ما أكثر المبدعين الذين نعرفهم.. نقرأ لهم، نقرأ عنهم.. أو نلتقي بهم في محافل ومنتديات ونستمع لأحاديثهم.. ونستمتع بالجلوس والإنصات إليهم.. لكن، غالبا ما نجهل حكاياتهم الأولى وظروف نشأتهم وملابسات ارتباطهم بالثقافة والأدب والإبداع… إلا من سجل أو دون ذلك صراحة أو ضمنيا في تصريحات صحفية أو من حاول النبش في “سوابقه” الشخصية فيما يشبه السيرة الذاتية..
في هذه السلسلة اليومية التي نقترحها على قرائنا الأعزاء خلال هذا الشهر الكريم، قمنا باستكتاب بعض مبدعينا وكتابنا لاختراق مساحات الصمت وملئها بمتون سردية تحتل أحياز مشوقة للبوح والحكي.. علنا نسلط بعض الأضواء على “عتمات” كانت مضيئة في زمنها وأفرزت شخصيات وتجارب وربما نماذج يقتدي بها القراء وعشاق الأدب والإبداع..
هذه زاوية، إذن، لتوثيق لحظات استثنائية من عالم الطفولة، تتعلق بالمرور من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، عبر اللقاء الأول بعالم الكُتّاب أو المدرسة وبمختلف الحكايات المصاحبة: الدهشة الأولى في الفصل.. الانطباع الذي يخلفه المعلم أو “الفقيه” لدى التلميذ.. تهجي الحروف الأولى.. شغب الطفولة وأشكال العقاب المادية والمعنوية.. انتظار الأمهات أمام باب المدرسة.. زمن الريشة والدواة ولطخات الحبر في الأصابع وعلى الملابس والدفاتر.. مقررات الراحل بوكماخ الشهيرة، وغيرها من التفاصيل التي التقطتها تداعيات مبدعين مغاربة، والتي كانت البدايات الأولى التي قادتهم إلى ما هم عليه اليوم والتي بكل تأكيد، ستتحكم، قليلا أو كثيرا، في ما سيكونونه غدا.
إليكم بعضا مما اخترنا لكم من هذه الكتابات العاشقة..

< إعداد: زهير فخري

الحلقة 12

مع الناقد الأدبي حسن المودن

حكاية الصياد والأرنب

1
لا يحضرني الكثير عن بداياتي في المدرسة.
لم أكن أحبّ المدرسة.
لا أتذكّر شيئا عن اليوم الأول والأيام الأولى.
ذكرياتي عن قسم التحضيري قليلة.
أوضح صورة في ذهني الآن هي هروبي من المدرسة.
أخرج في الصباح الباكر من البيت
أمي تعتقد أني ذاهب إلى المدرسة
ألعب وسط الحقول، أو في ظل تلك الشجرة العظيمة، شجرة الخرّوب تلك،
وأعود مع أقراني إلى البيت، كأني كنت معهم بالمدرسة..
أمّي وعمّي يطارداني وسط حقول البلدة. السنابل عالية لكنها شديدة الاخضرار. يمسك بي عمّي ويحملني إلى المدرسة. أدخل القسم. أجد الأطفال يقرؤون حكاية الصياد والأرنب. وشعرت كأن هذه الحكاية حكايتي.
الدوار الذي نسكن به وقتئذ كان بعيدا عن المدرسة، ويفصلها عنه واد لا يقلّ خطورة، وخاصة في فصل الأمطار والثلوج. في ذلك الوقت، كان الثلج يسقط كثيرا في بلدتي التي توجد بأعالي جبال حاحا.

ماذا درستم اليوم؟ أرني دفاترك؟
أسئلة أبي تحاصرني
والدي، ابن البلدة، وأحد أبنائها الأوائل الذين تخرّجوا من المدرسة العصرية واشتغلوا في وظائف متنوعة ببلدتهم نفسها، يشتغل معلّما بمدرسة فرعية بعيدة قليلا من البلدة. يأتي متأخرا في المساء. أتذكّر أن عقابه لي كان قاسيا لما علم بغيابي وهروبي من المدرسة.
والدتي تعلّمت القليل المفيد في المدرسة الفرنسية. وكنت ابنها البكر. كانت صارمة معي في أمور المدرسة. ظلّت تطاردني وتحاصرني إلى أن كففت عن الهروب والغياب. وكانت هي التي تراجع معي ليلا دروسي في المنزل، وخاصة في السنوات الأولى.
2
لم أعد أتغيّب بعد أن صار والدي يعمل بالمدرسة التي أدرس بها. ومع ذلك، ازداد كرهي للمدرسة في القسم الثالث. معلم الفرنسية كان قاسيا وعنيفا. بأداة حديدية كان يضربنا فوق رؤوسنا إن لم نحسن نطق الكلمة الفرنسية. لم يكن والدي يتدخل. وكان المعلمون أشدّ قساوة وأكثر صرامة مع أبناء المعلمين والموظفين.
في قسم المتوسط الأول، جاء معلمون جدد وشباب، من البيضاء وآسفي. لهم طريقة جديدة في التعليم. أكثر انفتاحا على التلاميذ. علّمونا رياضات مختلفة. وفتحوا أعيننا على شيء اسمه الأنشطة الموازية، فتدربنا على فنون المسرح والموسيقى والغناء.
لم أتمكّن من الحصول على الشهادة الابتدائية. وقتئذ كان الآباء يصاحبون أبناءهم إلى مدينة الصويرة لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائية.
بعد رسوبي، وفي سنتي الثانية بقسم الشهادة الابتدائية، تغيّرت علاقتي بالمدرسة. يعود الفضل في ذلك إلى معلمين جدد التحقوا تلك السنة بالمدرسة. أهمهم الحاج أحمد، وهو من أبناء البلدة، تعلم في معاهد التعليم الأصيل، متمكّن من اللغة العربية وعلومها وتراثها، له طريقة خاصة في التربية والتعليم. معه أحببنا أن نتعلم، فتح أعين الصغار على كنوز اللغة العربية، معه صرنا ندرك بلاغة العربية وسحرها، … يشرح الأشعار والقصص والسور القرآنية بطريقة تجعلنا نقترب من كلّ ذلك السحر الذي للغة، من كلّ تلك القدرات التي لها في الإقناع والإمتاع، مع الحاج أحمد أدركنا أن بلوغ أسرار اللغة يقتضي كفايات واسعة ومعمّقة.
إجمالا، هو يجمع إلى أصالته انفتاحا على الجديد في الآداب العربية، وروحا إبداعية جعلته محبوبا وسط تلامذته. يملك مكتبة غنية، وفيها اكتشفنا كنوز التراث: الجاحظ وابن المقفع وبديع الزمان الهمداني وابن خلدون، واكتشفنا رواد الأدب الحديث: طه حسين والعقاد وجبران وميخائيل نعيمة في الأدب الحديث. وكان يمدّنا بالعديد من الموسوعات العلمية والمعرفية. وكان هناك معلم آخر متمرّد، يقول لنا كلاما يبدو لنا كبيرا وخطيرا، يطلعنا على حقوقنا المهضومة وأحلامنا المغتصبة. ذات مساء اختطفته سيارة سوداء من البلدة.
لم نكن نكتفي بدروس القسم، بل كنّا نبحث عن منافذ أخرى للتعليم والتثقيف والتكوين. هكذا بدأنا منذ رسوبنا في قسم الشهادة، وبقينا أنا وإبراهيم ومحمد وآخرين.. على تلك الحال في سنوات الإعدادي، نقرأ كثيرا وبلغات مختلفة وفي مجالات متنوعة.. نعلق على كتب الفكر والنقد ونناقش أفكارها، ونكتب محاولات في الشعر والقصة مفتونين ببلاغة اللغة وسحر الكتابة.

3
حصلت على الشهادة الابتدائية، وانتقلت عائلتي للسكن في حيّ الموظفين بمركز البلدة، ووجدت في مكتبات أصدقاء والدي من المعلمين والموظفين ما فتح شهيتي للقراءة والمطالعة. لم يعد المعلمون والموظفون اليوم كما كانوا بالأمس. يملك أبي مكتبة صغيرة، أغلب كتبها ومجلاتها باللغة الفرنسية. قرأت أغلب ما فيها. وبدأت أستعير الكتب من أصدقائه: هذا موظف في الفلاحة يمدّني بروايات فرنسية، في كل مرة يقول لي لابد أن تعيد قراءة جرمنال لإميل زولا، وهذا موظف في البريد لا يملك في مكتبته إلا الروايات البوليسية، ويجعلك تكتشف متعة القراءة في هذا النوع من الأدب، وهذا معلم يمدّك بكتاب البيان والتبيين والبخلاء وكليلة ودمنة، وهذا معلم جعلنا نقرأ روايات نجيب محفوظ، ومعلم آخر أغرقني بأعداد مجلة العربي، وهذا ممرّض يتحدث عن آداب وفنون جديدة، ويمارس الحياة على طريقة النصارى الهيبيين، وحديثه عن الإنسان والحياة والوجود مليء بالألغاز والأفكار الجديدة، وهذا موظف بالجماعة القروية يهديني كل مرة مجلات في السياسة، وزميله الجديد يدرس بالجامعة، ويتحدث عن شيء اسمه الفلسفة، ويذكر أسماء لم نسمعها من قبل: ماركس، هيجل، سارتر… أشياء لم نكن نفهمها.
كنّا نفهم شيئا واحدا: يحتاج العلم والتعلم إلى الكثير من الصبر والعمل والتفرّغ.

4
دخلت الجامع في سنّ الخامسة من عمري، كان قريبا من بيتنا. وفي سنّ الثانية عشرة غادرت الجامع نهائيا.
نحفظ القرآن على الألواح. ونستظهره أمام الفقيه. ومن لم يتمكّن من حفظ لوحه، كانت العصا في انتظاره. حضرت جلسات عقاب قاسية. وكنت ضحيتها أكثر من مرة، أخطرها كان في قسم المتوسط الثاني. دخل الفقيه، ووجدني أنا وطفل آخر اسمه سعيد، نلعب بالكريّات الزجاجية، أمر الكبار بتحميلنا، وصبّ غضبه وساديته في أجسادنا الصغيرة، وكادت الأمور تصل إلى المحاكم، لولا تدخّل الناس.
كان هناك من أبناء البلدة من رفض المدرسة. وأتمّ تعليمه في المدرسة الدينية العتيقة بالبلدة، ومنهم من قصد سوس لإتمام تعليمه الديني في الزوايا والمدارس الدينية أو في معهد تارودانت للتعليم الأصيل. لم نكن نحبّ حفظ ألواح القرآن، لكننا كنّا نتطلع إلى ما يكتبه الفقهاء في الخفاء. نتطلع إلى تلك الكتابات السرية. الكتابة والسحر شيئان لا يفترقان. هكذا الأمر في بلدتي، على الأقل في ما مضى من الأيام.
منذ طفولتي، ترسّخ في لاشعوري أن للكتابة سحرا خاصّا ومفعولا خطيرا، وأنها ليست عملا عاديا، وأنها ممارسة يلفّها الكثير من اللغز والغموض، وتقتضي مجموعة من الطقوس والشعائر.
صغارا كنّا نسمع الآباء أو الأمهات يتحدثون عن فلان الفقيه الذي يكتب كتابة جيدة، كتابة تطرد الأمراض والشرور من أجساد الصغار وأرواحهم. وكنّا نسمع الشباب يتحدثون عن الفقيه فلان الذي استطاع بكتاباته أن يستميل لأحد الشباب قلب حسناء استعصى عليه بالوسائل الطبيعية.
صغارا كنّا نحاول أن نعرف ما معنى أن يكتب الفقيه. ما معنى هذه الممارسة السرية التي لا يمارسها إلا بعض الناس؟ هناك هذا الفقيه الذي يأتي في أزهى ثيابه، يتوضأ فيصلي ركعتين، ثم يبدأ في كتابة تميمة الشفاء من المرض، متمتما ببعض الكلمات المبهمة، حريصا على أن لا نقرأ ما يكتبه، يطوي التميمة، ويطلب أن يعلقها المريض في عنقه لأيام، قبل أن تحرق في مجمر من البخور يحددها هو نفسه. وهناك هذا الفقيه الذي يختلي داخل غرفته بالمسجد بعد أن يتوضأ، ويغلق عليه الباب، ويخرج بتميمة العشق، ويوصي بعدم قراءتها، وصيام ثلاثة أيام عن الطعام والكلام، قبل وضع التميمة على باب البيت الذي تسكنه حسناؤك المتمنعة.
أولئك الذين كانوا أصدقائي في الجامع، واختاروا المدارس الدينية بدل المدارس العصرية أغلبهم اليوم في أحسن حال. كتاباتهم جعلتهم يملكون المشاريع التجارية والفيلات والسيارات ذات الدفع الرباعي بالمدن الكبرى. يكتبون تميمة القبول بالشيء الفلاني، وزبائنهم هم الأطر العليا في الدولة، ويكتبون أشياء غريبة وبأثمنة خيالية لأثرياء الخليج العربي. وعلى أيديهم تحلّ الكثير من المشاكل العاطفية والاجتماعية للنساء والفتيات والفتيان من الطبقة العليا في المجتمع.
في البلدة، الكتّاب الحقيقيون هم أبناء الزاوية الذين هاجروا إلى الرباط والبيضاء، وبفضل تمائمهم وكتاباتهم أصبحوا من الأغنياء ومن علية القوم. صديقك الذي درست معه بالجامع أصبح له في الدار البيضاء شأن وشؤون. سيارة الكات الكات والفيلا والفلوس الكثيرة والمشاريع المتنوعة. صديقك يكتب كتابة لا تقاوم. يقصده الأغنياء من الرجال والنساء والتجار ورجال الأعمال والوزراء وكبار القوم.. يكتب لهم كتابات تحرسهم وتمنع عنهم شرور الآخرين، وتجعلهم مقبولين عند رؤسائهم وكبارهم. أما أنت يا سي حسن، فإنك متعلق بهذه الكتابة التي لا تجلب إلا الهمّ والغمّ والفقر. هكذا يقال لي في أكثر من مرّة.

الوسوم ,

Related posts

Top