الحكومة لا تتواصل ومهام تأطير نقاش “مدونة الأسرة” يجب أن تسند لأهل الاختصاص

في تدوينة لرشيد حموني عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ورئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب

نبه رشيد حموني عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشترامية ورئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب إلى خطورة على انتشارالمعالجات التسطيحية حول مراجعة مدونة الأسرة والتي تنطوي على مغالطات وتحريفات واختزالات، موضحا أن هذه الآفة الحقيقية تعود إلى عاملين أساسيين، أولهما مرتبط بالنزيف الذي أضعف الوسائط المجتمعية، وإلى أسلوب الحكومة في التواصل إذ اكتفت لحد الآن بخرجات جد محدودة أضفت على الأمر غموضا والتباسا. فيما يلي النص الكامل للتدوينة:

تعج، هذه الأيام، مواقع التواصل الاجتماعي بآلاف التدوينات والفيديوهات والتعليقات، تفاعلا مع المقترحات المعلن عنها رسميا لإصلاح مدونة الأسرة.
طبعاً، لا يمكنُ لأيِّ ديموقراطي سوى أن يكون سعيداً بالنقاش المجتمعي حول القضايا المجتمعية الجوهرية، بما فيها مدونة الأسرة، باعتبارها نصاًّ تشريعيا يهمُّ كل أفراد المجتمع.
في نفس الوقت، لا يمكنُ لأيِّ ديموقراطي سوى أن يكون قَلِقاً إزاء التطاول العلمي وإزاء “التشيار” الذي تتسمُ به بعضُ المنشورات (السمعية أو البصرية) عبر الأنترنيت حول موضوعٍ أساسي ودقيق كمدونة الأسرة، حيثُ يَـــخبطُ البعضُ خبطَ عشواء، دون تمحيصٍ ولا دراسةٍ ولا كفاءةٍ، بينما يتطلبُ الخوضُ في هكذا مواضيع التمكُّنُ المنهجي، فضلاً عن التمكُّن الموضوعي، على الأقل من أحد تخصُّصاتِ القانون أو علم الاجتماع أو العلوم الشرعية أو العلوم والخبرة السياسيتيْن أو غير ذلك من الحقول المعرفية والعملية ذات الصلة.
الخطيرُ في المسألة أنَّ المعالجات التسطيحية وتلك التي تنطوي على مغالطاتٍ وتحريفاتٍ واختزالات هي أكثرُ انتشاراً وأكثرُ التقاطاً وأكثرُ تأثيراً لدى العموم من التناول العقلاني والعلمي المستنِد إلى المعرفة.
هذه الآفة الحقيقية تَعودُ إلى عامليْن أساسيين: الأول هو النزيف الذي أضْعَفَ الوسائط المجتمعية، من أحزاب وجمعيات ونقابات ومنظمات، بما جعلَ ارتباط المجتمع بها باهتاً، للأسف، وبما جعل خطابَها صعبَ الوصول إلى أوسع الفئات.
وأما السببُ الثاني فيعودُ إلى “نصف التواصل” أو “التواصل الأعرج” الذي انتهجته الحكومةُ في هذا الموضوع الحسَّاس، حيث لحد الآن اكتفت الحكومة بخرجاتٍ جد محدودة أضفت على الأمر غموضاً والتباساً، ولم تعمل كما ينبغي على التفسير الجيد والدقيق والمبسَّط (وليس التبسيطي) للمقترحات المنبثقة عن المسار التشاوري الذي كان متميزاً. وكان بالأحرى على الحكومة أن تُنَوِّعَ أشكال التواصل ولُغاته وحوامله، حتى تُقَرِّبَ جميع المغاربة من المضامين الحقيقية للخطوط العريضة للتعديلات المقترحة، وأسبابِ نُزولها وأثرِهَا عمليا في الميدان، وبأمثلةٍ حيَّة من الواقع المعاش، تفاديا لكلِّ نقاشاتٍ مغلوطة أو مغالِطَة أو تضليلية، وعددٌ منها ليس همُّهُ سوى خلق “البوز”.
أمرٌ أساسي ينبغي التأكيدُ عليه، وهو أنَّ هذا الموضوع المجتمعي يحظى بإشرافٍ مباشر ودقيق من جلالة الملك، أمير المؤمنين والضامن لحقوق وحريات المواطنين، بدءاً بخطاب العرش في يوليوز 2022، ومروراً بالرسالة الملكية السامية الموجهة إلى السيد رئيس الحكومة في شتنبر 2023، ووصولاً إلى جلسة العمل التي ترأسها جلالته في 23 دجنبر 2024، والتي تأطرت بالدور التحكيمي والتوجيهي السامي لجلالة الملك حفظه الله، وتبيَّنت فيها المعالمُ التحديثية، بشكلٍ مستحسن ومتزن ومتوازن، لعمل الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، كما تَــــــبَــــيَّـــــنَ فيها الدورُ الكبير للمجلس العلمي الأعلى.
إنَّـــها كلها محطاتٌ تؤكد أنَّ مراجعة مدونة الأسرة تجري في إطار ثوابت ومرتكزات الأمة المغربية، الدستورية والحقوقية والدينية، بعيداً عن تحليل أي حرام أو تحريم أي حلال؛ ووفق منطق التشاور ومنهجية الإنصات والإشراك وفلسفة الاجتهاد المنفتح؛ وبأُفُقٍ يَصُونُ مكانةَ كافة مكونات الأسرة المغربية (الطفل والمرأة والرجل)، وينهض بالمساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات في إطار مبادئ العدل والتضامن والانسجام.
أعتقد، الآن، أنه حان الوقت للعودة إلى العقل والنقاش الهادئ والمستند إلى نصٍّ تشريعي واضح ودقيق من واجب الحكومة إخراجُهُ على وجه السرعة (وليس التسرُّع). كما حان الوقتُ ليُمسِكَ أهلُ العلم والخبرة والكفاءة والاختصاص، من جميع المشارب والتخصصات، بزمام المبادرة إلى قيادة وتأطير النقاش العمومي، من خلال الشرح والتفسير، وحتى الاختلاف، لكن في إطار مبدأ مصلحة المجتمع وأفراده، بعيداً عن المشاحنات والتقاطُبات والمزايدات السياسية التي لا معنى لها طالما أنَّ ضوابط إجراءِ هذا الإصلاح مضمونة ومتفق عليها.
أخيراً، إنَّ هذا التمرين المجتمعي الجديد يبرهن، مرة أخرى، على أنَّ مسارَ إقرار المساواة لا يمكن اختزالُهُ في فضاء التشريع القانوني فقط. فمعركة إقرار المساواة لا يمكن عزلها عن باقي معاركنا، كمجتمع، من أجل توطيد الثقافة الديموقراطية والحقوقية في أوساط عموم المجتمع وفي أوساط النُّخب كذلك؛ ومن أجل الارتقاء بمجتمع العِلم والمعرفة والتفكير العقلاني، الخالي من الأمية بجميع أنواعها؛ ومن أجل النهوض بالفضاء السياسي…. وإعادة الاعتبار إليه.

Top