إمارة المؤمنين.. حرص على مسار تشاوري لأحكام مدونة الأسرة يضمن تطلعات وانتظارات المواطنين

الحقيقة التي جاء بها البلاغ الصادر عن الديوان الملكي، ورسالة جلالة الملك التوجيهية باعتباره رئيس المجلس العلمي الأعلى، إلى باقي أعضائه الأفاضل، المجلس العلمي الأعلى المؤسسة الدستورية الوحيدة التي يرجع لها حق الاختصاص بالإفتاء في المسائل الدينية .

أقول هي، حقيقة لا يمكن تجاهلها من الذين اختاروا الهجوم على الدولة، بسبب تعديل مدونة الأسرة، مند صدور أول بلاغ بالتعديل والذي تم التأكيد في مقدمته أن الرسالة الموجهة إلى رئيس الحكومة، قد صدرت عن جلالة الملك، محمد السادس نصره الله وأيده، بصفته أميرا للمؤمنين، أي بصفته الدينية، وليس بصفته السياسية فقط. وهذا ما يجعل بلاغ اليوم تأكيد للبعد الدستوري لإمارة المؤمنين   والتي وإن كانت تعنى بالشعور الديني للأمة ورعايته، فإن ذلك لا يعني انفصالها التام عن التدبير السياسي الذي يساهم به الملك كرئيس للدولة.

أمر يجعل ذلك التشويش الذي صاحب حوار إصلاح مدونة الأسرة، والذي تعمده البعض باسم الغيرة والوصاية على الدين، ومن قبيل نشر الفتنة، وهو ابتزاز سياسي مرفوض، خاصة أن الرسالة الملكية سبق أن رسمت للجنة المشرفة على عملية التعديل خارطة طريق واضحة المعالم.

خارطة تقتضي أن يتم “إعداد هذا الإصلاح الهام، بشكل جماعي ومشترك بين كل من وزارة العدل، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة”، بوصفها المؤسسات المعنية دستوريا بكل ما هو قانوني.

بل إن الرسالة الملكية السامية قد أكدت كذلك على ضرورة إنجاز هذا الإصلاح من خلال “الإشراك الوثيق للهيئات الأخرى المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين”، قبل أن تقوم الحكومة، حسب خارطة الطريق الملكية، على “صياغة مشروع قانون، وعرضه على البرلمان للمصادقة”.

وباستقراء بلاغ اليوم، نجده تأكيدا لمضمون الرسالة الملكية السامية، التي أعطت الضوء الأخضر لفتح نقاش عمومي، وفي إطار إعمال المبدأ الدستوري المجسد للديمقراطية التشاركية، في كل إصلاح قانوني يهم المجتمع المغربي .

جلالة الملك، وبصفته أمير المؤمنين ورئيس الدولة، ركز على نقطتين أساسيتين في توجيهاته السامية في شأن إصلاح مدونة الأسرة، فالنقطة الأولى تتعلق بإضفاء الطابع الديني على عملية الإصلاح، وذلك من خلال صدور الأمر بوصف جلالته أميرا للمؤمنين وهنا وفي حالة قيام خلاف شرعي يتطلب التمحيص الشرعي فإن الملك يرجع فيه إلى أهل الحل والعقد وهم العلماء بإسناد قاعدة الاختصاص للنظر فيه إلى المجلس العلمي الأعلى كمؤسسة دستورية، يرأسها جلالته وقراراته تصدر بإجماع علماء الأمة، في إطار الاجتهاد المعتدل والمساير للنوازل المستجدة بالمجتمع المغربي، كمجتمع حداثي ومتطور يجمع ما بين الحفاظ على أصالته ومتغيرات عصره دون المساس بالخصوصيات الدينية للمغاربة.

أما المسألة الثانية والتي يحملها بلاغ القصور الملكية للمجلس العلمي الأعلى، تتجلى في حرص جلالته على تعزيز الرصيد الذي راكمته بلادنا على مستوى المكتسبات الحقوقية للمرأة المغربية، في إطار خيار المسار الحداثي والديمقراطي الذي تبنته بلادنا منذ عقود؛ وهي دعوة إلى التوفيق ما بين مبدأ إمارة المؤمنين الأساس الشرعي إلى جانب البيعة التي يقوم عليها النظام السياسي المغربي وما بين وظيفة الملك السياسية كرئيس للدولة المغربية كدولة حديثة دستورية وديمقراطية تحترم حقوق الإنسان في شموليتها وكما هو متعارف عليه دوليا.

وختاما يأتي بلاغ القصور الملكية بعد انتهاء الهيئة المكلفة بمراجعة المدونة من مهامها داخل الأجل المحدد لها، ورفع مقترحاتها للملك والذي اقتضى، بالنظر لتعلق بعض المقترحات بنصوص دينية، إحالة الأمر إلى المجلس العلمي الأعلى، الذي جعل منه الفصل 41 من الدستور، الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا… هذا البلاغ يعتبر في عمقه تجسيدا للدور الدستوري للمجلس العلمي الأعلى ولمبدأ إمارة المؤمنين والبحث عن ذلك التوافق بين أهل العقل وأهل النقل في الوصول إلى حلول عملية للنوازل الشرعية مع مراعاة تطور المجتمع بما يضمن دور العلماء أهل الحل والعقد في ملامسة هذا الواقع مع الاجتهاد المعتدل والمنفتح ودور المجتمع المدني وهيئاته في المشاركة الفعالة في إصلاح مدونة الأسرة .

بقلم: الحسين بكار السباعي

محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان

Top